أحمد جبريل رجل مطلوب. لم تغفر له اسرائىل، انه مهندس اول عملية استشهادية على ارض فلسطين ولم تغفر له اشياء كثيرة لاحقة. حاول جهاز "الموساد" خطفه فلم ينجح وحاول اغتياله ولم يوفق. وهو مطلوب ايضاً من بعض العواصم الغربية التي تتهمه بالوقوف وراء انفجار لوكربي. ولدى اجهزة هذه الدول الكثير لتسأله عنه، خصوصاً علاقته مع ليبيا وايران. وعلى الساحة الفلسطينية بين جبريل وياسر عرفات ود مفقود منذ البداية تحول عداء مستفحلاً بين اسلوبين ورجلين. كلما اطل احمد جبريل، الامين العام ل"الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، كان لإطلالته دوي في العواصم القريبة والبعيدة. اذا قال انه يفتح الاذاعة "لتسقط اخبار الاسلامبولي الفلسطيني" قالوا انه ارسل مجموعات لاغتيال عرفات. واذا اطلق تهديداً من ارض لبنان عرف الجميع ان الجنوب مقبل على اشتعال. وقصة الدوي ليست غريبة، فهذا القائد الفلسطيني خبير في المتفجرات والألغام ومواقفه وتصريحاته تشبه هي الاخرى العبوات الناسفة. أسئلة كثيرة تطرح نفسها كلما ذكر اسم احمد جبريل. اين كان في محطات الثورة بدءاً من معركة الكرامة ووصولاً الى اليوم ومروراً بأحداث عمان في 1970 والغزو الاسرائىلي للبنان في 1982؟ وماذا فعل؟ ما قصة علاقته الراسخة مع دمشق وعلاقته الوطيدة مع طرابلس الغرب وعلاقته الحميمة مع طهران؟ ما هي علاقته بلوكربي وهل كانت له علاقة مع كارلوس و"أبو نضال"؟ هل نفذ هجمات في الخارج وهل شارك في اغتيالات او في احتجاز رهائن غربيين؟ احمد جبريل مطلوب من جهات كثيرة ولهذا تحول الى مطلوب من "الوسط" التي سألته عن كل شيء، ورد بكشف سلسلة من المواقف والادوار والاحداث الامنية. وهنا الحلقة الاولى: متى بدأت علاقتكم مع ايران؟ - عندما بدأت الثورة الشعبية التي قادها الإمام الخميني في مواجهة الشاه كنا منحازين تماماً الى جانب الشعب الايراني. كنا نكره الشاه ونعتبره متآمراً على القضايا العربية والاسلامية. ومنذ منتصف السبعينات كنا على اتصال مع فصائل واحزاب ايرانية معارضة له. كنا ندربهم ونقدم اليهم بعض التسهيلات اللوجستية ولا سيما منها الاتصالات اللاسلكية. اين دربتموهم؟ في جنوب لبنان؟ - في اماكن مختلفة. كان همنا ان يسقط الشاه. هذه الفصائل كان يسارية او يسارية مسلمة او مسلمة. لا اريد الخوض في بعض التفاصيل. وعندما انتصر الإمام الخميني والثورة في 1979 اعتبرت شخصياً ان الله رزقنا حليفاً عوضنا خسارتنا لمصر انور السادات. ومنذ اليوم الاول لانتصار الثورة الاسلامية وقفنا الى جانبها. وعندما بدأت العلاقة تتأزم بينها وبين العراق حاولنا بشتى الوسائل ان ننصح اخواننا في العراق بعدم اللجوء الى اسلوب استفزاز الثورة الاسلامية في ايران او ايجاد الصعوبات في وجهها. وأذكر انني قلت في احد اللقاءات الرسمية مع الرئىس صدام حسين ان العراق بات في استطاعته ان يتفرغ اليوم للتوجه غرباً، لأن الشاه انتهى في شرق العراق، والآن يجب ان يتحول ثقلكم في اتجاه فلسطين. كان ذلك في 1980. وحتى بعد بدء الاستفزازات بذلنا جهوداً لوقف التدهور. وعندما بدأت الحرب كان لنا موقف صريح من النظام في العراق، وهو ان هذه الحرب خاسرة حتى ولو انتصر العراق. وفيها خسارة للعرب وللمسلمين. وكنا نبلِّغ وجهة نظرنا هذه الى من التقيناهم من المسؤولين العراقيين ولم نقبل بالتبريرات التي كانوا يقدمونها من اجل متابعة هذه الحرب. كنا نقول لهم هذه لعبة استعمارية وبمؤونة من بعض الدول وغايتها في النهاية الا تنتصروا انتم على ايران وألا تنتصر ايران عليكم، بل ان يهزم الطرفان وتستنزف قواهما خدمة لمصالح آخرين. ثم بدأنا نصعّد موقفنا في وجه النظام في بغداد لمصلحة الثورة الاسلامية، خصوصاً ان هذه الثورة تطرح شعارات واضحة عن القضية الفلسطينية والصراع بين المسلمين والصهاينة. الخميني وخامنئي ورفسنجاني هل التقيت الإمام الخميني؟ - نعم التقيته قبل رحيله بفترة قصيرة جداً، وكان لقاء بروتوكولياً لأن ظروفه الصحية لم تكن تسمح بأكثر. مع من العلاقة في ايران؟ - هذه العلاقة لم تكن مع جهاز معين في الثورة الاسلامية بل مع حراس الثورة ورئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية. ونحن نفتخر بأن ظننا لم يخب في قادة الثورة الاسلامية، لأنهم، منذ عرفناهم حتى الآن، لم يغيروا خطابهم السياسي عن القضية الفلسطينية والصراع بيننا وبين الصهيونية. لم يغيروا قيد انملة. كانت العلاقة منذ البدء علاقة سياسية، ونحن نفتش دائماً في العلاقات عن القاسم السياسي المشترك. نحن كتنظيم لا نبحث عن الامكانات قبل الفهم السياسي المشترك. أنتم تعرفون ان حرباً ظالمة فرضت على الجمهورية الاسلامية لمدة ثماني سنوات واستنزفت الكثير من قدراتها. وبعد الحرب تعرضت هذه الجمهورية لحصار من جانب الولايات المتحدة ودول اخرى كثيرة وهو لا يزال مستمراً. وتمر الجمهورية الاسلامية اليوم بأزمات اقتصادية خانقة. لذلك لم يكن مقياس العلاقة يوماً ما يستطيعون تقديمه الينا من امكانات مادية. على رغم ذلك حاولوا مراراً ان يقدموا الينا بعض المساعدات المحدودة، خصوصاً في محاولة تبني اسر الشهداء. ونثق بأنهم لن يقصروا عندما يكسر الحصار ويتحسن الوضع الاقتصادي. نحن نلتقي مع القادة المسلمين في ايران على كل المستويات. وهناك معرفة شخصية وحميمة مع السيد علي خامنئي مرشد الثورة وأيضاً مع رئىس الجمهورية هاشمي رفسنجاني ومع وزير الخارجية علي أكبر ولايتي ومع قائد الحرس العماد محسن رضائي ومع كثيرين غيرهم. هل كانت هذه العلاقة الطريق الى التنسيق الميداني مع "حماس" و"حزب الله"؟ - لا شك في ان العلاقة بيننا وبين الجمهورية الاسلامية في ايران قربت بيننا وبين "حزب الله" وفعّلت هذه العلاقة. هل شاركتم في تدريب عناصر "حزب الله"؟ - لا. "حزب الله" لا يحتاج منا الى تدريب، لكننا نشارك معاً في العمليات القتالية والعدو يعرف ذلك. نحن في الجبهة نشعر، من خلال تحالفاتنا مع الجماهيرية الليبية والجمهورية الاسلامية وسورية وبعض الفصائل الفلسطينية المجاهدة مثل "حماس" و"الجهاد" ومع "حزب الله"، نشعر بأن قواسم سياسية كبيرة جداً تجمع بيننا. هناك تزايد واضح للمفردات الاسلامية في طرحكم السياسي؟ - نحن نواجه عدواً يرفع في وجهنا كتباً دينية مزورة، وكلينتون وقبله بوش وريغان وكارتر يفتخرون، عندما يقدمون المساعدة الى الكيان الصهيوني، بأنهم ينفذون الوصايا الواردة في هذه الكتب مساندة للكيان الصهيوني، أمام هذه المعادلة والتحالف بين الادارة الاميركية واليهود والصهاينة والقول ان ما يوحد مشاعرهم هو الكتب التي اشرت اليها، لماذا تستهجن الناس حين نقول ان بيننا وبين الايرانيين وغير الايرانيين القرآن كتاب الله؟ اي نوع من الكتب تقرأ؟ - لم اترك كتاباً من كتب التاريخ الا وقرأته، ما يتعلق منها بالحضارة القديمة ووصولاً الى يومنا الحاضر. اقرأ كتب التاريخ بشغف على رغم ظروفي الصعبة لجهة توزيع الوقت. وكذلك الامر بالنسبة الى الكتب السياسية وهي غير محصورة بمشكلة الشرق الاوسط وحدها. هل كانت لك علاقات مع السوفيات؟ - لم تكن متينة. ومع كوبا؟ - الامر نفسه. كنا ننظر اليهم معسكراً صديقاً يجب تعزيزه في مواجهة الامبريالية، لكنني لم اعتنق الماركسية او اللينينية في يوم من الايام؟ السجن في سورية هل دخلت السجن؟ - مرات عدة، خصوصاً في سورية. العلاقة مع سورية من ثوابت سياستكم؟ - نحن علاقتنا في سورية لا ترجع الى كوننا فلسطينيين مقيمين في سورية. لو كنت أنا فلسطينياً مقيماً في أي مكان يجب ان أبحث عن الجغرافيا السياسية التي تمكنني من متابعة النضال. نحن منذ اكثر من 35 سنة كنا نعرف ان سورية بشعبها الواعي المتعلق بالقضية الفلسطينية هي الموئل لنا لأننا في الاساس كنا نطرح اننا لسنا اولاد سايكس - بيكو. كنا نعتبر اننا بلاد الشام والهلال الخصيب وحدة واحدة. وكنا نرفض هذا الامر حتى في أدبياتنا. وكنا نعوّل على سورية لمكانتها التاريخية الماضية والحاضرة، وليس عبثاً حين اخاطب الآلاف من شعبنا في مهرجانات كبيرة او في مقابلات صحافية، رداً على تساؤلات هل ستفرط القيادة السورية بقضية فلسطينية وستطبع علاقاتها مع اسرائيل في صفقة، وأقول ان الرئيس حافظ الأسد الذي اعرفه منذ 30 عاماً مثقل بتاريخ سورية القديم والحديث. متى دخلت السجون في سورية؟ - في مرحلة الانفصال وفي مرحلة البعث الأولى. ولادة القيادة العامة كيف خرجت من عمان بعد احداث 1970؟ - دخلنا الأردن بعد الهزيمة في 1967 وبعد تسليم الضفة الغربية من دون قتال. كان همّ النظام الأردني منعنا من الدخول من سورية الى الاردن. وعلى رغم اجواء الهزيمة التي كانت مسيطرة كانت اجهزة الأمن الأردنية منتشرة على الحدود مع سورية بكثافة لمنع دخول الفدائيين ولا تتردد في اعتقالهم او اطلاق النار عليهم. بعد احتلال فلسطين بكاملها كان لدينا اصرار كامل على الدخول الى الأردن وساعدنا في هذا الدخول وجود قوات عراقية مرابطة هناك. وتنامى وجود الفدائيين في ظل مواجهة مع النظام وأجهزته. وجرت محاولات عدة لإنهاء وجودنا. كان عدد الفصائل قليلاً آنذاك. كانت هناك "فتح" وألغت حركة القوميين العرب اسمها وألغينا نحن اسمنا "جبهة التحرير الفلسطينية" وكذلك "منظمة ابطال العودة"، ألغينا الثلاثة وشكلنا "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". بقيادة من كانت "الجبهة الشعبية"؟ - شكلنا قيادة نصفها من عندنا ونصفها الآخر من حركة القوميين العرب، وكان هناك امين سر يتسلم بالتناوب. كنا انا وجورج حبش ووديع حداد. اما نايف حواتمة فلم يكن في مركز قيادي. وكان حمد الفرحان ايضاً. وكنت انا المسؤول العسكري للجبهة. كنا نتبادل الأدوار، ولم يكن المنتمون الى حركة القوميين العرب ملمين بالشؤون العسكرية، كونها حركة سياسية، لذلك تولوا النشاط السياسي والإعلامي واهتممنا نحن بالعمل العسكري. لم تكن جزءاً من حركة القوميين العرب؟ - لا، لم أكن يوماً فيها. عرفات يدعم حواتمة وماذا عن ولادة "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"؟ - بعد سنة من قيام "الجبهة الشعبية" حدثت خلافات. دخل جورج حبش السجن في سورية مما ضعضع جناح حركة القوميين العرب في "الجبهة الشعبية". ثم بدأت داخل حركة القوميين العرب صراعات بين اليمين واليسار وتبلور لاحقاً تيار نايف حواتمة و"الجبهة الديموقراطية" في موازاة تيار مثَّله وديع حداد وبعض القيادات الأخرى. وأصدروا في تلك المرحلة، لأنهم كانوا مكلفين النشاط السياسي والإعلامي، بعض البيانات السياسية التي لم نكن متفقين عليها في خطنا كجبهة. وصدر بيان يهاجم عبدالناصر ونحن كان رأينا ان اميركا وإسرائيل وقوى اخرى تعمدت إلحاق الهزيمة بعبدالناصر بعد حرب اليمن. واعتبرنا نحن ان مثل هذا الهجوم على عبدالناصر مضر لصمودنا. الاتفاق الأساسي كان بيننا وبين جورج حبش وغاب حبش لوجوده في السجن وحصل التجاذب بين يمين ويسار وجاءت قصة البيانات. هنا أقول إنصافاً للحقيقة ان ياسر عرفات لعب دوراً كبيراً في تأجيج الصراع بين اليسار ممثلاً بحواتمة وبقية حركة القوميين العرب. عرفات قدم المساعدات والتسهيلات المالية واللوجستية لضرب حركة القوميين العرب وضمان انفصال الديموقراطية. اي انه دعم نايف حواتمة دعماً مطلقاً. بالنسبة إلينا، تم الطلاق بهدوء ومن دون ضجيج او مشاكل. اجتمعنا في عمان وحضرت القيادة المشتركة وقلنا لهم اننا لم نعد نستطيع تحمل المشاركة معكم للأسباب الآتية: مشاكلكم الداخلية تنعكس على مسيرتنا، نحن نقوم بالعمل العسكري ونتحمل مسؤولية الدم وأنتم تجمعون المساعدات ولا تقدمون الى العمل العسكري الدعم المطلوب. ثم هناك الموقف السياسي من مصر وعبدالناصر ونحن نرى ان من الخطأ الدخول في مواجهة مع مصر او سورية في هذه المرحلة الحساسة. معركة الكرامة: مبالغات من قاد معركة الكرامة في 1968؟ - لم تكن "الجبهة الشعبية" انفصلت وكانت موجودة وكذلك "فتح" وجيش التحرير الفلسطيني وكان اسمه قوات التحرير الشعبية. انا كنت في معركة الكرامة وقصتها كبيرة. قبل معركة الكرامة كانت قواعد الفدائيين في اغوار الأردن منتشرة. وتضم كل قاعدة 15 الى 20 فدائياً. كان الانتشار من الحمة السورية الى البحر الميت وجنوب البحر الميت. بدأ النظام الأردني بقضم هذه القواعد الصغيرة. اتفقنا، نحن الأطراف الثلاثة، على ان نتجمع في 3 مواقع بدل ان تقضم مواقعنا الصغيرة. والمواقع هي: الكريمة والكرامة وغور صافي. اكبر المواقع كان في الكرامة وضم نحو 1700 مقاتل. والكرامة قرية تبعد عن نهر الأردن نحو ستة كيلومترات وبيوتها مصنوعة من اللبن والطين. هجر اهالي الكرامة بفعل القصف الإسرائيلي على منطقة الأغوار. وحاول النظام الاقتراب من هذه المواقع، لكن المواجهة كانت صعبة بسبب عدد المقاتلين الموجودين فيها. والحقيقة ان النظام الأردني حاول قبل معركة الكرامة ب25 يوماً التعرض لموقع الكرامة وأرسل قواته لتحاصرنا من الجنوب والشمال ونسبياً من الشرق وتحديداً من الجنوب الشرقي. وكادت المعركة ان تندلع. وتصديت انا شخصياً للجيش المقترب وعرفوا ان الأمر ليس بالسهولة التي خيلت إليهم. اخذت المقاتلين ووضعتهم على تماس مع القوات الأردنية. كانوا يريدون الابتعاد عنا لإفساح المجال امام اطلاق النار، فاقتربنا نحن كتفاً الى كتف والعدد بالمئات. قلت للضباط ها هي القدس تظهر من هنا فهل يمكن ان تقاتلونا؟ ألا يكفي ما حصل في الضفة الغربية؟ اعطونا فرصة لنقوم بدورنا. بدأت التظاهرات في عمان وضغط العراقيون والسوريون وضغط عبدالناصر فقطعت القيادة الأردنية الأمل في امكان اقتلاعنا من هذه المواقع الثلاثة. قبل معركة الكرامة بأربعة ايام ضربت احدى مجموعاتنا باصاً لطلبة وأساتذة من الجامعات الإسرائيلية كان في طريقه الى ايلات. هذا ما قاله الإسرائيليون. ضربناه من جنوب البحر الميت. وأذكر جيداً ان غالبية الركاب سقطت بين قتيل وجريح. وبدأت التهديدات الإسرائيلية ومعها حشد القوات. كانت الحشود الإسرائيلية قبالة الكرامة واضحة. اجتمعنا قبل المعركة بثلاثة ايام، أنا وأبو عمار وصلاح خلف ابو اياد وخليل الوزير ابو جهاد. قلت لهم بكل صراحة ان الإسرائيليين سيكلفون الآن ضرب هذه التجمعات الثلاثة. لذلك يجب ان نغيّر خططنا في عملية المواجهة. فسألوني كيف؟ فقلت: نحن الآن في بلدة مبنية من اللبن ورأيي ان نخفف العدد فيها وننشر قواتنا في جبال السلط والوديان لئلا نكون لقمة سائغة امام العدو الإسرائيلي وأن تزرع الألغام ونترك مجموعات مضادة للدروع داخل الكرامة. عندها وقف ياسر عرفات وقال: "انا اريد ان اقاتل داخل الكرامة وأن أجعلها ستالينغراد". اصطدمنا وقلت له انت اصلاً لا تفهم في العلوم العسكرية. دربت عرفات... وفرّ وفي المناسبة انا دربت ياسر عرفات وعلّمته كيف يمسك خريطة عسكرية. كان امياً في الشؤون العسكرية. انا دربته في 1965 كيف يعطي امر قتال لدورية. دربته هنا في دمشق. لنرجع الى الكرامة. قلت له انت ماذا قرأت عن ستالينغراد؟ تجادلنا. قلت له كيف تخوض معارك شوارع في بلدة بيوتها من اللبن؟ وشددت على ضرورة تخفيف المقاتلين بعد تلقينا انباء من اريحا ان اليهود بدأوا بترتيب الجسور لعبور النهر الذي تفصلنا عنه مسافة اربعة كيلومترات. اقترحت خطة لقتل اكبر عدد من الإسرائيليين بأقل قدر من الخسائر في صفوفنا. رفض عرفات واتخذنا نحن قرارنا. تركنا 170 مقاتلاً داخل الكرامة ووزعنا 400 مقاتل في التلال التي يمكن ان يقوم الإسرائيليون بعمليات إنزال عليها لمحاصرة القوات المنسحبة من الكرامة. رفض عرفات هذه الخطة. في يوم 18-3-1968 وفي الساعة الخامسة والنصف صباحاً بدأ القصف الإسرائيلي بالطائرات والمدفعية وحلقت طائرات الهليكوبتر للإمساك بالتلال بغية ابادة كل الموجودين في الكرامة. بدأ الهجوم في الخامسة والنصف، وفي السادسة إلا ثلثاً كان ياسر عرفات يهرب، ويمر قرب احدى التلال التي كنا نسيطر عليها، وقائد الوحدة لا يزال حياً يرزق وهو يعيش الآن في كندا، واسمه ابو الفدا. كان ياسر عرفات يركض وحذاء الرياضة في رجله غير مربوط. قال له الشاب الذي كان حضر الاجتماع: اين الذي سيصمد في الكرامة؟ دخل الإسرائيليون الكرامة. واجهتهم عناصر محدودة جداً، لأن تسليحنا كان آنذاك ضعيفاً. ال"آر بي جي" الحالي لم يكن موجوداً. انتهت المعركة مساء وانسحب الإسرائيليون. انا اتحدى اياً كان ان يثبت ان آلية واحدة دمرت في داخل الكرامة حتى ولو سيارة جيب. ما حدث هو الآتي: عندما تقدم الجيش الإسرائيلي تذكر العسكريون الأردنيون قصة الضفة الغربية فأخذ الضباط الأردنيون المبادرة - ومشهور حديثة لا يزال حياً يرزق ويمكن ان تسألوه - اتخذ العسكريون الأردنيون قراراً ميدانياً بفتح المدفعية من مناطق السلط على العقد التي تقدم منها الإسرائيليون فدمرت على طريق الشونة الجنوبية 5 او 6 دبابات وآليات مجنزرة ودمر على طريق جسر باميه عدد مشابه وبدأت المدفعية الأردنية بقصف الحشود الإسرائيلية. "الروايات الكاذبة" هذا يعني ان معركة الكرامة ليست انتصاراً فلسطينياً؟ - انا أروي لك بدقة ما حدث. وكل من يقول خلاف ذلك هو كاذب. ولكن هناك روايات اخرى عن معركة الكرامة؟ - كل الكتب التي صدرت كانت مغالية. غداة معركة الكرامة، في التاسعة صباحاً، التقيت عرفات في البلدة. كانت الجثث ممددة في الشارع. ذهبنا الى مدرسة كان حوَّلها معسكراً ومركزاً للتدريب. وكنت نصحته قبل اربعة ايام بنقل المركز الى الجبال. احتضنني عرفات وراح يقبلني ويبكي ويقول: "شايف يا خوي ملحمة ملحمة". فأجبته: "اي ملحمة؟ انظر الى جدار المدرسة كيف تمزق قتلوهم إعداماً"! كم بلغ عدد القتلى الفلسطينيين في المعركة؟ - اكثر من 125 قتيلاً وأسر اليهود 120 شخصاً. قلت له من المسؤول عن دم هؤلاء أولست انت؟ لا تأخذ عرفات بحالته الحاضرة. لم يكن يومها رئيساً للجنة التنفيذية. شعر عرفات بأن معركة ستقع بيني وبينه فسارعت الصحف التي اشتراها الى القول ان احمد جبريل لم يقاتل في معركة الكرامة وسحب قواته وكشف ميمنة المقاتلين وميسرتهم للإسرائيليين. للقتال قواعد وعلوم ولا يحق للمسؤول اهدار دم الناس من اجل الدعاية. كيف خرجت من الأردن في 1970؟ متسللاً؟ - طبعاً. وماذا عن معارك ايلول سبتمبر 1970؟ - حتى في ايلول 1970 ما هي المواقع التي صمدت؟ خذ عمان التي كانت معركة الحسم. كان ياسر عرفات اقام قيادة له وفيها غرفة عمليات تضم خليل الوزير وعبدالرزاق اليحيى وسائر "جنرالاته". تمكن الجيش الأردني من دخول غرفة العمليات هذه في ربع الساعة الأول من المعركة. كل الناس تعرف ذلك. موقعنا في جبل الحسين، مقر قيادتنا، وضعنا حوله بين فصيلة وسرية للدفاع عنه وليس محوراً اساسياً للقتال. لجأت كل قيادة المقاومة الى هذا المكتب في جبل الحسين. فليجرؤ واحد منهم على إنكار هذا الكلام. تصور ان هذه السرية صدت المهاجمين وكبدتهم نحو 30 دبابة. بعد نصف ساعة فقط كانت القوات الأردنية امسكت بصلاح خلف الذي اطل من الإذاعة والتلفزيون ليقول: "يا جلالة الملك نرجوك ان تعفو عنا وتعتبرنا أولادك". أريد ان اسأل: من صمد في السلطة؟ العالم يعرف من صمد. كان لعرفات ضابط هناك اتفق مع الجيش الأردني وأخلى مواقعه. وفي عمان، كما لاحقاً في جرش، كان هؤلاء يقاتلون ضمن اللعب السياسية. أين كنتم في حرب 1973؟ - كنا في جنوب لبنان، لكن دورنا لم يكن كبيراً. قمنا ببعض الأعمال لكنها ليست من الأعمال الكبيرة او المهمة. كانت المواجهة تدور بين جيوش كبيرة على جبهتي الجولان وسيناء. اعمالنا كانت محدودة. بعد تلك الحرب التي قيل انها الحرب النظامية التي هزت اسرائيل شعرنا بأن ثمة من يحاول طمس دورنا التاريخي كمقاومة فبدأنا بالعمليات الاستشهادية في كريات شمونة الخالصة في 10 نيسان ابريل 1974 وهي أول عملية استشهادية في المنطقة العربية. نفذ العملية ثلاثة من مقاتلي "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" وهم عراقي وفلسطيني وسوري. انطلقوا ودخلوا كريات شمونة ثم فجروا احزمتهم الناسفة بأنفسهم. وموضوع الطائرات الشراعية؟ - أبدع الاسرائيليون في اقامة حاجز امني. وقدمت اميركا اليهم كل التكنولوجيا المتقدمة اللازمة. ووضع التكنولوجيا العربية معروف يا للأسف. ولا أذيع سراً انني طرحت على السوفيات، في احدى زياراتي لموسكو، ان يساعدونا في ايجاد تكنولوجيا تمكننا من تجاوز هذا الحاجز الذي اقامته اسرائيل، فلم يستطيعوا اعطاءنا حلاً يساعدنا على اجتياز هذا الحاجز الممتد من الناقورة الى ايلات وحتى في البحر بأجهزة تنصت ورادارات تعمل على الفرق الحراري ومناظير ليلية ووسائل معقدة ومتعددة. ان الكيان الصهيوني يعتبر الأمن احد اهم مرتكزاته، لذلك انفق امكانات مالية ضخمة على هذا الحاجز لمنع تسلل الفدائيين والمجاهدين. عندها رحنا نفكر كيف سنستغل الجو، وكان هدفنا الوصول الى حال التحام قتالية معهم، كما فعلنا حديثاً في الطيبة في جنوب لبنان. نحن نعرف اننا ننتصر حين يحصل الالتحام. أين صنعت الطائرات؟ - تستغرب اذا قلت لك انها صناعة محلية. صنعناها بامكاناتنا الذاتية ودربنا الناس بامكاناتنا الذاتية وتكبدنا خسائر اثناء التدريب. أين دربتموهم بعيداً عن عيون الاسرائيليين؟ - تدربنا في اماكن متعددة. المهم ان مثل هذه الطائرة التي يستخدمها الرياضيون في أوروبا لا تزود عادة بمحرك. نحن وضعنا لها محركاً فصارت اشبه بالطائرة العادية. يقول الرياضيون ان استخدامها يجب ان يتم في طقس جيد ورؤية واضحة مئة في المئة. نحن نريد ان نعبر ليلاً وعبور الليل يحتاج الى بوصلات وتجهيزات. ألم يساعدكم خبراء اجانب؟ - أبداً. وأتحدى الذين يعتقدون ذلك. كان التدريب متعباً. وكان علينا أيضاً تدريب طيارين ليحلقوا بعضهم مع بعض ضمن تشكيلات للوصول الى هدف على بعد 30 أو 50 كيلومتراً والهبوط في الوقت نفسه. انه عمل معقد. احد الطيارين الاسرائيليين قال بعد عملية قبيه الشراعية: "لا شك في ان هؤلاء مجانين او انهم وصلوا الى نوع من التدريب الراقي جداً". حدثت العملية في ليلة مظلمة تماماً. وصل الشباب الى هدفهم وقاتلوا بشجاعة، وكان ذلك في 25 تشرين الثاني نوفمبر 1987. وقبيه هي قرية فلسطينية في الضفة الغربية ارتكب اليهود فيها مجزرة، لذلك اطلقنا هذه التسمية على العملية. الهدف كان معسكراً للواء جولاني في الجليل. تضليل المخابرات الاسرائيلية من أين انطلقوا؟ - من جنوب لبنان وتحديداً من العرقوب. كيف نقلتم الطائرات ولم تعلم اسرائيل بها؟ - انها طائرات من القماش يمكن نقلها في سيارة تاكسي. تعمدت اثناء تنفيذ العملية الا اكون في سورية وذهبت الى ليبيا لئلا تراود الشكوك الاستخبارات الاسرائيلية، خصوصاً انهم كانوا تحدثوا قبل شهور ان "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" تملك طائرات شراعية وتتخذ اجراءات في الليل وتحرك طائرات هليكوبتر. وللمناسبة، فإن عرفات ساعدهم في بعض تصريحاته حين قال ان احمد جبريل تلقى طائرات هليكوبتر وطائرات شراعية وزوارق من ايران. طبعاً لم تكن لدينا هليكوبتر. ذهبت الى ليبيا في عملية تمويه وخداع. هاجم شبابنا معسكراً يسميه الاسرائيليون "معسكر الابطال". كان المهاجمون ثلاثة. دخلوا وقتلوا الحراس. بعدها صادفهم مهجع للمجندات الاسرائيليات وبعضهن نائمات عاريات فأغلقوا الباب عليهن ولم يطلقوا عليهن النار. توجهوا الى المهاجع الأخرى والنادي حيث الكافيتيريا. وبدا في النهاية ان المعسكر تعرض لعملية تخريب واسعة واستشهد الشبان الثلاثة. كم عدد شهداء "القيادة العامة" حتى اليوم؟ - 2300 شهيد، من العام 1956 حتى اليوم. قلت ان البيان رقم واحد ل"فتح" كاذب بمعظمه؟ - انا أتحدث عن عرفات والأكاذيب التي بدأت من اليوم الأول. منذ البيان الأول. جاء في البيان انهم نسفوا نفق عيلبون ووظيفته تحويل مجرى نهر الأردن في اتجاه سهل البطوف. معروف ان هذا النفق يحتاج لتفجيره الى ثلاثة أو أربعة اطنان من المتفجرات. تخيل ماذا يمكن ان يكون حمل الثلاثة الذين نفذوا العملية! ربما كانت معهم رزمة لصيد الاسماك فألقوها وافتتح عرفات اسلوبه المعروف منذ الساعة الأولى. والأبطال الثلاثة مساكين. ففي طريق عودتهم عند جسر المجامع، اي جسر الشيخ حسين اطلقت عليهم النار وقتل احدهم ويدعى احمد موسى الدلكي. عندما تبدأ الثورة بهذا الاسلوب ومن هذا الشخص لا يعود مستغرباً ما نراه اليوم من الاكاذيب والخداع والحيل. ليت هذه الحيل موجهة ضد العدو. المؤلم انها موجهة ضد شعبنا وضد أماني هذه الأمة. كيف كانت علاقتك مع وديع حداد؟ - كانت علاقة جيدة. امضينا اياماً عدة، وكنا نتمنى الا يحصل الانفصال. وقلت لهم نرجوكم ان تجنبونا صراعاتكم. كانوا غارقين في التجاذب مع نايف حواتمة؟ هل كنت تراه اثناء تنفيذ العمليات الخارجية؟ - شاهدته في المراحل الأولى ثم انقطع عني حين انتقل الى العراق. اختار نمطاً معيناً. هل كانت لكم علاقة بتصفية المعارضين الليبيين في الخارج؟ - لا، لم تكن لنا علاقة. نحن لا نتدخل في مثل هذه القضايا، لكننا على استعداد للدفاع عن ثورة الفاتح لتبقى في موقعها وخندقها في ما يخص القضية الفلسطينية، ومعادية للرجعية. لا نسمح لأحد بأن يتآمر على الجماهيرية وهذا موقف مبدئي. حرب الفنادق في بيروت حكي الكثير عن دورك في حرب الفنادق في بيروت، لماذا هذه المشاركة النشطة في حرب السنتين؟ - عندما بدأت الحرب الأهلية في لبنان لم نشارك فيها. في 1973 و1974 كان العطاء الفلسطيني في قمته في وجه العدو الاسرائيلي. في هذه الاجواء حدثت عملية الخالصة وتبعتها عملية ام العقارب التي سقط لنا فيها اربعة شهداء وهم سوري وعراقي ولبنانيوفلسطيني. نحن ننوه بهذه العمليات لنقول ان هذه هي الأمة العربية. وفي عملية الطيبة خلال 1995 استشهد تونسيان وسوريانوفلسطينيان، اضافة الى لبنانيين اثنين من "حزب الله". في تلك المرحلة من السبعينات اضطرت الفصائل الفلسطينية الى تقليدنا. نفذت "الجبهة الديموقراطية" عملية في معالوت ثم جاءت عملية سافوي التي شاركت فيها دلال المغربي ونفذتها "فتح". وقعت مجموعة عمليات هزت اسرائيل. نحن في "الجبهة الشعبية - القيادة العامة" ارسينا نمطاً واسلوباً. بعد سنة من عملية الخالصة الاستشهادية اقمنا احتفالاً في بيروت الغربية، وبعد انتهائه تعرض باص كان عائداً الى تل الزعتر لرصاص مسلحين كتائبيين اعتبروا الحادثة بمثابة بدء حرب التحرير. وعرفنا منذ اليوم الاول ان الاسرائىليين استنجدوا بعملائهم في الداخل لتفجير الوضع الداخلي وجرّنا اليه، على أمل ان يحصلوا هم على فرصة لترتيب اوضاع حدودهم الشمالية. وعلى مدى سنة ونصف سنة لم ازحزح مقاتلاً واحداً من الجنوب. كنت أقول للمقاتلين: هناك لعبة غايتها شدكم من الجنوب في اتجاه بيروت. وهذه الحرب طائشة ولن تكون منها فائدة. هذا كان موقفنا على رغم الضغوط. حصلت تطورات غريبة في الحرب، ثم احتلت الكرنتينا ومخيم ضبيه ثم دخلت "القوات" والجيش المؤيد لها الاسواق التجارية ووصلا الى القنطاري وكادا ان يدخلا الحمراء والبنك المركزي الذي باتت مداخله تحت رحمة القنص. ودخل الوضع في بيروت مرحلة حساسة. وكان ينذر بدخولهم شارع الحمراء والالتفاف على مواقعنا في المخيمات. بعد هذا الاختراق وحصار تل الزعتر صار الوضع حرجاً. وبدأ المقاتلون في الجنوب يقولون ان ظهرهم صار مكشوفاً في بيروت. عندها قلنا نذهب الى الداخل لمدة ستة اشهر ونعيد التوازن ثم نرجع الى الجنوب وهدفنا الاساسي مقاتلة اسرائىل. وتوجهنا الى بيروت. كان آلاف الناس يرابطون على خط الشياح - عين الرمانة. قدّرنا ان المنطقة الخطرة هي منطقة القنطاري - السوديكو في اتجاه شارع الحمراء. كان "الهوليداي إن" في يد الكتائب. نحن نقاتل قتال حرب العصابات لكن قتال المدن كان جديداً علينا. جلسنا في حارة حريك ودرسنا تجربة حرب المدن. كنا 600 مقاتل ووضعنا اسس حرب الشوارع والتكتيك الذي يحتاج الى تفصيل وتكييف على الأرض وان وجدت عناوينه العريضة في الكتب. بعدها بدأنا ننتشر بين القنطاري والخندق الغميق ونقوم بعمليات استطلاع. لاحظنا ان احداً لم يجرؤ على القيام بشيء. طلبنا من كل المسلحين الجلاء عن القاطع الذي سنقاتل فيه. قبل ايام كان "المرابطون" حاولوا احتلال "الهوليداي إن" وتكبدوا 15 شهيداً وحوصرت مجموعة منهم وانقذناها. تم اعداد الخرائط ودرس المناطق وفتحات المجاري وطبيعة الابنية. استمرت الدراسات 15 يوماً، في موازاة تخزين السلاح والامور الطبية. كان ابو عمار يراقب ومثله "الحركة الوطنية". كانوا يقولون ان هؤلاء يتصرفون بحماسة الآن ثم تزول حماستهم. ومعروف ان كل هذه القوى حاولت اجتياز الطريق الفاصل بين الشياح وعين الرمانة وعرضه 6 امتار ولم تستطع. الكحالة التي كانوا يرابطون فوقها لم يستطيعوا دخولها. وذات يوم قال لي الشهيد كمال جنبلاط أنا اذاً بوّ... بيوصلوا على الكحالة وكان يتساءل كيف لم يستطع ابو عمار احتلال الكحالة وبدادون وبسوس. بدأنا المعركة وكانت صعبة وقاسية. خلال 25 يوماً كنا على ابواب الصيفي حيث المقر الرئيسي لحزب الكتائب. كان في مواجهتنا الكتائب والاحرار وعناصر عسكرية تابعة للرائد فؤاد مالك من الجيش اللبناني وكان بشير الجميل في اول طلعته. كم بلغ عدد القتلى في حرب الفنادق؟ - نحن سقط لنا 200 شهيد وسقط منهم اكثر بكثير. مشينا من القنطاري الى ساحة البرج مروراً بالأسواق. وكان دفاعهم شرساً وخطوط مواصلاتهم مفتوحة، وكنا نبتدع طرقاً في القتال تفاجئهم كما في احتلال الهوليداي إن والفينيسيا. هذه الفنادق كانت اشبه بالقلاع. وكذلك الهيلتون والنورماندي. احياناً كنت اقاتلهم معنوياً ونفسياً. افاجئهم من الخلف أو اطل عليهم وأناديهم بمكبر الصوت صارخاً ارم سلاحك يا كلب فيهربون. انا اصبت في "الهوليداي إن" في الطابق الثالث تحت الأرض. ذهبت الى البربير وضمدت جروحي وعدت وانا اتوكأ على عصا. تابعنا القتال وعرفات مشدوه. انهارت المناطق المقابلة. وقرع الكتائب الاجراس طلباً للنجدة. من اين تعرف عظمة هذه المعركة؟ بعدما نظفنا المنطقة ذهبت الى كمال جنبلاط وقلت له انتم كوطنيين لبنانيين تسلموا هذه المنطقة ونحتفظ نحن بال50 متراً الأولى في مواجهة الصيفي. مع وليد جنبلاط هل تجزم بأنه لم يشارك في حرب الفنادق اي فريق لبناني؟ - لم يشارك اي فريق. كنا نعطي هذه الانتصارات مرات سياسياً واعلامياً لفلان او فلان لئلا يقال ان الفلسطينيين يتدخلون. المنطقة التجارية غنية. حاصرنا الشوارع بالألغام وذهبت الى كمال جنبلاط وقلت له ان هذه المنطقة غنية وانتم ادرى بها فتسلموها. وقال جنبلاط: انا لا اقدر على عصابات "فتح"، هل تريدنا ان نقاتل على هذه المواضيع؟ تستطيع ان تسأل وليد جنبلاط الذي قال لي ذات يوم "اتذكر حين جئت لزيارة والدي لتعرض عليه تسلم الاسواق". اجبته انني لم اره يومها فقال كنت موجوداً طرف القاعة واذكر انه كمال جنبلاط تخوف من الاصطدام مع عرفات. وقال وليد جنبلاط ايضاً انه تذكر قول والده: "ابعث لي ببضعة نمور من رجالك الى عاليه علّنا نتمكن من حل مشكلة الكحالة وبسوس. أهلكني ابو عمار واضطررت الى استقدام بعض المقاتلين من جبل الدروز لوضعهم تحت إمرته فلم يقبل بأن يأخذهم". قلت له: حين تتخذون قراراً طلبي الوحيد هو ان تخرج جماعة عرفات كلها وترى حينها كيف تنتهي المعركة. راحت الايام، وذات يوم كنت انا ووليد جنبلاط في طائرة خاصة متجهة الى ليبيا، في الفترة التي ارسلنا نحن وهم قوات الى تشاد للدفاع عن ليبيا. اخرج قلماً واوراقاً وكان معه انور الفطايري. قال لي: الآن لدينا ثلاث ساعات وأريد منك ساعة تروي لي فيها معركة الفنادق والأسواق التجارية. سألته عن السبب فأجاب: بعد عملية الصفرا التي نفذها بشير الجميل ضد حزب الوطنيين الاحرار وهرب داني شمعون ولجوئه الى المنطقة الغربية تناولنا العشاء الى مائدة هاني سلام وكان ابو اياد وخليل الوزير وداني شمعون حاضرين. تحدثنا عن المعارك التي حدثت فقال داني شمعون، انتم لم تربحوا منا ونحن لم نربح منكم. انتم استوليتم على جيوب محاصرة مثل الجية والدامور وغيرها. ونحن اخذنا منكم جيوباً محاصرة مثل الكرنتينا وضبيه وتل الزعتر. اريد ان اقول لكم ان معركة وحيدة خسرناها رغماً عنا وعلى رغم ان طرق مواصلاتنا كانت مفتوحة. والتفت داني شمعون الى ابو اياد وخليل الوزير وقال: لستم انتم من ربح، انه احمد جبريل الذي هزمنا وهي المعركة الوحيدة في الحرب التي نعترف نحن بأننا خسرناها على رغم كل ما بذلناه. فسارع ابو اياد الى القول: وهل كان احمد جبريل يربحها لو لم ندعمه نحن؟ فرد داني: نحن منعناكم من دخول عين الرمانة. وغاليري سمعان لم تستطيعوا أخذه. لو راجعت اعداد صحيفة "النهار" لوجدت تصريحاً لكميل شمعون يقول فيه ان احمد جبريل يقاتلنا في الفنادق بالطريقة الفيتنامية حيث يدوس المهاجمون على قتلاهم ويتابعون. كيف اقتحمت الهيلتون؟ شرحت القصة لوليد جنبلاط، فندق الهيلتون مؤلف من 23 طابقاً. أنا اول من دخله خلال المعركة. دخلته من مكان لا يمكن ان يتوقعوه. كانوا عرفوا قصة التفجير لإحداث ثغرات التي اعتمدتها في اماكن اخرى. هذه المرة دخلت من أنابيب التهوئة التحتية. زحفت مع مجموعة من ثلاثة اشخاص ومعنا بنادق فيها مقنبلات. كانوا في اللوبي ودارت المعركة. هناك حصلت معي قصة من الصعب ان اصدقها لجهة ما يمكن ان يحدث للانسان. سيطرنا على الفندق، وقتل من قتل وأسر من اسر. شاهدت بقع دم في اتجاه الدرج فتتبعتها... وفي هذا الوقت كان المقاتلون قد تبعونا. نادينا على الجريح المفترض بالميكروفون وقلنا له استسلم ونحن نقدم اليك الاسعافات. كان افراد الكتائب والاحرار يقولون ان احمد جبريل يرمي مقاتليهم من الطوابق العليا. لم يرد. تبعناه ووصلت نقاط الدم الى المطبخ الرئيسي. الدم غزير على الادراج. قلنا نسعفه. دائماً كنا ننطلق من منطلق انساني. فهذا المقاتل هو في النهاية انسان مضلل. مطبخ الهيلتون ما زلت اذكره، قاعة واسعة جداً طولها نحو 40 متراً وعرضها لا يقل عن ذلك. خفنا ان يرمي قنبلة واذ بنا نجده ميتاً في الزاوية. نصف رأسه غير موجود ودماغه ايضاً فكيف صعد هذه الادراج ووصل الى المطبخ؟ حتى العلم لا يستطيع ان يجيب. ألم تعدموا اسرى؟ - أنا أروي لك: كنت اسأل الأسير عن هاتف اهله أو أقاربه واطلب منه ان يتصل بهم. اقسم بدم الشهداء ان هذا ما كان يحصل. وكانوا يتصلون ويقول الواحد منهم: "يا ماما انا بخير وموجود عند القيادة العامة والأخ احمد جبريل". أحدهم كان مسؤولاً وقال: لم تسألوني عن معلومات. فقلنا اننا لا نريد. قال: أنا أريد ان اعطيكم لأننا لم نتوقع هذه المعاملة نحن لو تمكنا لقتلناكم. اتصلت بالعميد ريمون اده وارسلتهم اليه على دفعات. كان يوقفهم ويسألهم انت ماذا تفعل. فكان يقول له قناص فيرد اده: "تفوه عليك، انت حقير!" اسألوا ريمون اده. عندها بدأ مسؤولو الكتائب يتحدثون عن القائنا مقاتليهم من الطبقات العليا وذلك لحضهم على عدم الاستسلام. سرقة البنك البريطاني ألم تشارك عناصر من "القيادة العامة" في عمليات سطو على المتاجر والمصارف كما حصل في البنك البريطاني؟ - لا نحن لم نتعرض للمصارف وسأروي لك قصة الأسواق. حادثة السطو على البنك البريطاني معروفة. الجواب موجود لدى الجبهة ... وحلفائها من الشيوعيين ... والخلافات بينهم لا تزال مستمرة. ويبدو انه كانت لل"كي جي بي" واستخبارات شرقية علاقة بالعملية. في هذا الموضوع اسألوا غيرنا. نهب اسواق بيروت ألم يكن لعناصر "القيادة العامة" دور في نهب الاسواق التجارية؟ - صدقاً اقول انه حتى نهاية المعركة حين وصلنا الى ابواب الصيفي، كانت الدكاكين مفتوحة ولم يمد مقاتل يده الى واجهة. هذه المسألة مقيتة ولا احب ان اتذكرها. كنت أنا مصاباً بطلقات حارقة حين خاطوا لي الجروح تمزق اللحم لأنه محروق ثم تقيح وتعفن. هذا بعد نحو شهر من الاصابة وأصر الاطباء على ضرورة المعالجة لئلا يضطروا الى قطع قدمي. وقالوا ان لا بد من الجفصين وعدم الحراك. جمعت الشبان المناضلين وجمعت القيادات وابلغتهم انني مضطر الى مغادرة المنطقة لشهر. كنت اشم رائحة العفن من جرحي. واقسم بالله انني كنت لوحدي في منطقة الفنادق اضمد نفسي وأتناول ادوية. قلت لهم: دفعنا دماً غالياً وانا اطالبكم بالمحافظة على دماء الشهداء. لم نقتل احداً ظلماً. اننا نقدم نموذجاً. كان ابو العباس اول من تظاهر بالالتزام. اثر ذهابي الى دمشق شكل ابو العباس عصابات للسرقة والنهب وبدأ ببيع المواد والآلات. كان مسؤول الاعلام لدينا. بدأوا بفتح الخزانات والسرقة والبيع. لم يمض 15 يوماً حتى جاء الشباب وقالوا لي: "يا رفيق، تهدم كل ما فعلناه". فسألتهم عن السبب فحكوا لي. توجهت الى المستشفى وطلبت منهم قص الجفصين وذهبت الى بيروت وأنا أتوكأ على العكاز. تفرجت على ما حصل: كل القيم التي زرعناها كانت، ويا للأسف، تدمر. وحين يرى المقاتل قائده يسرق وينهب يقول لماذا لست أنا؟ جمعتهم وقلت له: يا أبو العباس خلال شهرين لدينا مؤتمر وستظهر لصاً وستفصل من الجبهة. الآن لديك حصانة لأنك عضو مكتب سياسي ولجنة مركزية. لا أريد ان يقال ذات يوم ان احمد جبريل اضطهد عضواً في المكتب السياسي او اللجنة المركزية. وشعر ابو العباس بأن اعماله ستفضح امام المؤتمر فسارع الى اقامة علاقات مع ابو عمار وابو اياد بحجة انهم يعارضون التدخل السوري في لبنان. أنا لم أقل انني أريد تدخلاً سورياً، انا مع بناء علاقة وضد الصدام مع دمشق. ولاحقاً هاجموني في الفاكهاني 1976 وقاومت في المبنى من العاشرة صباحاً حتى الخامسة مساء وكان معي 12 مقاتلاً. قاومت ابو عمار والكفاح المسلح و600 مقاتل. راحوا ينادونني عبر مكبر الصوت ويطالبونني بالاستسلام. فقلت لهم سأعلمكم كيف يقاتل المرء حتى النهاية. قتلنا من المهاجمين نحو 40 شخصاً. ولم تكن المسافة بيني وبين أبو عمار، خط نظر، اكثر من 75 متراً. كان يتفرج استعداداً لسحلي في الشارع. قفزنا الى مبنى مجاور وفي النهاية فشلوا. كنت انتقل من طبقة الى طبقة واطلق النار. احترق اصبعي من كثرة ما اطلقت النار. ولداي كانا صغيرين. جهاد وخالد اللذان يقاتلان الآن في الجبهة. قلت يمكن ان اقتل فماذا سيقولان؟ وهل سيروج الخصوم ان والدهما كان خائناً. كنت اقاتل بهذه الشفافية وجاءتني صورة يهوذا الاسخريوطي الذي باع معلمه بثلاثين من الفضة.