بلغ الوضع الاقتصادي في لبنان حداً من التدهور يدعو الى دق ناقوس الخطر. حتى ان معركة الانتخابات النيابية الأخيرة كان عنوانها التدهور الاقتصادي. والتدهور الاقتصادي يعني باللغة المبسطة ان عدد العاطلين عن العمل يزداد بسبب شلل المصانع وعدم قدرتها على الانتاج. وان الفقراء يزدادون فقراً. "الوسط"توجهت الى الخبير المصرفي الأستاذ الجامعي الدكتور غسان العياش وسألته رأيه. هل وصل الاقتصاد اللبناني فعلاً الى نقطة الخطر والى حال الركود المستديم أم ان جزءاً من المشكلة طابعه سياسي؟ - الطابع السياسي جزء من المشكلة ومن أهم أسبابها، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية التدهور القائم والمستمر والنتائج التي قد يؤدي اليها. فالقول ان التوتر السياسي، الاقليمي والداخلي، هو سبب جوهري من أسباب الأزمة لا يعني أن الحل هو بمتناول اليد بمجرد توافر أجواء سياسية أفضل، بل ان استمرار التراجع في النشاط الاقتصادي، في مقابل ارتفاع المديونية، وبشكل متواصل، قد يجعل الاقتصاد أسير مشاكل بنيوية لا يعود الخروج منها سهلاً على الاطلاق. فهناك سياسات واجراءات اقتصادية يجب أن تواكب أية انفراجات سياسية. ما نراه منذ سنتين أو ثلاث هو تراجع مستمر في معدل النمو، وانخفاض في حركة الرساميل الوافدة، واعتماد على سندات الدين العام لتمويل جزء مهم من الاقتصاد. لقد تميز النصف الأول من العام الحالي بانخفاض في حجم الناتج المحلي القائم، وبكون الفائدة الفعلية لدين الدولة 12 في المئة تقريباً تفوق كثيراً معدل التضخم الذي يصل الى 2 في المئة كحد أقصى، مما يجعل الدين العام عبئاً متزايداً على المجتمع. وبذلك فإن ايرادات الدولة لم تعد كافية لفوائد الدين، التي بلغت 16 في المئة من الناتج المحلي القائم. هذه المعطيات، بما أنها مستمرة ومتفاقمة منذ فترة، يجب أن تواجه بسياسات صائبة واجراءات سريعة، حتى لا تصل بالبلاد الى أزمة بنيوية، فلا تعود الأجواء السياسية المريحة قادرة على انهائها في وقت قصير. ما هي الأسباب الفعلية للركود الاقتصادي الراهن؟ هل هي التحول بوظيفة لبنان؟ هل هي نتائج الحرب؟ هل هي السياسات الحكومية الماضية أم الحالية؟ - جنباً الى جنب مع تعثر عملية السلام في المنطقة، شهد الاقتصاد اللبناني اختناقات ذاتية متوالية. فقد اضطر البلد الى دفع فاتورة الحرب، عن طريق إعادة الإعمار ومساعدة المهجرين على العودة وإعادة بناء القوات الأمنية، وكذلك ترميم الجهاز المتهافت للدولة. جاء ذلك في وقت كان فيه المجتمع منهكاً بفعل الحرب، فلا يمكن فرض الضرائب الضرورية لتمويل هذه المتطلبات الضخمة. في المقابل، كانت الخصخصة وسيلة فعالة، في ذلك الوقت، للجم الدين وخلق أجواء نقدية مريحة قائمة على الثقة بالدولة وماليتها، مما يمكن من خفض كلفة الدين العام. ولكن المزايدات السياسية والشعارات السطحية حالت دون تمكن الحكومة في مرحلة 1993 - 1998 من اعتماد الخصخصة. فاستمر الدين بالتزايد بفوائد عالية مما أثر أيضاً على الاستثمار الخاص. وهناك سبب اقتصادي تقني لا يجب التقليل من أهميته، وهو أزمة العقارات التي نجمت عن المبالغة في الاستثمار في القطاع العقاري مباشرة بعد الحرب. أما المشكلة في السياسة التي اتبعت في السنتين الأخيرتين فتتمثل بالتقاعس وإهدار الوقت من دون طائل، والاعتماد على سياسات تزيد في اختناق الاقتصاد، وهي تثبيت الانفاق من جهة والاعتماد على زيادة الايرادات الضريبية من جهة أخرى. وهذه السياسات كما هو معروف مفيدة في حال التوسع غير الطبيعي للاقتصاد وليس في حال الركود، الذي يتطلب علاجات معاكسة لذلك تماماً. هل فقد الاقتصاد اللبناني ميزاته التفاضلية والتنافسية؟ وما هو الدور الجديد الذي يستطيع ان يعيد لبنان الى الوضع الطبيعي؟ - ما زال لبنان يتمتع بالمزايا والكفاءات التي جعلته في الماضي يتبوأ مركزاً مرموقاً في المنطقة على صعيد الخدمات بمفهومها الشامل. فكما في السابق، ان الثروة الرئيسة في لبنان هي العنصر البشري الديناميكي. إلا أن المنطقة تغيرت من حولنا، اذ أنها طورت اقتصادياتها ومؤسساتها ورأس مالها البشري وأقامت جسراً مباشراً مع الغرب، بما يقلل كثيراً من الحاجة الى الجسر اللبناني بين الشرق والغرب، من دون ان يلغي المرور عليه. والتطور الأكثر تأثيراً على الاقتصاد اللبناني هو التغيرات السلبية، وليس الايجابية، في بلدان الخليج خصوصاً ومقاصد الاغتراب اللبناني عموماً. فقد توقفت الطفرة النفطية في بلدان الخليج، التي نكبت في ما بعد بالحروب والأحداث الكبيرة. وبذلك توقف النمو غير العادي لحركة العمران وباتت المالية العامة تنوء تحت ضغط عجز الموازنة. وجاءت هذه التطورات في وقت توالت فيه الأحداث في البلدان الافريقية وخفت الى حد بعيد الروابط بين المغتربين في القارة الأميركية والمقيمين في لبنان. هذه الظروف وسواها الحقت بميزان المدفوعات اللبناني تشوهات جوهرية وبنيوية، وهذا ما بدا واضحاً منذ بداية التسعينات. على صعيد الميزان التجاري، ان تغطية الواردات بالصادرات تدنت من 50 في المئة و60 في المئة قبل الحرب الى 12 في المئة بعدها، اذ انخفضت الصادرات من 30 في المئة من الناتج سنة 1973، مثلا، الى حوالي 5 في المئة حالياً، وارتفعت الواردات الى حوالي 50 في المئة فقفز عجز الميزان التجاري مقارناً بحجم النشاط الاقتصادي قفزات كبيرة. وإزاء تحول الخدمات الى سلبية وتراجع تحويلات اللبنانيين الى ذويهم، أصبح رصيد الميزان الجاري سلبياً، وهو تحول مهم لم يكن قائماً قبل الأحداث. وإذا كان حساب رأس المال قد تمكن، في بعض السنوات وليس كلها، من ردم العجز في الحساب الجاري فإن الأموال الوافدة كانت بمعظمها قروضاً للقطاع العام أولا، والقطاع الخاص ثانياً، وبنسبة أقل. ان معنى ذلك ان الاقتصاد اللبناني بات يمول بالدين، وهذه ليست بالمشكلة العابرة. علينا ان نفتش عن الطرق التي تزيد الانتاج إذ لا يمكن الاستمرار في الاعتماد على الاقتراض العام والخاص لتمويل الاقتصاد. أما كيف يزداد الانتاج وتفعيل وظيفة لبنان فهذا يحتاج الى بحث خاص وأعمق. المشكلة التي ما زالت مفتوحة في الجنوب على رغم الانسحاب الاسرائيلي كم تؤثر على الداخل؟ وهل يمكن بناء اقتصاد ثابت وسط أوضاع سياسية غير ثابتة؟ - نعلم جميعاً أن لبنان موجود في قلب الصراع في الشرق الأوسط، بل هو تحول بعد حرب 1967 الى ساحة الصراع الوحيدة مع اسرائيل. لا نعرف بعد إذا كان الانسحاب الاسرائيلي من الجنوب يشكل منعطفاً في هذا الواقع ام ان "وظيفة" لبنان كساحة صراع مع اسرائيل ما زالت مستمرة. إذا افترضنا، في أسوأ الأحوال، ان لبنان باق في العاصفة، فإن هذا لا يبرر التساؤل عما إذا كان بالامكان بناء اقتصاد ثابت، بل هو يفرض علينا بناء الاقتصاد الثابت والقادر على تحمل الهزات، على أنقاض الاقتصاد الهش. المشكلة الأساسية التي تتحكم بالوضع النقدي والمالي الحالي هي العجز الكبير للموازنة العامة والمديونية المرتفعة. هل خطة الاصلاح المالي والضريبي التي اعتمدتها حكومة الرئيس سليم الحص ما زالت صالحة لوقف النزف؟ - الخطة يجب أن تستمر، ولكنها بحاجة الى إعادة قراءة والى تصحيح، لا سيما ان تجربة السنتين الماضيتين أظهرت عدم واقعية التصورات والافتراضات التي استندت اليها. ان العناوين الرئيسة للخطة تبقى صالحة، بل ليس بالامكان التنكر لها ولا مناص من تبنيها. فلا يمكن العودة عن السير بالضريبة على القيمة المضافة، لأن اتفاقات تحرير التجارة التي بدأ لبنان يسير فيها من شأنها أن تهدد نصف ايرادات الخزينة تقريباً من خلال الغاء الرسوم الجمركية. ولا بديل عن الاصلاح الجدي لضريبة الدخل والضرائب الأخرى، كما أن الخصخصة تساعد في تقليص حجم القطاع العام وأعبائه على الخزينة والمجتمع وتؤدي الى خفض الدين العام، على رغم ان اهدار الوقت، مع الأسف، يفقد الخصخصة في لبنان شيئاً فشيئاً القدرة على تحقيق هذا الهدف. ولكن هناك بعض التعديلات الضرورية في برنامج الاصلاح. فالرهان على زيادة الايرادات الضريبية مع تثبيت سقف الانفاق هو طريق خانق للاقتصاد، ومسبب لمزيد من الركود، الذي بات لبنان غير قادر على احتماله. لذلك اقترح على الحكومة الجديدة أولا الالتزام بمبدأ الاصلاح المالي، لأنه ضرورة أساسية، وثانياً عدم التنكر للبرنامج الذي وضعته حكومة الرئيس سليم الحص حرصاً على مصداقية لبنان تجاه الأسواق المحلية والعربية والدولية. وفي المقابل لا بد من تعديل أولويات البرنامج، فيوضع دعم النمو في مقدمة الأهداف عن طريق زيادة الاقتراض بشروط ميسرة لتمويل الانفاق الاستثماري. ويقتضي ذلك إعادة درس السيناريو للسنوات المقبلة فيبنى على تقديرات واقعية. والأهم من ذلك كله القدرة على تنفيذ البرنامج، وبسرعة، حتى لا يتكرر إهدار الوقت على غرار ما جرى في السنتين الماضيتين. إذا عاد الرئيس رفيق الحريري الى الحكم هل يتبنى الخطة الحالية للاصلاح المالي والضريبي لتأمين الاستمرارية تجاه المؤسسات الدولية أم يغيرها؟ - لست مطلعاً على برنامج الرئيس رفيق الحريري إذا ترأس الحكومة الجديدة، كنتيجة لفوزه الكاسح في الانتخابات. ولكنني متأكد من أن لديه برنامجاً للانقاذ، أو انه بصدد وضع هذا البرنامج، فهو رجل يخطط، وينفذ، ضمن الامكانات المتاحة، ما يهدف إليه. أظن ان الرئيس الحريري سيولي هذه المرة اهتماماً أكبر لأوضاع المال العامة. لذلك فهو سيلتزم بمبدأ الاصلاح المالي، من دون حرفية البرنامج، وقد ينفذ ما وعدت به الحكومة الحالية في برنامج الاصلاح وعجزت عن تحقيقه. إلا أنني متأكد، تقريباً، أن الرئيس الحريري لن يلتزم بالروح الشديدة التحفظ التي تحكمت بالبرنامج، بل هو سيهاجم الأزمة بدل الخوف والاحتماء منها. ولا عجب اذا أصبح الرئيس الحريري رئيساً للحكومة من جديد، ان نراه يزيد مديونية الدولة لأجل زيادة الاستثمار العام، ولتشجيع الاستثمار الخاص على الإقدام. فهو قد لا يمشي بالمعادلة الراهنة: زيادة الايرادات ووقف الانفاق لخفض العجز، بل قد يعمد الى منهجية جديدة تقوم على زيادة الدين مؤقتاً لتمويل الاستثمار وزيادة النمو. هذا، يمكن أن يؤدي الى زيادة الايرادات، بفضل النمو الاقتصادي، وتخفيف الدين كنسبة من الناتج المحلي. هذا يعني تعديلا في برنامج الاصلاح من دون العودة عن مبدأ الاصلاح. هناك مفارقة وهي ان القسم الأكبر من دين الدولة اللبنانية مكتتب به لحساب مصارف خاصة ومؤسسات مالية خاصة ومواطنين لبنانيين. إذا لم تستطع الدولة التي تتراجع ايراداتها يوماً بعد يوم أن تفي بمستلزمات خدمة الدين أو إيفاء الدين، هل نذهب جميعاً الى إفلاس شامل؟ - طالما ان دين الدولة معظمه بالليرة اللبنانية فلا خوف من اعلان الدولة عدم قدرتها على إيفاء المستحقات. بالتالي فلن نذهب الى نادي باريس أو الى أية منتديات لإعادة جدولة الدين. ولكن هناك خطر آخر وهو اضطرار الفقراء الى "تسديد أقساط الدين" عن طريق التضخم. يعني ذلك مزيداً من الفقر ومزيداً من الفقراء. هناك نظرية تقول ان تخفيف عبء الدين يكون اما بمداخيل جديدة أو بالتقشف أو بزيادة النمو كي تتراجع نسبة الدين الى الناتج المحلي. فأي حل هو الأقرب الى واقعنا وهل بالامكان زيادة الناتج المحلي؟ - زيادة المداخيل الضريبية أو التقشف هما في الظروف الحالية علاجان قاتلان للاقتصاد، وكفيلان بمضاعفة الأزمة، إلا إذا كانت زيادة المداخيل ستأتي عن طريق مكافحة التهرب من الضريبة وتوسيع قاعدة المكلفين وتحسين أداء وتنظيم وكفاءة الادارة الضريبية، أو إذا كان التقشف يعني وقف الاهدار في الانفاق. من جهة أخرى، فإن الاعتماد على النمو وحده يتطلب تحقيق معدلات تفوق الواقع والامكانات والتصور. إذاً، من غير الممكن الاعتماد على منهج واحد لتجاوز الأزمة، بل لا بد من وجود خطة متعددة الجوانب تتضمن اصلاح الادارة الضريبية، وخصخصة واسعة وسريعة للمرافق التي يمكن أن تدر مبالغ كبيرة على الدولة، مثل قطاع الاتصالات، وزيادة الانفاق الاستثماري وتمويله بقروض حكومية طويلة الأمد، وتقديم الحوافز للقطاع الخاص لكي يقدم الحصة الكبرى في الاستثمار والتنمية. ما هي الاضافات التي يمكن أن يأتي بها الحريري مثلاً كي يطرح اسمه بقوة كعامل ثقة؟ - بعدما ثبت أننا لا نستطيع أن نخبئ رؤوسنا في التراب، لتلافي العاصفة، إذاً لا بد من مواجهة الأزمة وتحديها. وقد عرفنا الرئيس رفيق الحريري في الحكم شجاعاً ومقداماً ومبادراً، ونحن نتأكد يوماً بعد يوم انه علينا أن نتخلى عن التحفظ واهدار الوقت، والتزام الشجاعة والاقدام والمبادرة والديناميكية. ونظراً الى دور الأسواق الخاصة في العلاج، فلا يخفى مدى الثقة التي تخصها الأسواق في الداخل والخارج بالرئيس الحريري