ليس عباس بيضون صاحب معجم شعري ضيق، الا ان القارئ يلحظ في مجموعته الجديدة "لُفِظَ في البرد" الصادرة عن "دار المسار للنشر والأبحاث والتوثيق"، سعياً خفياً الى تكرار مفردات بعينها، خصوصاً في قصيدته "كفار باريس" التي تشكل أكثر من ثلثي صفحاتها. وهذه الكلمات، مثل "لُعاب ومخاط وبصاق وعرق ودم..."، ليست بلا دلالة، بل هي جزء من عصب نصه ونبرته : انها استعارات بيولوجية للكائن الذي هو شخص القصيدة أحياناً، وطيف الشاعر أحياناً أخرى. لكن تلك الاستعارات ليست من ذلك النوع الذي يأخذ مبدأه من اشتقاق جمالي. انها استعارات وحسب، بل هي الكتابة الشعرية ذاتها. لا يطمح عباس بيضون الى تحسين نصه وزخرفته بها، بل هو يحاول ان يساوي بينها وبين الكتابة في كل لحظة. انها شيء من روح قصيدته ولحظة مفصلية من تأليفها. نُدرة السيولة العاطفية والقارئ عموماً لا يجد في نص بيضون ما هو ممنوح ومتاح بسهولة. شعر عباس بيضون لا يستجيب على أي حال لقراءة واحدة. السلوك الشعري في القصيدة سلوك خفي. لقد درّب الشاعر قصيدته الى درجة باتت كلها تقريباً تتحرك وتلمع تحت سطح الكلمات. ليس لأن القصيدة غامضة او صعبة، بل لأنها مكتوبة بفرادة أسلوبية سبق لها ان أبدت لياقة نصية مبكرة منذ بدايتها. وأحد أوصاف هذه الاسلوبية هو الجفاف الذي يطبع معظم شعر عباس بيضون. الجفاف الذي هو نُدرة السيولة العاطفية وثرثرتها، وقسوة التأليف، وتحطيم النثر بدل مدحه، وصناعة الصور من بُرادة الكلمات وعصارتها. الجفاف الذي هو ايضاً تلك القشرة الرقيقة والهشة التي تغلِّف رطوبة وحرارة النص في الاعماق. وهذا الجفاف بدا صفة واضحة منذ "الوقت بجرعات كبيرة" المجموعة الاولى التي نشرها العام 1983. ربما لم يجد الكتاب هذا الوصف كله حينها، ولكنه استحقه بجدارة فيما بعد، والارجح اننا بتنا الآن نلمس ثقل عنوانه وخصوصية قصائده، وبتنا الآن نجد قرابة نصية بين ان يقول في ذلك الكتاب: "الضوء الذي يصعد على المجلس / باذلاً للأواني جلستها المطبخية"، وبين أن يقول الآن: "لا بد أن مخاط البزاقة الشمسي / جسور الى مكان مجهول" ص 34. لم يكتب عباس بيضون - بحسب هذه القرابة - قصيدة واحدة بالطبع، بل غالباً ما كان يلتحق بأساليب وطموحات لاحقة، وبنبرة تكشف مع كل قصيدة عن تحولها الى لغة شبه كاملة. وربما كانت مفردات العالم البيولوجي ومخلّفاته، هي المآلات المفترضة واللاحقة لارتيادات نصوص كتابه الاول الذي كان بمثابة بيان شعري شخصي او هكذا أراد له الشاعر ان يكون، اذ انه في الواقع ليس كتابه الاول وإن كان نشره أولاً. هكذا يمكننا - اذا شئنا - ان ننظر الى فظاظة مفردات البصاق والمخاط والمني وغيرها كحلقة كبرى في سلالة التعبير الشعري التي كان عباس بيضون يفصح منذ بداياتها عن عنف مكتوم سيجد صورته المستقبلة في "أن الكلمات لا تترك دماً / مع أنك تجدها مسحوقة الفقرات" ص 63. ربما يتخلص حيّز غير قليل من تجربة بيضون في هذه الصورة، او في الكتابة بهذه النوعية من الصور التي تمنح قصيدته حياة سرية تكفل لها التباس المعنى ومجهولية المبدأ الذي كتبت به، وهذا ما يحدث حتى في النصوص التي يكثر فيها التعداد الحياتي لأشياء الواقع ومشهدياته كما هو الحال في قصائد "لُفِظَ في البرد" الثلاث. غالباً ما نجد القصيدة مع بقاياها الثمنية ومع ما يبدو - وهماً - انه طُرح منها. ذلك يشبه ان تنظر الى سمكة منظفة الى جوار أحشائها. عباس بيضون يحاول أن يساوي بين مكونات القصيدة كلها، بين ليونة معناها وفظاظة مفرداتها، بين مخيلتها الفاخرة وبين أسلوبها ال "تحت واقعي"، بين استعاراتها المتتالية وبين طبيعتها اليومية الخفية التي يمكنها ان تقود القارئ، كخريطة واضحة، الى ذهب المعنى. ولذلك فإن قصائد المجموعة ليست أُعطية، يبطئ الشاعر انسيابتها واسترسالها بحجارة المعنى وقسوة الصور. وهذا ما يجنّبها التحول الى غناء دارج، تقع فيه قصائد وتجارب كثيرة يساوي اصحابها بين التدفق اللغوي والعاطفي والغنائي، وبين القصيدة نفسها... فتتم التضحية بالمعنى لصالح الايقاع، وبالشعر لصالح الغناء. مع ذلك فالقصائد الثلاث في المجموعة لا تخلو من الحب. وهذه احدى خاصيات شعر عباس بيضون الذي يبدو لكثرة التباسه بلا موضوع محدد. والحال فإن هذا ليس موضوعاً، ولا يطفو على سطح القصيدة بل هو لا يترسب في مقرها أيضاً! ليس الحب غزلاً او تشبيباً، وهو ليس امرأة كلية الجمال تحتل مساحات القصيدة وتفاصيلها. "شعرك ثقيل / لن تستطيعي رفعه عن المخدّة / لن ترفعي بسهولة / مشابكه الكثيرة الأقفال / ولا جدائله / المقصومة من وسطها / لن تستطيعي / هكذا هي الحياة / التي فجأة / لا نستطيع تحريكها / بإصبع قصير" ص 52. لا يضع عباس بيضون امرأة أو حباً، أو حتى طيف حب على منصة ويمدحها. الحب شيء لا يظهره الشاعر للقارئ بقدر ما يُسره لنفسه، ولا يصفه كما يحلو للقارئ او كما تعوّد. ليست المرأة شكوى وانتظاراً وخلاصاً، كما انها لا تظهر الا كتفصيل صغير في أداء القصيدة ومعناها الشامل انها احدى خلاصات هذا الاداء وهذا المعنى. والغريب ان التفصيل المفضّل عند عباس بيضون في نصوصه الاخيرة هو الشَّعْر يذكر ذلك عشرين مرة في مجموعة "لمريض هو الأمل"، وأحد عشر مرة في قصيدة "كفار باريس" فقط، هذا اذا استثنينا الحواجب والرموش التي هي شَعْر أيضاً. ولكن الشَّعْر هنا لا يرد في تشبيهاته ومدائحه ورطانته التي شكلت وتشكل مساحة لا يستهان بها في الشعر العربي. بل غالباً ما يُدرجه الشاعر في حواس القصيدة، ويمكنها ان تختلط بمفردات الفضلات والتشظي البيولوجي: "تتفلين هذا الشَّعر الذي تجدينه في لعابكِ" ص 55. هكذا يمكن الشَّعْر ان يكون كاللعاب او العرق، ان يظهر قَرَفُه وأن يضاف الى قماشة الاسلوب التحت واقعي. ومعظم قصيدة "كفار باريس" مكتوب أصلاً بهذا الأسلوب الذي يضاهي بعض اتجاهات الفن التشكيلي القائم على إبراز جماليات المخلَّفات والنفايات الآلية والافرازات التكنولوجية، وهي اتجاهات لا يخفي عباس بيضون - في نقده التشكيلي - افتتانه بها. "كفار باريس" - على أي حال - هي قصيدة مدن حديثة غارقة في جحيميتها، مكتوبة برؤيا مجهرية تذكرنا بالنماذج الكبرى لرثاء المدن وتفتتها الحضاري والبشري. وهذه القصيدة الأوسع مساحة في الكتاب، والأكثر اشتمالاً على مناخات ومكونات وخلاصات تجربة عباس بيضون الأخيرة، ينبغي أخيراً أن نشير إلى نَفَسَها الاليوتي الذي عرف عباس بيضون كيف يحوّله الى توقيع شخصي كبير