في "لفظ في البرد" ديوان عباس بيضون الاخير دار المسار- بيروت - 2000 مكابدة صعبة بين ما تسمح به الحياة من الشعر، وما يخون او يخاتل به الشعر الحياة او لا يخونها به بل تصفها، كل ذلك من خلال اللغة التي هي اداة الشاعر الوحيدة، وبالتالي هو هي. ولا ننسَ انفسنا، كقارئ فالشعر اقتراح والقراءة كذلك. خصوصاً اننا امام شاعر صعب، بل قاسٍ في تعامله مع الحال، واللغة، والآخرين. واحياناً يضع امامك القصيدة باخلاطها الاولى، فمن سواه، على سبيل المثال، يذكر، كما في قصيدة "كفّار باريس" اولى قصائد الديوان، انهم "لم ينبشوا كفاية في المراحيض روكان يمكن ان يجدوا فيها / التخطيطات الاولى للصوامع / والاضرحة / .... .... / اذا وجدوا حجارة كانت تحيض / فلانّ الاسرار تخرج دائماً مع الدم / والكائن يستفرغ عظمه ولبّه اوّلاً / لا بد انّ مخاط البزّاقة الشمسي / جسورٌ الى مكانٍ مجهول/ .... .... .... فإنّ المراحيض وحدها متاحفنا / لا فائدة من المطرقة / ما من خطة لتبديد الكائن"؟... فالشعر هنا، لا لتلطيف الوجدان او دغدغته، بل لبقر الوجدان بقراً مباشراً بمخرز اللغة، وكشف احشاء "الحال"، والحال هو هذه اللغة بالذات، ذلك ما اشار اليه ت.س. إليوت في ما سمّاه "المعادل الموضوعي" للشعر او القصيدة. هذه الكتابة الشعرية "بالمخرز" تسم ديوان عباس بيضون، ولعلها كتابة تمشي عكس سير الكثير من سائد الوجدان الشعري العربي في تاريخه وحاضره، الوجدان العاطفي او الغنائي، او البلاغي... وهي تحصّل صورتها او وجدانها الخاص بها اذا كان لا بدّ من كلمة وجدان من هذا الاتصال الفذّ والجارح بين "الموضوع" و"الذات" والذي تحققه اللغة، فما دام ثمة "دم في سرير الحب" و"مخاط على خصلات الشعر"، فلماذا لا ينكشفان في القصيدة؟ على ما يقول: "لا تدنُ / لهاثك يزيّت / لا تدنُ / مخاطك على خصلاتي / والرطوبة تجعل لعابهم في روحي / تعطيش الاشجار يجعلها اقلّ ذباباً / لكن الذباب ايضاً في المخيّلة / اذ يحسن ايضاً تجفيف الحجرات / وشراشف السرير / واجزاء كبيرة من الذاكرة واللغة". ويحسن ان نسأل، في "المعادل الموضوعي"، اين هو الذباب؟ على الشجر ام في الذاكرة وفي اللغة؟ واين هو المخاط؟ على الخصلات ام في "اللغة"؟... ويظهر احياناً انه ليس ثمة من جدوى للسؤال، او للبحث والتمييز. فما هو هناك هو ايضاً هنا... او انّ كل شيء ليس سوى قصيدة، في الشعر. يقول عباس بيضون: "كل شيء لفظ" ص 16 من كفّار باريس. وما جدوى السؤال عن اصل الشعر في الحياة. او جذور ومحرّضات اللغة، ما دام الشعر هو الشعر او الوجود الشعري. واللغة مولودة اصلاً من اجل ان تنفصل عن اصلها، في قلب الاشياء. ومن الشفتين، وهذه هي قوة اللغة وقوة الشعر، في ما يشبه الاستقلال، اي انه يعادل، في "اللغة"، موضوعه في "الحياة". يقول عباس بيضون: "لكنك اذا نظرت الى لون الجعة / هدأ روعك / وقلت في سرّك: انّ هذا مجرّد لغة" من قصيدة كفّار باريس. والمسألة تصل بنا في هذا الشعر الى قوّة خاصة به، هي قوّة "الوهم"، وهي قوّة كبيرة مصدرها المخيّلة، وأدواتها في الكلمات. وعلى رغم معرفتنا بمصادرها وادواتها، فإننا نعترف بهذه القوّة، ونمارسها، ونفعلها وننفعل بها. هنا، ليس من الضروري ان يكون عباس بيضون قد عاش بالفعل في "باريس" لكي يكتب قصيدة "كفّار باريس"... "ولعله عاش هناك مدّة من الزمان"، اذ هو يذكر الانفاق والمترو والمشي فيه "كالمشي في الشرايين..." المهمّ انه قدر على اختراع المدينة من داخله الشعري، ومن جوفه الخاص... هكذا بكامل صفاتها الموجودة في القصيدة. وما "لفظ في البرد"، لفظ ونطق. قد يكون حكماً قضائياً. يقال "لفظ الحكم في ..."، وتأريخه في البرد طقس نفسي. وقد يكون ولادةً، اي خروج ما في الاحشاء الى الخارج. وما بين "لُفِظَ" و"رُفِضَ" في اللغة جناس غير تام، لكنهما تشتركان في إشارة المستور ودفعه الى الخارج، طوعاً او قسراً. فلُفِظَ تعني رُفِضَ بشكل او بآخر، وفي المعنى مسحة إدانة، او اتهام. قصائد عباس بيضون تمشي في اتجاه هو في جوهره إدانة. نحن لا نجد انفسنا معه، في صحبة شاعر يسترخي بالقبول، ويدرجنا في هدوء القبول. شحنة من التوتر تصاحبنا في القراءة. ثمة كميّة من الاصابات، من المرض، والقرف، تصاحب القصائد. وقد يتركها الشاعر تزيد او يلحّ بها احياناً، ومن البداية، لكي يدرجنا فيها، بلا حرج "لماذا لسانك اسود؟ / قال الدوريّ: لأني نظرت في ماء وسخ / ... لأن الغيوم جرداء وتتفل وربما تبول في الاعلى".. "تتفل فوق صلعاتنا السماء" "البرد يجفّف كل هذا البصاق" "الغيم يتدكرب في كل اتجاه / جاراً معه خيط مخاط ثخيناً / دعوه يهدر من دون صوت / باصقاً جملةً لا طرف لها... الخ"، ثم إن السمّ موجود في القصائد كطقس، كذلك المرض، والسواد... في كل شيء، حتى الحب. القصائد تنتهي بالجملة التالية "ووجهك مريض بالقمر" من قصيدة ربيع المرض. وهذا الطقس الكافكاوي الاسود في الشعر يظهر كجناح غراب ممدود على جميع القصائد: "الهاتف اسود يا سيّدي / ولا ينبح... لا تأمني ان يكون الغصن اجوف... قد تلسعك الزهرة... املئي رأسك من بنج السهرة... العصافير سوداء في قارورة الكحل... التفّاح اسود... اذا تعثرت بنفسي قلت هذا سمّ بدني... مرضعتي السوداء... اذا ظهر الهاتف الاسود / ضريراً، وربما ميتاً..."...الخ. وهذه الجمل الشعريّة مقتطعة من قصيدة واحدة هي الاخيرة في الديوان، بعنوان "ربيع المرض". ولعلها قصيدة حب، لكن ربما سميتها "القصيدة السوداء"، قصيدة مؤثرة ذات طقس مكفهرّ وأسود... بل اكثر من ذلك "سوداوي"... حسناً، سيكون كل شيء يلفظ في القصائد تبياناً من حيث هو "لفظ" او إظهار، ولكنه في الوقت عينه، إدانة من حيث هو رفض او حكم. من البداية الى النهاية، هكذا ستظهر في باريس او في جوف الرؤيا الشعريّة الشمس مرسومة "باللون الجيري" ومتروكة "تسلح في مكانها"، "كاتدرائيات ضخمة" إنما هي "بلا وزن على الاطلاق"، رذاذ، يصل "ميتاً" ومع ذلك "تتنفسه"، الجسر، ولكن يسير عليه الاجنبي الشاعر، مثلاً كيتيم. وحده: "انا يتيم هذا الجسر"، قساطل وضواحٍ من "فلّين"... الى آخر ما هنالك مما يمكن ان يولد او يلفظ من اشياء واسماء، ليضمحلّ فجأة، او ليموت، كفقاعة. في نهاية المقطع الثالث من "كفّار باريس" يكتب عباس بيضون السطرين التاليين: ذلك كله لفظ في البرد ولم يطل مكثاً في البرد وفي المقاطع التالية، يتابع الشاعر ما "لفظ"، و"لفظ"، ما ولد، ورفض. بالمدينة كلها، يقول، كلاعب مغامر وخاسر "لعبنا على باريس وخسرناها". فهو في داخل المدينة، كما هو في داخله او جوفه اسير النفق القوي، النفق الغامض، المترو "غول باريس" و"غول الشاعر"، فما "من شيء في قوة النفق"، والمشي في الانفاق "كالمشي في الشرايين" والقطار الهائل الهائج "يرحل عكس النهار"، إنه، كما يقول "يرحل الى الوراء"، فما يصفه عباس بيضون هو مدينة يانعة بأسباب هلاكها... ليست باريس وكفى، بل هو ايضاً كمدينة... وكل ما يحيط به او يمرّ به من إشارات وأسماء، اشخاص واماكن وحوادث، ليس سوى تكئات لكتابته هو، لشعره، لذاته. خذ مثلاً، ذكره، في مقطع من مقاطع القصيدة، لسمير خدّاج... الرسّام اللبناني المقيم في باريس، في غرفة تابعة لمستشفى الامراض السرطانية... هو يقول.. سمير خدّاج المقيم في مستشفى للسرطان يصنع جداريّة كبيرة من اوراق الخريف / السرطان اكل عروقها وبالتأكيد رائحتها / لكنها مع ذلك اوراق للشفاء / اهدي بعضاً منها الى نهلا وحسن وأختي وانا آكل منها ايضاً اذ لا احتاج بعد الى التأكّد من انني لست مصاباً. رسم ياسمينة لم تظهر على اللوحة / رسم شجرة بلا اي شجرة على الاطلاق". هنا، سمير خدّاج، وسائر الاسماء والوقائع، مثلها مثل باريس ومعالمها وبعض إشاراتها وامطارها والنفق والمترو والمقهى... كل شيء إشارات تمويه تقود الى اصحابها لكنها دائماً تخسر طرقاتها لتقود الى الشاعر. أعني، على وجه التماثل والتقريب، مثل قوله إن اوراق السرطان اوراق للشفاء، وقوله في آخر المقطع "رسم شجرة بلا اي شجرة على الاطلاق". وعباس بيضون في كتابته، لا يقدّم مراثي او تفجّعات ولا يرغب ان يثير اي سخط او قرف او اي انفعال يرتبط بأعصاب عاطفية. هو هكذا يدفق كل شيء. كل الكلمات، دفعة واحدة، يلفظها، كولادة ضرورية ولا بد منها. ولا بد ان يخرج فيها الطفل مع الدم والرفث والقيح والصراخ. الفرح نابع من مجرّد الولادة، لا من اي شيء آخر... حتى انّ ما يصرخ فيه من خلال كلماته، ليس الماً على وجه التحديد. هو كتم الالم. وصراخه، وإن كان يظهر احياناً كصرخة "مونش" في لوحته المعروفة للشخص فاغر الفم الجالس قرب خط مرور القطار... إلاّ انه ينطوي على كتمان، مكابرة تصل لحدود العدميّة... ويتكئ في قصيدته المسمّاة "بلا سبب" على احالات واستعارات من الماغوط والالياذة وربما نيتشه... يقول، في ما يذكّرنا بالماغوط في مسرحيته "العصفور الاحدب": "ماذا لو كان الملاك احدب؟". وفي ما يحيل الى نيتشه في قوله: "هذه الحياة... انها اهون من ان نهتم بها... إننا نعطيها لخدمنا لكي يعيشوها" يقول بيضون: "ليس الماً / إننا نتركه لخدمنا / مع الحياة التي بالكاد احتجناها / ونثرناها بلا حساب على رفقاء الطريق". في مثل هذا الدفق الاول، التلقائي ظاهراً - في حين انه مدبّر لمدّة طويلة ومخزون في اللاوعي، ولا نبرّئ الوعي الثقافي منه ايضاً - تخرج الكلمات والجمل والقصائد منثورة بتقنياتها ومفرداتها وتوازناتها. بين التدبّر الثقافي والانفلات الغريزي تتحرك قصائد "لفظ في البرد"، ما يشدّها خيط اسود قادر ان يشيعه بيضون في لغتها كما في احشائها. والدخول معه الى دهاليز قصائده، شبيه بالفعل بالدخول الى رسوم سمير خدّاج "المقيم في مستشفى للسرطان يصنع جدارية كبيرة من اوراق الخريف"، كما ورد في احدى قصائد الشاعر، فالطقس النفسي واللغوي للقصائد طقس ضاغط، وربما لا يستطيع احتماله كثيرون من شعراء او قرّاء للشعر. ذلك هو استحقاقهم كما هو استحقاق الشاعر. شخصيّاً، وبعد ان قرأت المقطع التالي لعباس بيضون: "... لكنّ قلبي وفمي في مكان واحد / قلبي واسناني في مكان واحد / في المحل ذاته / في الثقب ذاته / يعملان ويتعاضّان"... وجدت نفسي تجاه هذا الشعر، على رغم وقوفي في الكتابة، في مكان اسلوبي آخر، شبيهاً بالطبيب في قصة "العنبر 7" لتشيخوف، التي تأثِّر بها كثيراً يوسف ادريس، وكتب على غرارها "لغة الآي... آي". والطبيب هذا كان يعالج مرضى في مستشفى للامراض العقلية، وكان بينهم مريض فيلسوف يقول للطبيب ان الالم الحقيقي، والجنون، بلا إصابة، بلا تجربة، لا معنى له. وانتهى الطبيب، في آخر القصة، بأن ادرك صحة ما كان يدعيه المريض... هكذا ايضاً بطل يوسف ادريس في "لغة الآي... آي". * شاعر لبناني.