الكتاب: لُفظ في البرد شعر الكاتب: عباس بيضون الناشر: دار المسار - بيروت -2000 لا أحسب ان الشاعر عباس بيضون يتناول علاقة الأجنبي، أو المسافر أو الكافر كما يسميه بمدينة غربية هي باريس هنا إلا ليذهب الى أقصى فكرة الامحاء والزوال، للمقتلعين من ذواتهم وجذورهم الشخصية والعامة، والعزّل في الأمكنة الغريبة والأزمنة المريضة، العزّل حتى من ذكرياتهم، وربما من حركة اجسادهم. فربما أننا، هنا وهناك، لا نجد فنادق ضخمة لذكرياتنا، و"الزوال وحده يفكر الآن/ أو ينشئ ذكريات ضخمة/ لا تجد من يستحقها" وكل شيء "لم يطل مكثاً في البرد". وهنا وهناك، "لا نجد باباً/ لا نجد جذراً في الجرح اليابس". وهنا وهناك، لعبنا ونلعب بأجسادنا وذكرياتنا وأحشائنا وأسماء ديداننا: "لعبنا على باريس/ بحاجبيّ واحداً فواحد/ بالكلمات التي غيرت جنسها/ بالأحرف/ بأسمائنا النادرة/ بميناء أسناننا/ وأسماء ديداننا". لكن فكرة الزوال هنا، استدعت اقصى عالم الامحاء الذي شيّده في عالمه الشعري "قصر البرد"، من خلال علاقة بين بطلين شعريين: الأجنبي والمكان... المسافر المقتلع من جذوره، في مدينة تلفظه كالبرد، وكأنها تستفرغه، كما يستفرغ "الكائن عظمه ولبّه أولاً". بهذا المعنى تبدو مجموعة "لفظ في البرد" الجديدة للشاعر عباس بيضون، وكأنها تضيء على وجوهنا المنقرضة وأزمنتنا المريضة والمتلاشية والممحوة، من خلال فكرة الاقتلاع، وزوال كل الأشياء، ولفظها كالبرد. وقد تبدو فكرة المجموعة، غير جديدة، إذا افترضنا انها تتحدث عن علاقة الأجنبي الوافد بمدينة غربية، هي باريس هنا والآن تعددت الهجرات الى أمكنة اخرى أيضاً. فمسرح القصائد باريس، قد شغلت اكثر من عمل ثقافي وأدبي وفني في الثقافة العربية الحديثة، من كتّاب النهضة الى أهل الحداثة. لكن جديد المجموعة هو أنها تحمل عالماً آخر للكتابة، وتحمل أسئلة أخرى وزمناً آخر هو الآن وتجربة جديدة في الشعر، تحمل من الألم والجرح والأسئلة ما يجعل المجموعة، في مكان آخر للشعر، وفي أسئلتها ما يضيء على أزمنتنا الراهنة، من خلال فكرة الاقتلاع والزوال. فالمكان في "قصر البرد" مكان لكشف العلاقة بالأنا والذاكرة والآخر. مرايا لفكرة الامحاء... ولذا لا تحضر باريس هنا، للتعبير عن صدمة بالحداثة، أو مكاناً للعلاقة بآخر، أو للحوار، أو عامل انبهار بزمنها، كما لا تحضر "كعاصمة أنثوية"، أو للتلاقي بين الشرق والغرب! إن فكرة الإبادة هنا، تجعل من الكتابة في عالم "ما لفظ في البرد"، ليس مجالاً للسكع الشعري في حانات اللغة البكائية أو النوستالجية، أو البوهيمية، كما جاءت في الكثير من كتابات تجربة الغربة والاقتلاع، وليست أيضاً لتداعيات شعرية هامشية ما، في وطء المكان او الشعر. في العلاقة بالمكان هنا، تبدو فكرة الزوال فلسفية، إلا انها لا تتقدم بشعارات أو أفكار. الرؤية أبعد ما تكون عن العبثية الذهنية وأقرب ما تكون الى العدمية الحسية. فعباس بيضون، كعادته في بنائه الشعري، ينطلق دائماً من التفصيلي المشهدي لنصل معه الى تخيل الفكرة أو التقاطها. ومن التفاصيل البسيطة يبني ملحمته الشعرية. وهنا في عالم ما "لفظ في البرد" لا تجريد ولا ثرثرة ولا رؤى عبثية ذهنية أو خطابية لفكرة التغريب، والأصح الاقتلاع هنا والزوال. وفي العلاقة بالمكان هنا تكون العين هي المدخل ومفتاح الشعر. ولغته هنا لا تحتاج الى "طلسم"، تماماً كما لا يحتاج المسافر هناك الى "طلسم أو إصبع زائدة". فحين إصبع الشعر الزائد هنا على عالم شعري جديد بعناصره على الشعر، بل منبوذ وملغى لأنه من عالم البشاعة والقباحة، فإننا معه نصل الى "حقائق كثيرة" للشعر، وإن لم يستطع الأجنبي في "قصر البرد" أن يحمل "حقائق كثيرة الى هنا". فإصبع الشعر دائماً على الحياة والأشياء. الحياة هنا التي يقول عنها: "فجأة لا تستطيع تحريكها بإصبع قصير"، ثم يقول عنها في مكان آخر: "الحياة التي نصنعها دون عناء/ بأصابع ثلاثة- ص 76". الكافر والمدينة. بين أنا الأجنبي أو ذاته والمدينة، مناخ سوداوي خارجي وداخلي، وحركة ابتلاع، بل زوال. فالكافر ليس أمام زمن مغلق وإنما في مواجهة الإبادة: الطلسم هنا في مدينة النيون الصغيرة/ الرجل مع كلبه تحت النيون/ الكلمات معظمها محبوس/ والمطر قد يهطل أولاً/ كثير الإبادة/ أول الأحد الأجوف/ صفر الأسبوع/ صفر باريس. إن صورة الأنا الأجنبي بلا جسور، والزوال وحده يفكر، ولا شيء سوى الماضي والذكريات: "هنا لا نزرع جسوراً"، أو: "الزم الجدار لئلا تفقد نفسك" أو: "إنه عكس النهر/ لا يرحل الى الوراء/ الشجرة تركض الى الماضي". إن صورة الأجنبي ليست كذلك فقط، بل إن ظله "كشجرة مأكولة". لا شيء سوى "اسمك فقط فقرة ظهرك"، الاسم "الذي لن يبقى معك في المحطة التالية" وحيث "الطبل ينفع اكثر من الاسم". ولا شيء للكافر سوى الذاكرة: "ستجدون القاف جبلكم الأقدم/ سترون جداتكم اللواتي خدمن كأمثال". اما صورة المدينة للأجنبي فنتلمسها في مناخين: مناخ لوني ضبابي طبيعي، كما تلتقطها عين الرسام للطبيعة الشتائية هناك غيم، عتم، شتاء، امطار، برد ومناخ سوداوي داخلي يعكس رؤية الشاعر الداخلية الذاتية السوداوية. فالمدينة للأجنبي ليست فقط "طباشيرية" أو "ماكيت مدينة"، و"ضواحٍ من فلين"، وحيث "النهار خشبة" و"النهار رصيف" و"النهار من طبشور" وإنما هناك عتم سحيق وسوداوية موحشة باللغة: "الأمطار تملأ باريس بالأشباح" و"النواقيس تملأ باريس بالأشباح" و"الغيم يتدكرب في كل اتجاه" و"الغيم لا يكذّب أحداً"، و"العتم السحيق" والشتاء "الذي يغفل ذكريات المدن البعيدة"، و"الغيم الذي يبصق جملة لا طرف لها". والسوداوية تتعدى المناخ الضبابي الخارجي الى الإحساس بالروائح الحامضة وحضور للعناصر الوسخة هنا وهناك: سائل وسخ - نظرت في ماء وسخ - زووم بستانك - الروائح الحامضة - الهاتف الأسود - الأشباح السوداء - العصافير السوداء - التفاح أسود - السطور سوداء في جسدي. إن السوداوية تصل الى تصوير الحركة الداخلية والجسدية، الى الإحساس بالاختناق والموت الحسيين، في تصوير هذه الحركة من خلال عناصر الزجاج كعنصر شفاف والنفث والهواء في امكنة عدة في المجموعة: "انفخوا على الزجاج فتجدوا وجوهكم" و: "إذا تعثرت بنفسي/ قلت/ هذا سم بدني/ وأنا أنفثه على مرآتي". وأيضاً: "بلا سبب يتزايد الملح في النفس" و: "الرذاذ يصلك ميتاً" و: "هواء ميت آخر يدخل فيك". وحتى عناصر الطبيعة، من غيم وشتاء، لا تحضر بذهنية شعرية رومنسية او تجميلية أو غنائية، فوريقات الورد والشجرة والقمر عناصر مرتبطة بسوداوية وقساوة وألم ومرض: شجرة مأكولة - الغيم الذي يجر معه خيط مخاط ثخيناً - البرد الذي يأخذ البصاق - الربيع الذي يجعلني مريضة - والوجه الممروض بالقمر - والقمر جاف على القساطل. وبين الحركة الداخلية الذاتية والخارجية تقدم المجموعة حركة بصرية مشهدية، وليس مناخية نفسانية أو خارجية. بين يدينا نقرأ غناء الدلافين الضائعة، غناء المسافات، غناء الفواصل، القطارات التي تنتظر، القطار الذي يصفه بلسان الليل، فرط سماع الموسيقى، تأمل الأمطار، الحقيبة التي "طبعة قدم مجسمة/ عتبة تعب من جرها/. نحن أمام عالم شعري جديد استدعى حقيبة من العناصر واللغة والصياغة الشعرية الجديدة على دخولها، عالم ما هو شعري، وعلى قاموس شعري بكامله. مجموعة تدعنا نرى ونحس ونتحسس ونقرف وتشتغل معها كل حواسنا، حتى الشم منها: نحن لا نرى الخيالات على المقاعد أو أضواء النيون أو المطر، وإنما نسمع صوت النعال وكعب الحذاء وصوت رمي "الصوت في القارورة". تقرأ عناصر جد جديدة على الشعر وجد قاسية وقذرة، من احشاء الإنسان الى الجير واللعاب، ميناء الأسنان، الاستفراغ. وفي حركة عالم من الشعر مهجوس بمناخات الامحاء والمرض والألم وقساوة الأشياء. عالم مريض وممروض ليس لحضور عناصر مفردات المرض من "بنج السهرة" أو "ملاعق الأدوية" أو "وجهك مريض بالقمر" وإنما لإشارات أخرى كثيرة. وما اختيار الكتابة عن اعمال الرسام سمير خداج والسرطان، إلا لتكامل الهاجس في المجموعة. التعبير عن الزمن المريض والجسد المريض وفكرة الزوال. وما عناصر البصاق والديدان والمخاط وغيرها من العناصر البشعة والمقززة، إلا كحقيبة من المفردات كما قلت، لخدمة الرؤية أو للتعبير عنها. ففي أمكنة متعددة من المجموعة نقرأ: مخاط البزاقة - المكان يستفرغ عظمه ولبّه - تتفلين هذا الشعر الذي تجدينه في لعابك - تتفل فوق صلعاتنا - المراحيض وحدها متاحفنا - البرد أخذ كل بصاقنا - البرد يجفف كل هذا البصاق - مخاطك على خصلاتي - الذباب في المخيلة. إن قصيدة عباس بيضون في مجموعة "ما لفظ في البرد" لن تكون ترفاً شعرياً، إذا ما قاربها بافتراض المتوقع مما هو جمالي في الأشياء واللغة والعالم، وإذا ما تذوقها من إرث المتخيل الشعري الموروث الذي يستدعي نسقاً من الكلام والعناصر والخيالات التي ترتفع بالكلام الى ما هو شعري في الجميل وحده. فالقصيدة هنا لن تكون ترفاً للقراءة، كما هي عند الشاعر ليست ترفاً للكتابة. فحين يكون الألم نبض اللغة والرؤية، وحين يكون الكلام عن الزوال والعالم الممروض والوسخ والقذر، يكون السؤال عن سعر الكلمات. إنه الألم الحاضر بقوة وقساوة وكهاجس: "ما سعر كلماتك يا سيدي إذا كان غليك اكثر"، و: "ليس للألم قناع للسفر"، و"الألم نفسه لا يستطيع ان يستوطن" و"المكان الذي هجره الألم" و"ليس ألماً هذا الحجر الذي لم يسافر لثقله" و"إذا انقطع الألم /فجأة/ من جسم الوردة" وأيضاً: "ما هو سعر كلماتك إذا اختفى الألم". المكان والتفاصيل ومرايا اللغة إن الألم حين "الزوال وحده يفكر الآن" والألم من فكرة الامحاء، افترض برودة عين وبرودة شاعر وبرودة لغة، وحيث العالم الشعري لا يزين الألم ولا يقوم بتمرينات كلامية عليه، ولا يجمله، بل يستعين الشاعر هنا بما هو مقرف من الكلام احياناً، ليس للدلالة على بشاعة الزمن وقذارته فحسب، بل لأن الشاعرية هنا تتحقق بأدوات من قباحة الكلمات. وكأن بشاعة العناصر من بشاعة العالم ومرآة له. وعلو اللغة من "حضيضها وقاعها". وأناقة اللغة من "حثالة" المفردات، كما شفافية الألم من قساوة العالم. وكأن فكرة الزوال أىضاً لا تحتاج الى وهم أو استيهام الشعر، في مكان متخيل آخر. وربما الشاعرية هنا تريد أن تتحقق مما هو قذر وبشع وقاس. ربما ذلك، وربما لأن عباس بيضون مفتون دائماً بذاكرة أخرى للكتابة، مفتوحة على أشياء الحياة المهملة في القاموس الشعري اللغوي، وإنما يريد ان يختار بحرية عناصر ادواته الشعرية. فكما كاميرا السينمائي تلتقط أو تصور بلغة جمالية عالم البشاعة والقذارة، أو أشياء الحياة الأخرى، وكما لوحة الرسام قماشة لحرية في اختيار العناصر، حتى المهملة والقبيحة، كذلك يفتح الشاعر بيضون اللغة الشعرية على أشياء الحياة بحرية. إذ ليس المهم ما نختاره من عناصر الأشياء والأشياء، وإنما المهم ماذا وكيف نقول، وما الذي نريد قوله. وربما هذه الحرية هي اهم ما في فكرة ما بعد الحداثة. والشاعر بيضون تحاول قصيدته منذ البدء التحرر من المقياس والشرط الشعريين التقليديين. وهو دائماً أخذهما الى مكان آخر. وهنا في مجموعته الجديدة ندخل الى عالم شعري لا تنقطع صلته وأدواته وشواغله عن عالمه الشعري السابق. فالأشياء والتفاصيل المهملة مجلى، حنفية، قساطل... وعناصر كثيرة شغلته كثيراً والأشياء والمكان دائماً مسرح لقصائده. وإذا كان ثمة عناصر في المجموعة قد شغلته في مجموعات سابقة، فإنها هنا تحضر بقوة وبتكثيف، وتبني عمارة النصوص الشعرية عليها. ومن التفاصيل الصغيرة يبني ملحمته بشاعرية عاطفية، على رغم القساوة والحدة "والتطرف اللغوي"، إذا صح التعبير. وإذا كنا أمام فرادة متطرفة لما هو مقزز ومقرف، فالأشياء تحضر بلا تضخيم أو ثرثرة لغوية. فالرؤية لا تحتاج الى لعب، ولا تجميل، وحركة كاميرا القلم السينمائية تتجول بين العناصر، وبين ما هو داخلي ذاتي وخارجي، وبصياغة لغوية تستقي عناصرها من مناخات خارج سجن ما هو جمالي. وكاميرا القلم حاضرة بقوة على الأشياء والمكان والتفاصيل الصغيرة، كما دائماً في قصائده سابقاً، لكنها هنا تحضر بمناخ شعري آخر، وزمن آخر، وقول آخر. والمكان دائماً هو البطل الذي يقول رؤية وزمناً وهاجساً. ففي قصيدة "صور" مثلاً قبل الحرب فإن مسرح المكان تواصل مع الذاكرة والانتماء. مكان لملحمة الاتصال بالجماعة والحركة والحياة وأشياء العيش. وهنا المكان مكان الآخر "الاقتلاع والزوال" صورة للتلاشي والامحاء والانقطاع عن الذاكرة. وفيما المكان في مجموعات سابقة بدا مؤسطراً وتاريخياً، ويميل في إحداها لا أذكرها بالتحديد الى ما يشبه القصور، هنا المكان في "قصر البرد" لا يتأسطر، بقدر ما يحمل صوراً للامحاء والزوال. سوداوية وجروح وألم وعالم ممروض ومريض، في أزمنة التلاشي والانقراض، وحيث المراحيض "هي متاحفنا". لكن عباس بيضون، كما لا يستطيع "أن يكسر اللا عن النعم"، يمجد الجذور بلا خطابية أو شعاراتية، في قصائد أشبه بمونولوغ وحيث لسان الشاعر لا يحكي فحسب، وإنما يستنطق الأشياء، والأشياء تقول، والزمن يقول، والعناصر تقول، هنا وهناك في القصائد: قال الدوري، قال الأسود، قال الروسي، قالت العتمة، قالت الببغاء، وحده الأجنبي يقول، قال كبرياء العاشق، وقال القميص الذي يزفر آخر ذكرى في جسمه وقالت طرقة حذائك، فحين تقول الأشياء لغتها، حينها الكلمات "التي تحيا ككائنات منفصلة" في الحياة، تصبح متصلة في الزمن الشعري الذي يكشف ان أزمنتنا الحاضرة، وباللغة التي تأخذ الشعر الى أمكنة اكثر احتمالاً لمرايا الزمن والحياة. والشاعر هنا "ليس من بحة ولد، أو من خطأ إملائي" وإنما من بداية لذاكرة اخرى، ومرة اخرى لشعر آخر.