الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب يشكّل بداية النهاية للحقبة الكيسنجرية في لبنان. هذه الحقبة امتدت إلى ربع قرن 1976 - 2000 وكانت تقوم على معادلة اقليمية سورية - إسرائيلية عبر لبنان، وظلت حتى الأمس القريب قاعدة للسياسة الأميركية في الشرق الأدنى. لقد قامت نظرية هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي السابق على أن قيام دولة راديكالية يسارية في لبنان بواسطة التحالف الفلسطيني - اليساري يدعمها الاتحاد السوفياتي، سيشكل خطراً استراتيجياً على مصالح الولاياتالمتحدة في المنطقة، كما سيهدد أمن إسرائيل وسورية... والنفط! وحيث أن لبنان غير قادر، وغير راغب، في التصدي لهذا الاحتمال بواسطة قواه المسلحة الذاتية كما فعل الأردن عام 1970، لأسباب عدة بنيوية تركيبة النظام وسياسية علاقة الفلسطينيين بقطاعات لبنانية مؤثرة... عمد كيسنجر إلى تبني نظرية "نظام الخطوط الحمر" أي دخول القوات السورية إلى لبنان يقابله احتفاظ اسرائيل بمنطقة نفوذ في الجنوب على بعد 40 كيلومتراً من حدودها الشمالية. ورسم خطوط حمر بين النفوذين السوري والإسرائيلي في لبنان، وهو ما يعني عملياً وضع لبنان تحت "الكوندومينيوم"، ومعناه ان تشترك دولة أو دولتان أو أكثر في ممارسة السلطة داخل بلد ثالث. لقد جرت محاولتان لكسر هذه المعادلة الكيسنجرية وفشلت: واحدة قام بها المبعوث الأميركي إلى لبنان فيليب حبيب عام 1982، وأدت إلى اخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بعد محاصرة إسرائيل للعاصمة اللبنانية، ولكنها لم تصل إلى كامل أهدافها القائمة على إخراج كل القوى الغريبة من لبنان بنهاية العام 1982 بمن فيها السورية والإسرائيلية والإيرانية...، وذلك إثر اغتيال الرئيس بشير الجميل، مما جعل فيليب حبيب يتحدث دائماً عمّا يسميه "الفرصة الضائعة". أما المحاولة الثانية للخروج من القفص الكيسنجري فقام بها العماد ميشال عون 1989، مستنداً في ذلك إلى تأييد قسم من اللبنانيين ودعم فرنسيو لكن هذين التأييد والدعم لم يكونا قادرين على رسم معادلة جديدة لوجود فارق كبير في توازن القوى المتواجهة على الساحة اللبنانية وأدى الأمر إلى قرار دولي باخراج العماد عون من المعادلة اللبنانية! المقاومة: سيف ذو حدّين! أما المحاولة الثالثة فهي ثابتة وقامت بها المقاومة اللبنانية بآفاقها الإسلامية، وعلى رأسها حزب الله. وقد أخذت على عاتقها مهمة تحرير جنوبلبنان من الاحتلال الإسرائيلي متسلحة بشرعية مقاومة الاحتلال وبتعاطف اللبنانيين معها، وبقيم جهادية بارزة: الايمان والاستشهاد والوعي والمثابرة بحيث استطاعت أن تحقق اختراقات عسكرية كبيرة، وأن تكبد إسرائيل خسائر بشرية كبيرة وان تفرض شكلاً من أشكال توازن الرعب بالنسبة للمدنيين على جانبي الحدود بفعل "الكاتيوشا". وقد قامت إسرائيل خلال التسعينات بأكثر من محاولة دموية لشل عمل حزب الله، لكنها فشلت. وأدى الأمر إلى قرار إسرائيلي بضرورة الانسحاب من لبنان... وهو ما يحصل الآن! ماذا يعني اخراج إسرائيل من المعادلة اللبنانية بآفاقها الكيسنجرية وبأبعادها الجيو-استراتيجية؟ إنه يعني: 1- سقوط القاعدة التي بنى كيسنجر وبنت الدولتان المجاورتان إسرائيل وسورية عليها نظام خطوطه الحمر في لبنان، وهي القائلة: إن أمن إسرائيل وأمن سورية وأمن المصالح الأميركية هو من أمن لبنان، والصحيح القول: من لا أمن لبنان بحيث يكون لبنان متنفساً و"داخون" احتراق، بل كما وصفه كيسنجر "ساحة لتصفية وتبادل الحسابات السياسية بين القوى الاقليمية والدولية". فهي تتصارع بالواسطة داخل لبنان وعبره كي لا تتواجه مباشرة. لقد اثبتت المقاومة أن أمن الجيران لا يتحقق بوجودهم داخل الأرض اللبنانية، بل بخروجهم منها، وبالتالي فإن أمنهم ليس من لا أمن لبنان، بل من أمن الشرعية الدولية، مما يفرض عليهم العودة إلى الحدود الدولية وتنفيذ القرارات الدولية وعلى رأسها القرار 425 لعام 1978، ومن ثم القرار 520 لعام 1982. 2- انعكاس عمل المقاومة وبشكل غير مباشر وغير مقصود على مسألة الوجود العسكري السوري في لبنان، ذلك ان المقاومة سيف ذو حدين. ففي حين توجه عملها ونضالها باتجاه الاحتلال الإسرائيلي وتنجح في إجباره على الرحيل، فهي بالفعل ذاته ومن دون أن تدري أو ترغب تطرح مسألة الوجود الأجنبي على أرض لبنان في كل الاتجاهات انطلاقاً من مسلمتين: الأولى، ان في لبنان سلطة هشة ولكن فيه أيضاً شعب مقاوم يستحق العيش باستقلال. الثانية: ان سقوط أحد جناحي المعادلة وهو إسرائيل يطرح حكماً مصير الجناح الآخر وهو سورية داخل لبنان، فلا أميركا ولا إسرائيل ستسمحان لسورية بالاستئثار بالوضع اللبناني بشكل كامل بالمضمون الجيو-استراتيجي خصوصاً أنها كانت ولا زالت مؤيدة وداعمة لنشاط حزب الله في جنوبلبنان والذي يشكّل عملياً ورقة ضغط بيد سورية. 3- حدوث بل أحداث تحول في النظرة الأميركية إلى لبنان الدولة والكيان. بالانتقال التدريجي لدى صانعي القرار في الإدارة الأميركية، من النظر إلى لبنان على أنه كيان يمكن الاستغناء عنه Irrelevant أو "غير ضروري" Dispensable إلى كيان ذي معنى Relevant وبالتالي ضروري Indispensable، يشارك في هذا الرأي ويدعمه الفاتيكان وجناح فرنسي متشدد وتوجه عربي. ومثل هذا التحول خلق توجهاً جديداً لدى الإدارة الأميركية ازدوج بتعسر المفاوضات بين سورية وإسرائيل حيث كان لبنان جزءا من العملية وصار الناطق باسم الخارجية الأميركية يتحدث، ربما للمرة الأولى، عن "ضرورة انسحاب كل القوى الغريبة من لبنان". بهذا المعنى هناك من يرى إن ما هو أهم من انجاز المقاومة باخراج إسرائيل من لبنان هو قدرتها على إحداث تغيير في السياسة الأميركية ازاء لبنان! الأمن أولاً... وأخيراً؟ إن الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب ومن دون تنسيق مع سورية ولبنان، خلق بعض الهواجس لدى دمشق، منها: الانسحاب من لبنان والبقاء في الجولان، وفصل المسارين السوري واللبناني، وإلغاء ورقة ضغط بيد سورية هي ورقة المقاومة، وتوقع ضغط أميركي على سورية للخروج من لبنان وضغط آخر اقتصادي في مرحلة صعبة سياسياً واقتصادياً، باختصار: لاستفراد سورية وتطويقها على خلفية الانسحاب الإسرائيلي من لبنان. لقد عملت سورية منذ فترة على وضع البدائل الممكنة أمام هذا النوع من الانسحاب بحيث تبقى الأمور مفتوحة في الجنوب على شتى الاحتمالات، وبحيث لا يتولد انطباع لدى الرأي العام الدولي بأن الانسحاب هو المدخل إلى الأمن: أمن إسرائيل وأمن جنوبلبنان. لهذا سارعت السلطات اللبنانية، بالتنسيق مع سورية، إلى اطلاق البدائل التي تسمح بمواصلة المقاومة عبر الجنوب حتى ولو انسحبت إسرائيل إلى حدود 1923 الدولية حدود بوليه - نيوكمب. والتي تبقي مقولة الأمن الخارجي المستعار في مواجهة الأمن الشرعي الذاتي والدولي. بمعنى آخر تريد سورية أن تثبت أنها وحدها القادرة بوجودها الفعلي أو المعنوي/ الأمني/ السياسي ضمان الأمن في لبنان وعلى حدود إسرائيل الشمالية. هذه البدائل التي جرى طرحها لتبرير استمرار المقاومة، وبالتالي حال اللاأمن على حدود إسرائيل الشمالية كانت على التوالي: إعلان الجهاد الإسلامي من الجنوب، وطرح مسائل: القرى السبع، والوجود الفلسطيني المسلح، والحدود الدولية، والانسحاب من البر والبحر والجو، ودور القوات الدولية، ومصير ميليشيا لحد، ومصير المعتقلين في سجن الخيام وسجون إسرائيل... ولبنانية مزارع شبعا! لقد استجاب تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى معظم هذه المطالب تنفيذاً للقرار 425 ما عدا مزارع شبعا التي اعتبرها داخلة ضمن الأراضي السورية، وينطبق عليها القرار 242 لأنه منذ العام 1960 تجعل كل الخرائط، هذه المزارع، في الجانب السوري من الحدود بين سورية ولبنان. الآن، وقد خرجت إسرائيل من جنوبلبنان، فإن المخاطر ازدادت اتساعاً وعمقاً بفعل تحول الصراع من صراع حدود واحتلال، إلى صراع وجود. صحيح ان المقاومة أنهت الحقبة الكيسنجرية في لبنان وأحدثت تعديلاً في السياسة الأميركية ازاء وطن الأرز، ولكنها فتحت الباب على الحروب الكبيرة! ما هي مؤشرات هذا الوضع الجديد؟ من اللافت في خطاب حزب الله بعد التحرير أن أمينه العام السيد حسن نصر الله بدأ يقلل من معنى تنفيذ القرار 425 ويذهب الى ما يتخطى هذا القرار. وهذا التوجه تبرره الاعتبارات الآتية: 1- أن خروج اسرائيل من لبنان لم يكن عملاً طوعياً ارادياً بل كان اجبارياً وقسرياً. فهم لم ينسحبوا بل اندحروا. وبالتالي فإن ما حصل ليس استجابة لقرار دولي بمقدار ما هو استجابة لضغوطات حرب التحرير ونتائجها المدمرة على الجيش الاسرائيلي. 2- يأمل حزب الله، ككل حركة تحرير، أن يصنّف نفسه في خانة الشرعية الثورية وليس في خانة الشرعية الدولية. فهذا هو الموقع الذي يرتاح فيه واليه نفسياً وفكرياً وسياسياً وعملياً. 3- يحاول حزب الله أن يضع مسافة بين موقفه وموقف "الارادة الدولية" المتمثلة بمجلس الأمن إذ هو يدرك ويرى مدى تأثير الولاياتالمتحدة على هذه المؤسسة الدولية وعلى قراراتها وتوجهاتها. لهذا يحاذر الحزب أن يتبنى طروحات هذه المؤسسة كمعطى نهائي وعادل بل هو يرى في هذه الطروحات والمواقف والقرارات ما يخدم أميركا واسرائيل بأكثر مما يخدم قضايا العرب والمسلمين والمستضعفين في الأرض. 4- ان الموقف من زيادة قوات الطوارئ الدولية في جنوبلبنان، ومن مهامها ودورها يعكس هذا القلق. وبما أن فرنسا، بطلب من أميركا ومجلس الأمن ستكون الجهة الدولية القادرة على قيادة هذه القوات واعطائها الصدقية السياسية والعملانية، فقد جرى توجيه التحذير لفرنسا من جانب، كما جرى استبعاد ارسال الجيش اللبناني الى الجنوب من جانب آخر. 5- ان حزب الله يأمل ويعمل على أن تبقى لديه المبررات لمتابعة نشاطه في جنوبلبنان تجاه اسرائيل وسيكون لديه أكثر من حجة وسبب لتبرير ذلك أهمها مزارع شبعا فهو لا يقبل بأقل من قطف ثمار جهاده وتضحياته بحيث تبقى لديه الكلمة العليا في مصير الجنوب! في الجانب الآخر، بدأت ترتسم ملامح توازن عسكري جديد تتبدى ملامحه في الأمور الآتية: تجتهد اسرائيل في أن تعمل على تطبيق القرار 425 وبيان مجلس الأمن حوله وأن لا تترك أية حجة للبنان لاستمرار المقاومة. أكثر من ذلك تحاول الدولة العبرية الايقاع بين لبنان وسورية والمقاومة من جانب والأمم المتحدة من جانب آخر كي تجعل الوضع مكشوفاً ومهيئاً لأي عمل مستقبلي. بالاضافة اليه، تقوم الديبلوماسية الاسرائيلية بحشد الرأي العام الدولي حولها بما يسمح لها، مستقبلاً، بالتصرف بحرية وهي تضمن تأييداً دولياً كبيراً لها. توجه اسرائيل بشكل شبه يومي التحذيرات للمقاومة ولبنان خصوصاً لسورية، بأن رد فعلها سيكون عنيفاً وقاسياً بما يسمح لها بقلب أصول اللعبة في المنطقة. يطرح زئيف شيف، المحلل العسكري مسألة أساسية في التوازن العسكري وهي دور سلاح الجو الاسرائيلي فوق لبنان والذي كان قد شرعه نظام الخطوط الحمر لكيسنجر 1976 ويرى ان هذه "الشرعية" لا تزال قائمة ما دامت اسرائيل في حالة حرب مع لبنان وسورية. وهو يخشى أن تعمد سورية الى ادخال صواريخ الى لبنان على عكس اتفاق 1976. في هذا الاطار، وتهيئة للأجواء المحتملة اعلنت وسائل الاعلام الاسرائيلية 26/5/2000 أن كوريا الشمالية باعت صواريخ سكود لسورية يبلغ مداها 700 كلم مما يسمح لدمشق بوضعها في العمل في الجهة الشمالية من سورية وتصويبها الى المدن الاسرائيلية! ولعل خلاصة هذه المؤشرات ان اسرائيل تريد أن توضح للبنان وسورية والمقاومة ان ما يحصل بعد الانسحاب من الجنوب له عنوان جديد تنبغي قراءته جيداً وهو: اعلان الحرب من دولة على دولة أخرى وليس مجرد عمل مقاوم. بل هو عمل من دولة ضد سلامة دولة أخرى وعلى هذه الدولة ان تتحمل جميع النتائج المترتبة عليه. وفي وضع كهذا يصبح العمل العسكري مفتوحاً على كافة الاحتمالات، لهذا يبدو الانسحاب الاسرائيلي وكأنه أقفل زمن الحروب الصغيرة ليفتح الباب أمام الحرب الكبيرة