قبل ان تهدأ الحملة الديبلوماسية في الاممالمتحدة ضد العراق، شنت اسرائيل حملة سياسية ضد لبنان متهمة حكومته برفض الموافقة على ترتيبات أمنية مسبقة تساعد على تنفيذ القرار 425. ولقد سارعت حكومة نتانياهو الى محاصرة زيارة الأمين العام للامم المتحدة كوفي أنان للمنطقة، فأرسلت وزير الدفاع اسحق موردخاي الى باريس بهدف تسويق الاقتراح الاسرائيلي عبر الوساطة الفرنسية. ولكن وزير الخارجية هوبير فيدرين فسّر القرار 425 على نحو مخالف للطرح الاسرائيلي، ونصح موردخاي بضرورة استئناف المفاوضات على المسارين اللبناني والسوري لأن ديباجة القرار لا تربط الانسحاب بأي ترتيبات أمنية. رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو أعلن انه سيثير المسألة اللبنانية مع الزعماء الأوروبيين أثناء جولته هذا الاسبوع. ويُستدل من تصاريحه في مدريد وبون انه يشدد على القول بأن الطرح الجديد يشكل تبدلاً جذرياً في سياسة بلاده تجاه هذا الموضوع. وهو يستشهد بكلام منسق الأنشطة الاسرائيلية في الجنوباللبناني أوري لوبراني وزعمه بأن الاقتراح الجديد يختلف جوهرياً عن الاقتراح السابق "لبنان أولاً" الداعي الى عقد اتفاق سلام منفرد على غرار اتفاق كامب ديفيد وأوسلو. كما يختلف من جهة اخرى عن مضمون مفاوضات السلام مع لبنان وسورية المتوقفة منذ شباط فبراير 1996. وتتركز نقطة التحول على اعتراف الحكومة الاسرائيلية بمضمون القرار 425، الأمر الذي كانت ترفضه سابقاً بدليل ان ملف المفاوضات لم يشر الى إقرار لوبراني بالقرار. ولقد حاول رئيس الوفد اللبناني المفاوض السفير سهيل شماس استدراجه للاعتراف بشرعية القرار 425، فكان يتحاشى الخوض في هذا الموضوع مدعياً ان تواجد القوات الاسرائيلية في الجنوب تم لدوافع أمنية، وان "إعادة الانتشار" هي المصطلح لتمييزها عن عملية الغزو الذي يلحظها القرار. لهذه الأسباب وسواها يقول الوزير ميخائيل ايتان ان هناك تغييراً ايجابياً طرأ على سياسة الحكومة باعتبارها توقفت عن ربط انسحاب قواتها بموافقة طرف ثالث أي بسورية أو بحزب الله أو حتى بنشر قوات دولية. وعليه فهي تكتفي بتعهد الحكومة اللبنانية كشرط للخروج من الجنوب. ولكن وزير الخارجية فارس بويز يرفض أي تعديل في طبيعة القرار، لأن نصوصه الواضحة لا تفترض التفاوض أو إجراء ترتيبات أو حق فرض شروط كما تطالب اسرائيل. وهو يرى ان اسرائيل تعيد تفسير القرار 425 كما أعادت تفسير القرار 242 بهدف الحصول على ضمانات أمنية مسبقة كشرط للانسحاب. يقول أمين عام الأممالمتحدة الأسبق كورت فالدهايم انه اتخذ مختلف الاحتياطات أثناء صياغة القرار 425 بحيث يتحاشى اشكالات القرار 242، التي اشترطت مقابل الانسحاب إنهاء حال الحرب والاعتراف بسيادة اسرائيل وبحدود آمنة لها. ولم يكتف القرار بضمان انسحاب اسرائيلي كامل من الجنوب، بل نص في فقرته الثانية على "إنسحاب من كل الأراضي اللبنانية" لتفادي الالتباس الذي أثارته اسرائيل في شأن تطبيق القرار 242 مدعية ان النص الانكليزي يتحدث عن "أراض"، الأمر الذي ترك مجالاً للاجتهاد في تحديد مدى الانسحاب. ويرى فالدهايم ان تدابير مجلس الأمن في حينه كانت مختلفة عن التدابير السابقة التي كانت تكتفي بالاستنكار أو الشجب كما حصل في القرار رقم 262 31 كانون الأول/ ديسمبر 1968 الخاص بإدانة الهجوم الاسرائيلي على مطار بيروت والذي اشترك فيه نتانياهو، أو القرار 279 12 أيار/ مايو 1970 أو قرار الإدانة رقم 280 19 أيار 1970 أو القرار 285 5 ايلول/ سبتمبر 1970 أو القرار رقم 313 28 شباط 1972 أو القرار 316 26 حزيران/ يونيو 1972 الخاص بمطالبة الافراج عن مخطوفين من لبنان وسورية، أو القرار 347 24 نيسان/ ابريل 1974 الذي يدين اسرائيل لخرقها سيادة لبنان وسلامة أراضيه. وعلى رغم وضوح القرار ودقة صياغته فإن الحكومة الاسرائيلية ادعت انه ترك بعض الثغرات التي يمكن النفاذ منها لمطالبة الحكومة اللبنانية بضرورة وضع ترتيبات أمنية كفيلة بحماية حدودها. ذلك ان الفقرة الثالثة من القرار تتحدث عن "مساعدة حكومة لبنان على تأمين عودة سلطتها الفعلية في جنوبلبنان". وترى اسرائيل ان القرار الذي يلزمها الانسحاب يطالب أيضاً بعودة السلطة الشرعية اللبنانية كحل للمشكلة القائمة في حينه مع المقاومة الفلسطينية، التي أخذت شرعية عملها من اتفاق القاهرة و"فتح لاند". لذلك اقترح مندوب لبنان اضافة عبارة "منطقة سلام" في القرار رقم 426 بدل منطقة "منزوعة السلاح" لكي يعطي السلطة اللبنانية حق السيطرة على الأمن، ويعيد الأوضاع بين اسرائيل ولبنان كما كانت عليه في ظل اتفاق الهدنة الموقع بين الجانبين عام 1949. ولقد استخدم هذا التعبير لخشيته من ان يتحول جنوبلبنان الى منطقة فصل بين القوات الاسرائيلية وقوات المقاومة الفلسطينية، تماماً كما فعلت اتفاقات الفصل بين القوات الاسرائيلية من ناحية، والقوات المصرية والسورية، من ناحية اخرى. واستناداً الى توصية القرار 426 وما لحظه القرار 425 من ضرورة اضطلاع الحكومة اللبنانية بجميع مسؤولياتها في الجنوب، يقول العميد ريمون إده ان اتفاق الهدنة الموقع في 23 - 2 - 1949 كفيل بتحديد مسؤوليات الجانبين دونما حاجة الى وضع ترتيبات أمنية جديدة. وهو ينص في مادته الثالثة على "منع أي عمل حربي أو عدائي من الأراضي التابعة لأي فريق من الفريقين ضد الفريق الآخر". وهذا ما يلحظه اتفاق الطائف في البند الثالث عندما يطالب: 1- بالعمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الاسرائيلي إزالة شاملة. 2- بالتمسك باتفاقية الهدنة الموقعة في 23 آذار مارس 1949. 3- باتخاذ كافة الاجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها. ولقد تعهد الرئيس الياس الهراوي في أكثر من تصريح بضمان أمن الجنوباللبناني في حال انسحبت اسرائيل من دون قيد أو شرط. وقال ان الجيش البالغ عدده 62 ألف جندي قادر على القيام بهذه المهمة. وهذا ما أكده قائد الجيش العماد اميل لحود أثناء تفقده الوحدات العسكرية في منطقة البقاع الغربي وراشيا، عندما أعلن رفض الجيش اللبناني القيام بدور الشرطي لأمن حدود اسرائيل وفقاً لشروطها ومصالحها. ومثل هذا الجواب ردّ به الرئيس حافظ الأسد على سؤال هنري كيسنجر في محادثات حزيران 1974 يوم حدثه عن ضرورة وقف العمليات الفدائية ضد اسرائيل. وقال له الأسد: لن تكون الجيوش العربية سياجاً لأمن اسرائيل، والحل هو بإيجاد حل عادل ومنصف لقضية فلسطين والفلسطينيين. وترى الدولة اللبنانية من وراء الاقتراح الاسرائيلي المفخخ مدخلاً لخلق واقع جديد في الجنوب يؤدي الى اصطدام الجيش بالمقاومة اللبنانيةوالفلسطينية... كما يؤسس لإيجاد تعهد تتحصن اسرائيل وراءه لإنهاء مشكلة 400 ألف لاجئ فلسطيني بحجة ان الدولة معنية بضمان أمنها. ومن المؤكد انها تهدف بواسطة هذا التعهد الى المساعدة على خلق ظروف التوطين، وتحويل هذه المشكلة الدولية الى مشكلة لبنانية داخلية. ولكي يريح "حزب الله" موقف الحكومة اللبنانية فقد أعلن بلسان قيادته انه لن يكون بديلاً من الجيش في حال انسحبت اسرائيل من الجنوب والبقاع الغربي وجميع الأراضي المحتلة. والتعميم في هذا السياق ضروري لأن هناك مواقع محتلة بعد عام 1978 لم يلحظها القرار 425، وهي احتلت عام 1982. الحكومتان اللبنانية والسورية تتساءلان عن دوافع التطور المفاجئ في النظرية الأمنية الاسرائيلية، وعن الغاية المستترة التي تكمن وراء الاقتراح القاضي بتطبيق القرار 425. المراقبون في الاممالمتحدة يفسرون الاقتراح الذي تقدم به وزير الدفاع موردخاي بالتنسيق مع لوبراني، بأنه خطوة تكتيكية يُراد بها قطع الطريق على أي محاولة قد تقوم بها واشنطن لتحريك المسارات المعطلة. ذلك انها تقدم نتانياهو بصورة مرنة مسالمة مختلفة عن الصورة التي رسمت له أثناء المفاوضات على المسار الفلسطيني. كما تعفيه من الاتهامات القائلة بأنه لا يطبق قرارات مجلس الأمن، وبأن الولاياتالمتحدة تتعامل معه بمعيار مختلف عن المعيار الذي تتعامل به مع صدام حسين. وفي هذا الاطار يحاول نتانياهو خلال جولته الأوروبية هذا الاسبوع، الظهور بمظهر صانع السلام، موحياً للرأي العام العالي بأن لبنان هو الذي يعارض اقتراحه كما عارضت السلطة الفلسطينية اقتراحاته أيضاً. وترى دمشق ان التحرك الاسرائيلي الديبلوماسي المفاجئ يستهدف مكاسبها السياسية الاقليمية بطريق المداورة. ولقد سجلت سورية خلال العام الماضي سلسلة أهداف اعتبرتها اسرائيل مقلقة لمشاريعها ومشاريع الولاياتالمتحدة في المنطقة. والدولتان تعتبرانها مسؤولة عن تفشيل المؤتمر الاقتصادي في قطر بالتعاون مع مصر... وعن انجاح المؤتمر الاسلامي في طهران الذي أدى الى مصالحة النظام الايراني مع جاراته. وتنظر اسرائيل الى الانفتاح الاقتصادي السوري على العراق كمحاولة لنسف سياسة الاحتواء المزدوج التي قادت تلقائياً الى خلق موقف معارض للضربة العسكرية الاميركية. وهي تتخوف من اضعاف تحالفها مع تركيا في حال انتظمت علاقات انقرة مع بغدادودمشق. من هنا تتطلع سورية الى الاقتراح الاسرائيلي كمصدر إحراج لها، وإظهارها بمظهر الدولة المعارضة للسلام في لبنان. ومع ان بعض المعلقين الاجانب فسّر زيارة الوزير فاروق الشرع لبيروت بأنها اضعاف للقرار السياسي اللبناني المستقل، إلا ان دمشق اعتبرتها خطوة ضرورية تفرضها علاقات التنسيق الملحوظة في اتفاق الطائف. أي العلاقات التي تنظم مصلحة البلدين، في اطار سيادة واستقلال كل منهما. ولقد بينها رئيس الحكومة رفيق الحريري يوم تحدث عن تلازم المسارين، وقوله ان اتفاقاً تعاقدياً تم بين الدولتين لا يسمح لإحداهما بالمساس بأمن الأخرى. في تصريح لأوري لوبراني يعترف منسق النشاطات الاسرائيلية في جنوبلبنان، ان السوريين يعتبرون جنوبلبنان قطعة من الجبهة، ووسيلة يستخدمونها لإجبار اسرائيل على تقديم تنازلات، ثم يتساءل: اذا كانت سياسة تحريك الشركاء مثل حزب الله وأحمد جبريل وجورج حبش لم تنجح مع اسحق رابين... فهل يعقل ان تنجح مع نتانياهو؟ جواب "حزب الله" ان هذه السياسة نجحت مع من هو أكثر صلابة وتشدداً من نتانياهو، أي مع معلمه الروحي مناحيم بيغن، الذي عهد الى شمعون بيريز بإنقاذ سمعته يوم اعتزل العمل السياسي وحبس نفسه في المنزل. ومع ان لوبراني حاول تطمين دمشق وتحييدها عن طريق الإدعاء بأنه لن يربط انسحاب بلاده من الجنوب بضرورة انسحاب القوات السورية من لبنان، إلا ان هذه المصيدة الديبلوماسية لم تقنع الدولة اللبنانية بأن الترتيبات الأمنية لن تؤجل الحل في الجولان ولن تحرك المقاومة الفلسطينية من جديد. ويرى المراقبون ان الجزء المستتر من الاقتراح يقضي بتفجير الوضع الداخلي اللبناني وبإراحة اسرائيل من كل التداعيات التي خلفها اجتياح 1978 وغزو 1982. ولكي لا ينتقل لبنان الى وضع منفصل عن التسوية النهائية الشاملة، اختار قرار الهدنة كإجراء أمني وصفه رئيس مجلس النواب نبيه بري للوفد الاميركي، بأنه الجرعة السياسية الوحيدة التي يستطيع لبنان تقديمها في هذه المرحلة. وهي جرعة رفضتها اسرائيل كلما قررت غزو لبنان، مدعية ان اتفاقية الهدنة مثل رقصة التانغو، تحتاج الى شخصين لتأديتها. وبما انها انسحبت من هذه الاتفاقية عام 1967، فهي تعتقد ان لبنان ما زال يرقص وحده فوق الحلبة. وعندما طلبته للرقص على أنغام القرار 425 اكتشفت ان ايقاع 1978 لم يعد صالحاً لإيقاع 1998.