للدكتور سليم الحص تاريخ حافل بالاعتراض على اداء السفراء الذين اعتبرهم خلال فترة الحرب قد خرجوا عن الخط السياسي الرسمي واستقلوا في مواقفهم الديبلوماسية. وكان السفير الأسبق في واشنطن عبدالله بو حبيب، أبرز الذين اعترض الحص على تصرفهم، علماً بأن انتقاده للسفير السابق فؤاد الترك لم يبلغ الحدّة والشدة اللتين بلغتهما عملية انهاء مهمة بو حبيب. ردود الفعل على تعليق سفير لبنان في واشنطن فريد عبود أظهرت الى حدّ كبير حال التخبّط والضياع التي تمر بها الدولة اللبنانية والقوى الاخرى التي تؤازرها او تعارضها. ذلك ان وليد جنبلاط اكتشف في كلام السفير ثغرة تعينه على انتقاد الحكومة في وقت أُقفلت في وجهه كل ابواب المعارضة. اما "حزب الله" المعني مباشرة بكلام السفير فقد نصح بعدم إحراق المراحل او اعطاء العدو ضمانات مجانية، محذّراً "انه من السابق لأوانه ان يتحدث أحد عما يلزم حزب الله وعما لا يلزمه". ويبدو ان السفير عبود الذي اختارته الخارجية لتمثيلها في اجتماعات "تفاهم نيسان" اجتهد في تفسير موقف "حزب الله"، مؤكداً ان المقاومة اللبنانية تناضل من اجل تحرير الجنوب، وان التزامها شروط تفاهم نيسان يعني توقف نشاطها العسكري في حال تم الانسحاب الى الحدود الدولية. ويستنتج من تعليق "حزب الله"… ومن بيان وزارة الخارجية اللبنانية، ان كليهما يرفض مقايضة الترتيبات الأمنية بالانسحاب الكامل، ويتمسك بسياسة تلازم المسارين اللبناني والسوري في مفاوضات السلام. ومثل هذا الطرح يتضمن موقفين متكاملين يصعب فصل واحدهما عن الآخر: موقف يتعلق بتطبيق القرار 425 الذي يعفي لبنان من مسؤولية تقديم ضمانات امنية لاسرائيل. وموقف آخر يربط الضمانات بمدى الانسحاب الاسرائيلي من هضبة الجولان عملاً بالاتفاق الذي وقّعته حكومة الحريري وربطت فيه وحدة المسارين. ولقد أصدر العميد ريمون اده بياناً انتقد فيه سياسة الحكومة لأن تلازم المسارين في رأيه، سيخضع القرار 425 لظروف القرار 242، الامر الذي يدخل مصير الجنوب في متاهات خطرة. ويشاطر العميد هذه المخاوف عدد كبير من السياسيين، خصوصاً وان رئيس جمهورية اسرائيل عيزر وايزمان ورئيس الوزراء باراك طالبا بضمانات سورية مقابل الانسحاب من الجولان وليس بضمانات لبنانية. وفي حديث أدلى به لباتريك سيل 26 حزيران/يونيو الماضي يقول وايزمان: "أود ان أرى سورية تحافظ على السلام في لبنان، لن أمانع اذا توجه عشرة آلاف جندي من الاربعين الفاً الى الجنوب ليحافظوا على المسافة ذاتها التي تفصل بينهم وبيننا في الجولان". وفي السياق ذاته تحدث باراك في واشنطن عن ضمانات امنية للجليل الأعلى فقال حرفياً: "إن أي تسوية في لبنان ستأتي ضمن اطار اتفاق مع سورية. أنا أنوي إخراج جنودنا من لبنان مع ضمان أمن اسرائيل وأمن الحدود الشمالية عن طريق اتفاق مع دمشق". وبخلاف نتانياهو الذي اعترف في الايام الاخيرة من حكمه بالقرار 425، فإن باراك يرفض تعريف القوات الاسرائيلية بالقوات المحتلة الغازية، كما يرفض الاعتراف بالقرار 425 لأنه لا يوفر شروط الانسحاب الضامن لأمن الجليل الأعلى. ولهذا تجاوز قرار مجلس الامن واعتبر الاتفاق مع دمشق هو الضمانة الوحيدة لأمن اسرائيل. ومثل هذه الضمانة تستدعي منطقياً وجود قوات سورية في الجنوب، الأمر الذي يقود الى اقتراح وايزمن المطالب بانتشار قوات الردع السورية في المنطقة المحظورة. اي المنطقة التي تحدث عنها اسحق رابين في مذكراته، وقال ان اسرائيل اعترضت عام 1976 على عبور قوات الردع السورية خط نهر الاولي قبل مدينة صيدا. وكان رابين يروي حكاية الخطوط الحمر الثلاثة التي وُضعت في لندن بمشاركة ممثلين عن اميركا والاردن، وذلك في اطار الموافقة على دخول سورية الى لبنان لمنع حدوث تغيير يقوم به ياسر عرفات وزعماء الحركة الوطنية. المصادر السورية ترفض الاقتراح الاسرائيلي بحجة انها تمانع في ان تكون قواتها سياجاً لأمن الجليل الأعلى. ومثل هذا الاقتراح عرضه هنري كيسنجر خريف 1974 على الرئيس الاسد آملاً ان تتدخل سورية لوقف نشاط المقاومة الفلسطينية في جنوبلبنان. وأفهمه ان الجيش السوري لن يكون حارساً لاسرائيل، وان التسوية العادلة مع الفلسطينيين هي الرادع الوحيد لوقف نشاط المقاومة. وزير العدل الاسرائيلي يوسي بيلين كان يأمل في الحصول على حقيبة وزير الخارجية، لذلك أعدّ سلسلة مقترحات تتعلق بمختلف المسارات على أمل ان يتبناها ايهود باراك. والاقتراح المتعلق بالمسار اللبناني حمل عنواناً طريفاً هو "خطة من دون اتفاق مباشر"، متوخياً ان يقوم طرف ثالث الولاياتالمتحدة بدور الوساطة ونقل وجهات النظر. ويتوخى بيلين في اقتراحه تغيير مهمة قوات حفظ السلام بطريقة تبدل مواقع انتشارها وزيادة عدد عناصرها من ستة آلاف الى 15 ألفاً. وهذه القوات لا تشرف حالياً على منطقة الشريط الحدودي، وانما تتوزع فوق مساحة 55 كلم مربع من رأس البيّاضة الى تبنين، فالنبطية وجبل الشيخ. وفي رأي بيلين انه عندما يسمح مجلس الامن بتعديل المهمات السابقة للقوات الدولية - اي بعد تحقيق الانسحاب واقرار السلام والامن الدوليين - يسقط تلقائياً القرار 425 ويصبح القرار الجديد هو قاعدة الحل. والمعروف ان فرنسا كانت قد اعربت عن رغبتها في المشاركة بقوات اضافية، خصوصاً بعدما تقدم البعض باقتراح يقضي بإشراك قوات مصرية وأردنية. وتقول معلومات واشنطن ان كلينتون حذّر باراك من انسحاب قواته الى الحدود الدولية قبل التنسيق مع سورية. والسبب ان الادارة الاميركية تتوقع استئناف العمليات الفلسطينية المجمّدة منذ عام 1982 على جبهة الجنوباللبناني، في حال تعطّلت المفاوضات مع عرفات، او امتنعت اسرائيل عن تسوية مشكلة اللاجئين. يعترف أمين عام الأممالمتحدة الأسبق كورت فالدهايم انه اتخذ مختلف الاحتياطات اثناء صوغ القرار 425 بحيث يتحاشى اشكالات القرار 242 الذي اشترطت حيثياته مقابل الانسحاب انهاء حال الاحتراب والاعتراف بدولة اسرائيل وبحدود آمنة لها. ولم يكتف القرار بضمان انسحاب اسرائيلي كامل من الجنوب، بل نصّ في فقرته الثانية على انسحاب من كل الاراضي اللبنانية. وعلى رغم وضوح القرار 425 ودقة صياغته، فإن اسرائيل تدّعي انه ترك بعض الثغرات التي يمكن النفاذ منها لمطالبة الحكومة اللبنانية بضرورة وضع ترتيبات أمنية كفيلة بحماية حدودها. ذلك ان الفقرة الثالثة من القرار تتحدث عن مساعدة حكومة لبنان على تأمين عودة سلطتها الفعلية في جنوبلبنان. وترى اسرائيل ان القرار الذي يلزمها الانسحاب يطالب ايضاً بعودة السلطة الشرعية اللبنانية لحل المشكلة القائمة في حينه مع المقاومة الفلسطينية التي اخذت شرعية عملها من اتفاق القاهرة. لذلك اقترح مندوب لبنان اضافة عبارة "منطقة سلام" في القرار 426 لكي يعطي السلطة اللبنانية حق السيطرة على الامن، ويعيد الاوضاع بين اسرائيل ولبنان كما كانت عليه في ظل اتفاق الهدنة الموقّع بين الجانبين عام 1949. ولقد استخدم هذا التعبير لخشيته من ان يتحول جنوبلبنان الى منطقة فصل بين القوات الاسرائيلية من ناحية وبين المقاومة الفلسطينية من ناحية أخرى، تماماً كما احدثت اتفاقات الفصل بين القوات الاسرائيلية من ناحية وبين القوات المصرية والسورية من ناحية اخرى. واستناداً الى توصية القرار 426 وما لحظه القرار 425 من ضرورة اضطلاع الحكومة اللبنانية بجميع مسؤولياتها في الجنوب يقول الدكتور سليم الحص ان اتفاق الهدنة الموقّع في 23 آذار مارس 1949 كفيل بتحديد مسؤوليات الجانبين دونما حاجة الى وضع ترتيبات امنية جديدة. وهو ينص في مادته الثالثة على "منع اي عمل حربي او عدائي من الاراضي التابعة لأي فريق من الفريقين ضد الفريق الآخر" وهذا ما يلحظه اتفاق الطائف في البند الثالث عندما يطالب "بالعمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الامن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الاسرائيلي ثانياً بالتمسك باتفاقية الهدنة ثالثاً باتخاذ كافة الاجراءات اللازمة لتحرير جميع الاراضي اللبنانية وبسط سيادة الدولة على جميع اراضيها. الرئيس إميل لحود تعهد بضمان أمن الجنوباللبناني في حال انسحبت اسرائيل من دون قيد او شرط. وأكد ان الجيش النظامي قادر على القيام بهذه المهمة. ولكي يريح "حزب الله" موقف الحكومة اللبنانية فقد اعلن بلسان قيادته انه لن يكون بديلاً من الجيش اللبناني في حال انسحبت اسرائيل من الجنوب والبقاع الغربي وجميع الاراضي المحتلة. والتعميم في هذا السياق ضروري لأن هناك مواقع محتلة بعد عام 1978 - اي في عام 1982 - لم يلحظها القرار 425. وتتخوف الدولة اللبنانية من ان يكون الاقتراح الاسرائيلي بشأن الضمانات الامنية، فخّاً يؤسس لإيجاد تعهد رسمي تتحصن اسرائيل وراءه لانهاء مشكلة 400 ألف لاجئ فلسطيني بحجة ان الدولة اللبنانية معنية بحماية امنها. ومن المؤكد انها تهدف من وراء الحصول على هذا التعهد - لا فارقَ أكان لبنانياً أم سورياً - الى خلق ظروف التوطين، وتحويل المشكلة السياسية الاقليمية الى مشكلة اجتماعية - انسانية لبنانية. في مقابلة ضمن برنامج "لقاء مع الصحافة" تحدث ايهود باراك عن "اعادة بعض الجولان الى سورية مقابل حال سلام". واشار الى قول الرئيس كلينتون بتمكين الفلسطينيين في المرحلة الاولى التي تعقب السلام من العيش حيثما يريدون… بأنه أُسيئ فهمه. واكد باراك "ان اللاجئين الفلسطينيين لن يتمكنوا ابداً من العودة الى اسرائيل "في اي ظرف". وقال انه ينبغي ايجاد حل افضل لهم في البلدان التي يعيشون فيها الآن. يقول المراقبون في الاممالمتحدة ان الضمانات الامنية التي تطالب بها اسرائيل كثمن لانسحابها الكامل من الجنوب لا تهدف الى وقف نشاط القوات اللبنانية، بل الى لجم النشاط المتوقع من فلسطينيي المخيمات في حال بقيت قضيتهم معلّقة بين كيان فلسطيني تمنعه اسرائيل من استيعابهم… وبين وطن لبناني يرفض توطينهم. ومع ان اتفاق اوسلو وعد بالنظر في اوضاعهم خلال المرحلة النهائية، الا ان زعماء اسرائيل استبقوا المفاوضات ليعلنوا ان مستقبل اللاجئين سيكون مثل مستقبل القدس، اي من الامور المحسومة سلفاً والتي يتعذر التفاوض حولها. ومعنى هذا ان لبنان مقبل على مخاض سياسي - اجتماعي عسير يمكن ان يبدل في تركيبة الوطن الصغير، ويمهّد لانتفاضة فلسطينية ثانية تكون المخيمات هي البؤرة المهيأة لانفجار العنف! * كاتب وصحافي لبناني.