عاش طيلة 23 عاماً بين المواقف المبدئية والحقائب المكتظة بالوثائق والمستندات والخرائط. فسرعان ما يلجأ نزيل "البرنس دوغال" ولاحقاً "الكوين اليزابيت" إلى ملفاته المرتبة بعناية، فهو يعرف عن ظهر قلب كل العبارات والفواصل والنقاط، في مئات المستندات وقصاصات الصحف التي حملها معه من حي الصنائع ثم وجدها تتضخم كثيراً في منفاه الاختياري باريس. "مسيو اده" يعرفه جيداً سكان جاده جورج الخامس، بل انه أصبح "معلماً" من معالمها. إلا أن الفترة الأكثر نشاطاً خلال اقامته الباريسية كانت منذ وصوله في العام 1976 وحتى أواخر الثمانينات، وغالباً ما كان يُصادف برفقة سياسيين، فها هو مع الراحل تقي الدين الصلح الذي استبدل طربوشه التقليدي الشهير بقبعة غربية حديثة تنسجم مع الأجواء الباريسية، أو مع المنفي الآخر الدكتور عبدالمجيد الرافعي، أو مع الرئيس كامل الأسعد، أو مع الرئيس صائب سلام أو مع كاظم الخليل. فمن كان يزور باريس من السياسيين اللبنانيين كان لا بد له من زيارة مَعلَمين فيها: ريمون اده وعلى بعد عشرات الأمتار مكاتب مجلة "المستقبل" ورئيس تحريرها نبيل خوري. ويعرفه أيضاً "غرسونات" المقاهي المجاورة، لذلك لم يتوانوا ذات يوم عن الاستعانة به لفض اشتباك بين نائبين لبنانيين، ومن طائفة واحدة، تعاركا في الثمانينات في مقهى الفوكيتس وسحبا السكاكين وحطما الكراسي، وعندما وصل "مسيو اده" وبخهما وصالحهما. عازب شهير، ابن اميل اده، لكن النساء بنات البلد كن "في الصف" للتودد اليه سياسياً وعاطفياً، مهما كانت الأعمار، وهو يعرف الأصول واللياقات على الطريقة الغربية لا العربية، فلا مباهاة بجولات وصولات، وإذا سأله حشري يأتي الجواب من دون جواب: "ماشي الحال". هل كان الحال ماشياً مع العميد في باريس؟ لا. فالرجل الذي كان "مرجع" أولئك النوستالجيين وحائط مبكاهم على زمن ولى كالشهب الى غير رجعة. عانى، مثله مثل أي لبناني، من فواجع عائلية شخصية: اصابات ووفيات عند أقربهم اليه. إلا أن المعاناة الكبرى الصامتة كانت في احساسه العميق بتقدمه في السن وعدم قدرته على العودة الى "مربط خيله" في بيروت. والعميد الذي كان صعباً على السياسيين كان صعباً كذلك على الصحافيين. يعيد ويصحح ويكرر ويؤكد ويحذف ويشترط، على رغم باعه القصير في العربية، ولا مجال معه للتسويات. مبدئي حتى النهاية ولو غضب الأصدقاء. وكم خسر من "الأصدقاء" بسبب مبدئيته! لكن كم خسره لبنان، في رحيله... وكم خسره أكثر، قبل ذلك، في حياته!