لقد كانت رحلة الرئيس الأميركي بيل كلينتون الآسيوية مقررة سلفاً. وإذا كانت زيارة الباكستان أثارت في وجهه متاعب التعاطي مع حكم انقلابي فإن الحساسية النووية للمنطقة خففت من هذه المتاعب وجعلت الزيارات تحت عنوان عريض هو السعي الى السلام وتخفيف التوتر وإعادة النظر المحدودة بالعلاقات الخارجية الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. كانت الرحلة مقررة سلفاً إذاً، لكن كلينتون استطاع القيام بها وهو مرتاح البال بعض الشيء. فالحملة الرئاسية لنائبه آل غور انطلقت بقوة أكبر بعد فترة تعثر. والمنافس الجمهوري جورج بوش خرج من المعركة التمهيدية مثخناً بالجراح التي الحقها به ماكين. ويملك آل غور حجة ذهبية في المواجهة هي الرصيد الاقتصادي للولايتين الديموقراطيتين اللتين ساهم فيهما. وكذلك فإن حملة هيلاري كلينتون في نيويورك تتسارع وتتكثف الى حد أنها فضلت عدم مرافقة زوجها في رحلته موكلة المهمة الى ابنتها شلسي ترك كلينتون زوجته وصديقه في الولاياتالمتحدة وتوجه الى آسيا في مهمة لا يمكن لنتائجها الايجابية الا أن ترتد مكاسب انتخابية داخلية وتوالت، في هذا السياق، الاجراءات التي يمكن وضعها تحت عنوان واحد: "هجمة السلام الأميركي في الشرق الأوسط". ومن أبرز هذه الاجراءات السلوك حيال ايران والاعلان عن قمة في جنيف مع الرئيس السوري حافظ الأسد واستئناف المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية في واشنطن. وقّع كلينتون قبل أن يسافر قراراً يقضي بتمديد العقوبات النفطية على ايران. هذه هي البندقية. ولكنه سمح لوزيرة خارجيته مادلين اولبرايت بالاعلان عن خطوات انفتاح جدية هذا هو غصن الزيتون. وإذا كان التمديد يعني استمراراً لنهج سابق فإن خطاب اولبرايت، الذي يوسع كلاماً سابقاً للرئيس، هو التغيير ولذلك فهو الأهم. ولعل أهميته تتضح أكثر عند مراجعة ما قالته الوزيرة في منتدى مخصص "لتطوير الحوار والتفاهم بين شعبي وحكومتي البلدين" هو المجلس الايراني - الأميركي. فلقد تأسس المجلس العام 1997 في غمرة وصول الرئيس محمد خاتمي الى السلطة وهو يقوم على فكرة مؤداها "ان المصالح البعيدة للطرفين أكبر من خلافاتهما". تحدثت اولبرايت عن ايران بصفتها واحدة من أعظم حضارات العالم وأقدمها ومن أغناها ثقافياً وأكثرها تنوعاً. وأشارت الى أهميتها الاستراتيجية الخاصة بحكم امتدادها من مضيق هرمز الممر النفطي الأول في العالم الى ضفاف بحر قزوين. وأكدت ما اسمته "الدور المحوري للقيادة الايرانية المقبلة في القضايا الأمنية والاقتصادية للمنطقة التي يعتبرها العالم، عن حق، مركزه". ثم قدمت نظرة نقدية الى العقدين الأخيرين. انتقدت، طبعاً، السياسات الايرانية من خطف الرهائن الى القمع الى دعم الأنشطة المعادية للسلام الى احراق العلم الاميركي في كل مناسبة وهي سياسات قادت واشنطن الى اعتبار ايران مصدر تهديد لها لا بد من عزله واحتوائه. وأشارت الى التغيير الذي عبر عنه وصول خاتمي الى الرئاسة وأدى الى بداية تبادل أكاديمي وثقافي ورياضي. واعتبرت ان ثمة مشاكل عالقة كثيرة بين البلدين منها، مثلاً، اضطهاد البهائيين مشددة على أن "الاجراءات المتخذة لمحاكمة اليهود والنتيجة المرتقبة هي ميزان حرارة العلاقة بين البلدين". ثم قدمت اولبرايت توصيفاً للصراعات الداخلية في ايران قبل أن تنتقل الى الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبتها الولاياتالمتحدة. ومما اعترفت به الدور الكبير للمخابرات المركزية وادارة الرئيس ايزنهاور في الانقلاب ضد مصدق رئيس الوزراء الشعبي، وهو الأمر الذي اعتبرته "ضربة لتطور ايران السياسي" يجعل سهلا "تفهم شعور الايرانيين اليوم حيال تدخل أميركا في شؤونهم الداخلية". واعترفت معتذرة عن دعم أميركا والغرب لنظام الشاه خلال ربع قرن واستعادت كلام رئيسها عن "تحمل مسؤولية عما جرى في العلاقات الثنائية مضيفة الى ذلك "قصر النظر" في دعم العراق ضد ايران في الحرب. لم تنس اولبرايت تعداد مآخذ واشنطن على ايران، غير أنها أمضت في الحديث عن المصالح المشتركة في استقرار الخليج، ومكافحة المخدرات، وتشجيع الحوار بين ارمينيا واذربيجان، وقيادة افغانستان نحو الاعتدال... ان الاجراء العملي الذي كشفت عنه اولبرايت هو السماح للأميركيين بالاستيراد من ايران كافيار، فستق... والاستعداد للبحث في الافراج عن الأرصدة المجمدة برغم استمرار الخلاف حول تقديرها. هل يعني ما تقدم ان باب الحوار أصبح مفتوحاً بين واشنطنوطهران؟ لقد كانت اميركا تشترط لذلك وقف برنامج التسلح الايراني بأسلحة دمار شامل، والتوقف عن دعم الارهاب، والكف عن مساعدة القوى الناشطة عسكرياً ضد عملية التسوية في الشرق الأوسط. وكانت ايران ترد مطالبة اميركا بالاعتذار عن الماضي، وبالغاء الحصار، والافراج عن الأرصدة. والواضح ان الولاياتالمتحدة هي التي أقدمت على الخطوة السياسية الجدية الأولى ولو أنها فعلت ذلك "مكافأة" لما أقدم عليه الشعب الايراني في الانتخابات الأخيرة. ولكن يبقى ان لهذه الخطوة آثارها الفعلية على عدد من المستويات. داخلياً سيحتدم السجال الايراني وسيشن المحافظون حملة على الاصلاحيين بتهمة أنهم "حزب أميركا". ولكن المفارقة هي ان هذه التهمة قد تكون مربحة في ايران اليوم حيث تبدي قطاعات واسعة تبرمها من حال العزلة التي يعيشها البلد وتعتبر ان العلاقة مع أميركا هي "الممر الاجباري" الى العالم الفسيح. ويصعب القول ان التيار الاصلاحي موحد في رد فعله. فهناك، ضمنه، من يرحب بالحوار مع واشنطن ويقدر أن اولبرايت قدمت مفتاحاً لذلك. ولكن هناك من يدعو الى الانتظار معترفاً بأن الملفات شديدة التعقيد وبأن التوصل الى تسوية ليس سهلاً. اقليمياً، يمكن اعتبار حديث اولبرايت بمثابة مباركة أميركية للانفتاح الخليجي الذي تبديه طهران. وإذا كان ذلك لن يقود الى إعادة نظر جذرية في التواجد العسكري الأميركي فإنه يمهد لجعل الحوار الثنائي يستغني عن الوساطات وربما الى إعادة البحث في توزيع مسؤوليات الحفاظ على الاستقرار. قد أقدمت الوزيرة الأميركية على "نصف" الغاء ل"الاحتواء المزدوج" الذي يتعرض الى انتقادات كثيرة. ويمكن القول ان سياستها العراقية تتعرض هي الأخرى الى امتحان جدي يتمثل في كيفية تطبيق قرار مجلس الأمن الأخير 1248. ويمكن الجزم، منذ الآن، بأن الادارة الجديدة في البيت الأبيض، أياً يكن الرئيس، ستجد نفسها مضطرة لابتداع مفهوم جديد يؤطر سياستها في هذه المنطقة بعدما ظهرت بوضوح الحدود التي لا يمكن ل"الاحتواء المزدوج" تخطيها. لقد فتحت اولبرايت باباً موارباً أمام ايران عندما عاملتها كدولة اقليمية قوية طلما انها معنية معها وفق "مصالح مشتركة" بقضايا لا تقل عن الأمن النفطي والاستقرار في القوقاز ومصير بحر قزوين. وإذا كان ذلك يدغدغ العزة الوطنية الايرانية فإن طهران ستنتظر، على الأرجح، الانتخابات الروسية من أجل امتلاك صورة واضحة عن طبيعة "اللعبة الكبرى" في المنطقة. وطالما ان الحديث هو عن هذه العزة فإنه من المستبعد أن توافق ايران على التخلي الكامل عن برامجها التسليحية. ولذلك كان واضحاً ان اسرائيل أعربت عن نوع من التحفظ على الخطوة الأميركية. وصادف انها أقدمت، بالتزامن معها، على نشر بطارية من صواريخ "ارد" المقدمة بصفتها درعاً ضد الصواريخ الايرانية أساساً شهاب 3 وشهاب 4. ويمكن أن يضاف الى التحفظ الاسرائيلي عنصر جديد هو ادراك تل أبيب بأن ايران لا تستطيع التصرف وحدها في موضوع "المقاومات الاسلامية" وان لسورية كلاماً تقوله وان هذا الأمر مرهون بتطور المسارات الثنائية التفاوضية أكثر منه بالحوار الأميركي - الايراني... إذا حصل. في حين ان هذا الحوار يبقى مجهول المصير فإن الحوار الأميركي - السوري ارتقى، مرة أخرى، الى مستوى القمة. فالاعلان عن لقاء جنيف جاء مفاجئاً بعض الشيء ولكنه دل على ان المعنيين بالمفاوضات في الادارة لم يعيشوا فترة بطالة منذ أن انتهت اجتماعات شيبردزتاون. يمكن القول ان القمة هي لقاء الفرصة الأخيرة. فكلينتون قد لا يحاول، مرة أخرى، توريط نفسه في محاولات فاشلة والوقت يضغط على باراك الذي حدد موعد الانسحاب من لبنان باتفاق أو من دونه، ولعل ضغط هذا الموعد يقع أيضاً على سورية ولبنان. ويبين ذلك ان نافذة الفرص تقترب من الاغلاق وأن المخرج للجميع هو، في الحد الأدنى، استئناف المفاوضات على المسار السوري، وفي الحد الأقصى، التدخل الى اتفاق. اذا القمة حاسمة وقد ارفقت الصحف الاسرائيلية الاعلان عنها بأخبار كثيرة حول نجاحات حققتها الجهود الأميركية في تقريب المواقف بين دمشق وتل أبيب سواء لجهة مهل الانسحاب ام لجهة التدخل بينها وبين مراحل علاقات السلام ام، خاصة، بالنسبة لموضوعي الحدود وترتيبات الأمن. والجدير بالذكر في هذا المجال ان الرئيسين كلينتون والأسد لن يتناقشا في الخلافات الاسرائيلية - السورية فقط بل أيضاً في التباينات بينهما لجهة تفاصيل كثيرة متعلقة بأي اتفاق ممكن. وتدل دراسة مقارنة بين مسودة المشروع الأميركي للمعاهدة والاقتراح السوري على وجود تمايزات عديدة تتجاوز ما وضعه الأميركيون بين مزدوجين معترفين انه موضع خلاف سوري - اسرائيلي الحدود، المياه، محطة الانذار، الانسحاب الكامل للجيش و"المدنيين" حجم المناطق منزوعة السلاح. فالورقة السورية تعارض بعض ما اعتبره الأميركيون محل اتفاق. فالمسودة الأميركية تتحدث، مثلا، عن تعاون على تشجيع السلام في حين يكتفي السوريون باستخدام مصطلح "العمل" على تشجيع السلام. ودمشق تشترط التلاؤم مع قوانين كل بلد في معرض الحديث عن العلاقات الاقتصادية المحتملة وترفض وصف العلاقات في مجال النقل ب"الطبيعية" وكذلك تسقط مفهوم "التعاون" السياحي لتشير الى "علاقات سياحية". وفي حين يصر الأميركيون على وجود اتفاق حول ايجاد "آلية تنسيق ثنائية للشؤون الأمنية" يؤكد السوريون ان "آلية التنسيق" هي مع "المراقبين الدوليين". الى ذلك أوردت الورقة السورية مواقف غير مذكورة لدى الأميركيين منها "الحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين" وربط أي توقيع بما يحصل مع لبنان وضرورة البحث اللاحق بانشاء شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل. أي ان هناك الكثير مما يقال على صعيد العلاقات الثنائية قبل أن ينتقل الأمر الى التفاوض المباشر مع الاسرائيليين. ومع ذلك شاع جو من التفاؤل بأن مجرد انعقاد القمة يعني ان تقدماً سوف يحصل. مرحلي ونهائي لقد نجح الأميركيون في "هجوم السلام" في اعادة الاسرائيليين والفلسطينيين الى طاولة المفاوضات. فلقد كان اتفاق "واي ريفر - شرم الشيخ" يتعثر ومعه كل بحث في عناوين الحل النهائي. غير أن اختراقاً حصل في موازاة عودة دنيس روس الى المنطقة إذ وافق باراك على اشراك جزئي للفلسطينيين في اختيار الأراضي التي سينسحب منها جيشه، كما وافق على عدد من اجراءات بناء الثقة. وعند الانتقال الى القاعدة الجوية قرب واشنطن تبين ان باراك، الذي يواجه متاعب داخلية عديدة، لا يريد أن يبدو كمن يتنازل من طرف واحد. لذا عدّل في خرائط الانسحاب من أجل الأ تشمل مواقع قريبة من القدس وأفهم الفلسطينيين ان التفاوض في أميركا لا يعني استحضاراً قوياً ل"الوسيط" الأميركي. ستتناول مفاوضات واشنطن قضيتين: تنفيذ ما بقي عالقاً من المرحلة الانتقالية والشروع في بحث قضايا الحل النهائي. وفي الشق الأول ثمة أهمية حاسمة لنسبة الانسحاب الثالث كما لوقف الاستيطان فضلا عن اطلاق المعتقلين وفتح الممر الشمالي الآمن وتحويل الأرصدة الجمركية. اما في الشق الثاني فإن الدلائل كلها تشير الى تعقيدات هائلة قد يكون صعباً تجاوزها من الآن الى أيار مايو، الموعد الجديد للاتفاق، الاطار. وإذا حصل ذلك فإن أيلول سبتمبر لن يشهد ولادة الحل النهائي. ولذلك فإن الباب مفتوح على امكانية تقسيط هذا الحل بحيث يصار الى تنفيذ عناصر منه ويتم ارجاء ما تبقى الى ما بعد الاعلان عن دولة فلسطينية. ان هجوم السلام الأميركي، ايرانياً وسورياً وفلسطينياً، لم يحقق انجازات كاملة حتى الآن وهو قابل للانتكاس في محور من هذه المحاور وربما في اثنين منها. غير أن انتكاسة من هذا النوع لم يعد يمكنها أن تكون الا... موقتة!