تصل وزيرة الخارجية الاميركية اولبرايت الى المنطقة أواخر شهر حزيران يونيو الجاري، في اطار مهمة استثنائية تم التفاهم عليها خلال قمة عرفات - كلينتون الأخيرة، وترمي الى بذل جهد مكثف لمدة اسبوعين، بأمل حلحلة المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية الخاصة بتنفيذ مرحلة الانسحاب الثالثة، مما يسمح بتحقيق انطلاقة في مفاوضات الحل النهائي وعقد قمة ثلاثية فلسطينية - اميركية - اسرائيلية. وكانت قمة واشنطن بينت للرئيس كلينتون ان ما تحقق في المفاوضات حتى الآن لم يوفر الحد الأدنى المطلوب لعقد القمة ونجاحها، وان الخلافات الفلسطينية - الاسرائيلية في شأن قضايا الحل النهائي، خصوصاً القدس واللاجئين لا تزال على حالها، بل تعمقت اكثر بعد رفض الرئيس الفلسطيني اطروحات اسرائيل في شأن تأجيلهما. اما الخلاف على الانسحاب الثالث، الذي استحق تنفيذه يوم 23 حزيران يونيو الجاري، فيعقد علاقات الطرفين ويوتر أجواء مفاوضات الحل النهائي ويعوق تقدمها، ويهدد بنسفها، خصوصاً بعد رفض الوفد الفلسطيني تأجيل تنفيذها، ورفض أبو عمار دمجها بالحل النهائي، وإصراره على تنفيذها بمعزل عن مجريات مفاوضات هذا الحل ونتائجها. واظهرت لقاءات واشنطن، ان لدى الرئيس كلينتون رغبة جامحة، وصادقة، في تواصل المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية، وتوصل الطرفين الى اتفاق، قبل رحيله من البيت الأبيض، ينهي نزاعهما المزمن، خصوصاً بعد رحيل الرئيس الأسد، وتضاؤل الأمل بالتوصل الى اتفاق على المسار السوري، قبل الانتخابات الرئاسة الاميركية، الى ذلك، تفاعل رئيس السلطة الوطنية مع رغبة الرئيس كلينتون، ووافق على تمديد تاريخ استحقاق الانسحاب الثالث فترة اسبوعين، ومنح اولبرايت فرصة جديدة بأمل النجاح في اقناع باراك بالالتزام بالاتفاقات الانتقالية التي وقعها، وتنفيذ الانسحاب "الثالث" الذي يشمل جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967، وتنظيم عودة النازحين، واطلاق سراح أسرى فترة ما قبل توقيع اتفاق اوسلو في العام 1993، وفتح الممر الآمن الشمالي بين غزة ووسط الضفة الغربية. ويمكن الجزم، سلفاً، ان الوزيرة اولبرايت ستبذل اثناء وجودها في المنطقة كل الجهود الممكنة للنجاح في مهمتها، لكن مكونات الصراع العربي - الاسرائيلي وتعقيداته تؤكد ان ليس كل ما تتمناه الدول العظمى، وضمنها الادارة الاميركية، تدركه حسب "الكتالوغ" الذي ترسمه والجدول الزمني الذي تحدده، خصوصاً اذا ترددت في ضرب حديد المنطقة وهو حامٍ، أو اذا استخدمت مكيالين للتعامل مع قرارات الشرعية الدولية وانحازت لأحد أطراف الصراع. ويؤكد التدقيق السريع في مقدمات وظروف جولة اولبرايت الجديدة ان مهمتها صعبة ان لم تكن مستحيلة، ومن المشكوك فيه ان تنجح خلال اسبوع في إزالة العقبات الكبيرة، المذكورة اعلاه، من طريق القمة الثلاثية الفلسطينية - الاميركية - الاسرائيلية. فنجاحها كما أتصور رهن بتحقق واحد من شروط رئيسية ثلاثة، غير متوافر واحد منها، أولها، وقوع تبدل في قناعة باراك الجديدة - القديمة، في شأن الانسحاب الثالث، التي شكلها عندما كان رئيساً للاركان، ووزيراً للداخلية في عهد رابين، القائمة على ربط تنفيذ الانسحاب الثالث باتفاق متكامل يقفل ملفي القدس واللاجئين الى الأبد. والثاني، حصول انهيار كامل في الموقف الفلسطيني وخضوع المفاوضين الفلسطينيين للضغوط الاميركية - الاسرائيلية واستسلامهم لشروط باراك المذلة ومطالبه غير المحقة. والثالث، ان تصل الوزيرة اولبرايت المنطقة وهي تحمل بيد مشروعاً اميركياً متكاملاً لحل قضايا الخلاف المعروفة للجميع، وتحمل بالأخرى عصا الضغط الاميركي الغليظة، وتشهرها بجدية في وجه باراك وحكومته. وأظن ان من غير المرئي تحقيق أي من هذه الشروط الثلاثة. فمن لم يشهر عصاه في وجه اسرائيل أيام قوته، ولم يطرح مشروعه الخاص في بداية عهده، غير قادر على القيام بهذا الدور في أيام ضعفه ونهاية ولايته، وفي عز فترة انتخابات الرئاسة والكونغرس. وتدرك الوزيرة اولبرايت اكثر من سواها، ان باراك لم يمنح وفده لمفاوضات المرحلة الإنتقالية، بقيادة عوديد عيران، التفويض اللازم للبت بالقضايا المطروحة على جدول الاعمال، بأمل بحثها في القمة الثلاثية، ومساومة الفلسطينيين علىها مقابل تنازلات تتعلق بالقدس واللاجئين والاستيطان والحدود. واذا كان الرئيس كلينتون فشل في ثني أبو عمار عن التمسك بقرارات الشرعية الدولية في شأن القدس، واللاجئين، والانسحاب حتى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، وفشل في انتزاع موافقته على دمج مرحلة الانسحاب الثالثة بالاتفاق حول قضايا الحل النهائي، فالواضح ان اولبرايت لن تنجح في تحقيق الشيء الذي لم يحققه رئيسها. ويمكن الجزم، ايضاً، بأنها لن تنجح في اقناع باراك بفك ربط الإنسحاب بالتوصل الى اتفاق متكامل حول قضايا الحل النهائي. ورفضه الالتزام بتنفيذ الاتفاقات التي وقعها، وبخاصة الانسحاب الثالث، ليس طارئاً بسبب تضعضع اوضاع حكومته، بل نتيجة قناعته الايديولوجية ومفاهيمه الامنية الراسخة، وهي التي دفعته قبل أربع سنوات، الى التصويت، في عهد حكومة رابين، ضد اتفاق طابا، لأن هذا الاتفاق كما قال "يتضمن في مرحلته الثالثة انسحاباً واسعاً يجرد اسرائيل من ورقة المساومة الاساسية". واظن ان صموده عاماً كاملاً عند مواقفه، وصمت ادارة كلينتون - أولبرايت على تلاعبه بالاتفاقات التي شهدت عليها، يشجعه على التمسك بمواقفه المتطرفة، ومواصلة التلاعب والمماطلة، وتحدي العرب وأوروبا والامم المتحدة لا سيما انه يدرك ان اولبرايت تحمل في جعبتها، كما في كل مرة، رسائل تمنيات ودية وليس عصا ضغط غليظة. ويعتقد باراك ان الفلسطينيين فقدوا كل الخيارات باستثناء خيار قبول ما يعرضه عليهم، وان ضغطاً اميركياً - اسرائيلياً مزدوجاً على عرفات كفيل بإرغامه على التراجع عن مواقفه بشأن عقد القمة الثلاثية، والتنازل عن ربط المشاركة فيها بإطلاق سراح المعتقلين وتنفيذ الانسحاب الثالث وفق توقيتات زمنية محددة. ويتصور باراك انه بالضغط المشترك في القمة يمكن تعبئة الفراغات الاساسية التي تركها كاتماً المفاوضات النهائية برئاسة شلومو بن عامي وابو علاء في "مسودة اتفاق اطار حل قضايا الحل النهائي" التي اقتربا من إنجازه، وبالامكان ايضاً انتزاع موافقة فلسطينية على حل لقضية اللاجئين يقوم على التنازل عن حقهم في العودة، واستيعاب بضعة آلاف منهم في اسرائيل في اطار لمّ شمل العائلات وعلى مدى سنوات طويلة واحالة موضوع تعويضهم عن حقوقهم التاريخية ومعاناتهم، الى صندوق دولي يقدم لهم ما يمكن تقديمه، من دون الاعتراف بمسؤولية اسرائيل عن خلق مشكلتهم، او حتى الاعتذار لهم عن الآلام التي عانوها على مدى اكثر من نصف قرن. ويصرّ باراك على ان يتضمن "اتفاق الاطار" تنازل الفلسطينيين عن ادنى مقومات السيادة ومظاهرها في مدينة القدس، واجراء تعديلات واسعة في الحدود التي كانت قائمة قبل حرب 1967، ويتمسك بضم ما لا يقل عن 8 - 10 في المئة من مساحة الضفة تشمل غالبية المستوطنات. وبجانب ذلك كله، يشترط باراك ان يتضمن "اتفاق الحل النهائي" تأكيداً فلسطينياً واضحاً وصريحاً على "انتهاء الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، وان ينص حرفياً على ان "لا يحق لأي من الطرفين المطالبة بأية حقوق لا يتضمنها هذا الاتفاق". الى ذلك، لا يمانع باراك في حال تعذّر الوصول لهذا الاتفاق "العتيد"، بتأجيل حل قضيتي القدس واللاجئين سنوات طويلة، وان يقرن هذا التأجيل بتأجيل الانسحاب الثالث، او اختزاله الى قرابة 10 في المئة من مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، في احسن الاحوال، وبتعهد السلطة الفلسطينية من جديد مواصلة مكافحة الارهاب ومحاسبة المحتجين على التوسع في مصادرة الاراضي والاستيطان. واظن ان جهود الوزيرة اولبرايت ومساعديها سوف تتركز على هذا الخيار، باعتباره يوفر لهم الارضية المطلوبة لمتابعة ادارة ازمة المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية، طالما انهم غير قادرين على حلها ويؤمن الحد الادنى المطلوب لتزيين صورتها مع الرئيس كلينتون عند مغادرتهما بوابة البيت الابيض. وسوف تقدمه اولبرايت الى العرب والفلسطينيين باعتباره الخيار الممكن في هذه المرحلة، خصوصاً في الظروف الصعبة التي يمر بها باراك، وافضل من بديله المرئي المدمر لعملية السلام ومن العودة الى صراعات دموية لا طائل منها، وستحاول تبليغه للفلسطينيين بعد تجميله باطلاق دفعة جديدة من المعتقلين، وتسليم بلدات العيزرية وابو ديس والسواحرة للسلطة الفلسطينية وتغليفه بتعهدات اميركية بتكثيف جهودها بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. اظن ان لا خلاف بين الفلسطينيين، سلطة ومعارضة، على ضرورة التمسك بالحقوق الفلسطينية كما حددتها قرارات الشرعية الدولية، وضرورة الصمود عند الخطوط الحمراء المتعلق بالقضايا الاساسية في مفاوضات الوضع النهائي. وان صمود رئيس اللجنة التنفيذية في مواجهة ضغوط كلينتون يوفر ارضية ليس فقط للصمود في مواجهة اولبرايت، بل والضغط عليها وعلى معاونيها للوفاء بتعهداتهم. ومن لم يتردد في وصف منسق عملية السلام دنيس روس، امام الرئيس كلينتون بمحامي باراك، بإمكانه التصدي بسهولة للمناورات والحيل التي قد يستخدمها خدمة لاسرائيل، وبإمكانه التصدي بسهولة للمناورات والحيل التي قد يستخدمها خدمة لاسرائيل، وبإمكانه ايضاً افهام الوزيرة اولبرايت ان لا احد من الفلسطينيين يرضى او يستطيع ان يقبل ان يوقّع على اتفاق يتجاوز او يؤجل قضية القدس او قضية اللاجئين او قضية الحدود. ويفترض ان لا يكون خلاف بين الفلسطينيين لاجئين ونازحين ومقيمين في ديارهم، حول اهمية رفع اليقظة ازاء ما يجري في المفاوضات، وضرورة رفع وتيرة التعبئة الداخلية لمواجهة الاحداث والتطورات الآتية حتماً خلال النصف الثاني من هذا العام. * كاتب فلسطيني.