وسط أجواء غامضة انعقدت القمة الفلسطينية الاسرائيلية - الاميركية في منتجع واي بلانتيشين، في وقت لم يكن احد يتوقع انعقادها. فبعد عامين تقريباً من المفاوضات العقيمة للتوصل إلى اتفاق على مدى الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت فجأة أنها اكتشفت "روحاً جديدة" في المعسكرين الفلسطيني والإسرائيلي، علماً بأن رحلة الرئيس المصري الراحل أنور السادات منذ زيارته القدس حتى توقيعه اتفاقات كامب ديفيد لم تستغرق عامين، كما ان اسحق رابين احتاج إلى أقل من تلك المدة أيضاً ليقطع الطريق الشاقة التي نقلته من اتفاق أوسلو إلى الاحتفال الشهير في حديقة البيت الأبيض. ولا يسع المرء حين يسمع أولبرايت تتحدث عن "روح جديدة"، إلا أن يتساءل: كيف يمكن إذاً للعرب واليهود أن يواصلوا التصرف طبقا"لپ"الروح القديمة" من الكراهية والحقد والتمييز العرقي في مدينة الخليل؟ ثم كيف يمكن للاختلافات الشديدة والعميقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في قضايا جوهرية كالأمن والمرحلة الثالثة من إعادة انتشار القوات الإسرائيلية وقيام الدولة الفلسطينية ومدينة القدس واللاجئين وما إلى ذلك من القضايا، أن تظل قائمة ما دامت أولبرايت تتحدث عن "روح جديدة". من يدري، لربما كانت أولبرايت تشير إلى حقيقة جديدة في العلاقة بين عرفات ونتانياهو وهي أن الرجلين اكتشفا أخيراً ان من مصلحتهما المشتركة أن يتبادلا هدايا علب السيجار بدلاً من تبادل الانتقادات العنيفة. والواقع أن الجو الذي ساد المحادثات التي جرت بين عرفات ونتانياهو عند معبر اريتز برعاية أولبرايت تميز بالوفاق وروح المصالحة بدلاً من المجابهة والجمود. ويبدو ان السر في ذلك يعود إلى ما وصفه مصدر مطلع برغبة إسرائيل في "تقديم تنازل بسيط للولايات المتحدة لتمكين الرئيس بيل كلينتون من الاعلان في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها عن تحقيق نصر ديبلوماسي باهر". ويضيف المصدر القول: "إن إسرائيل أبلغت مستشار الأمن القومي الأميركي ساندي بيرغر ان اشتراك كلينتون شخصياً في محادثات واي يدفع إسرائيل والفلسطينيين إلى تقديم التنازلات. إذ أن إسرائيل ستقدم تنازلات بسيطة لمساعدة كلينتون، بينما سيعده عرفات بشيء ما مع أنه يعرف أنه لا يستطيع تقديم شيء له، بهدف مساعدة الرئيس في محنته الراهنة". لكن ما يتطلبه الوضع الراهن في الشرق الأوسط ليس مجرد أي اتفاق. إذ لا بد، كما يقول البروفسور شبلي تلحمي، من "اتفاق حقيقي وجيّد يجعل تنفيذ المراحل المقبلة وتطبيقها على أرض الواقع أمراً أقوى احتمالاً... المطلوب هو التوصل إلى اتفاق يلتزم الطرفان بتنفيذه لا أن يظل مجرد حبر على ورق مثل بعض الاتفاقات الأخرى". ومع الحديث عن الاتفاقات التي تظل حبراً على ورق، ليس من المبالغة القول إن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لا يتوقعان فعلاً من إسرائيل تنفيذ الاتفاق على انسحاب القوات الإسرائيلي حتى لو توصل الطرفان إلى مثل هذا الاتفاق في واي. إذاً لماذا بدأ كل من عرفات ونتانياهو الرحلة إلى العاصمة الأميركية والبسمات العريضة تعلو وجهيهما؟ من الواضح ان جو الألفة الذي ساد اجتماعهما مع أولبرايت وإشعال كل منهما سيجاره أمامها بعد تناول طعام الغداء في ضيافة عرفات في أوائل الشهر الجاري، يساعد على نقل صورة ممتازة ل "الانتصار الديبلوماسي" الذي حققته أولبرايت وقدمته بدورها هدية إلى رئيسها الذي سيستضيف الرجلين في واي. المسألة إذاً شكلية وظاهرية، إذ ان عرفات ونتانياهو يعرفان جيداً أنهما سيصمدان، بل وربما يجنيان الفوائد من فشل محادثات واي. وسيكون في مقدور عرفات ان يدعي أنه رفض الانحناء أمام المطالب الإسرائيلية، بينما سيكون في وسع نتانياهو ان يعلن للإسرائيليين أنه يرفض التوقيع على أي اتفاق لا يضمن "أمن" إسرائيل وعدم اعلان الفلسطينيين دولتهم إلا بموافقة إسرائيل. أما الرئيس كلينتون الذي يواجه خطر محاكمة أمام الكونغرس بسبب مضاعفات علاقته مع مونيكا لوينسكي فوجد في محادثات واي فرصة ملائمة لتحويل انتباه الأميركيين عن المخاطر الداخلية التي تواجهها رئاسته. ولم يعد سراً الآن ان كلينتون أصبح في موقف ضعيف مما يعني أن البحث عن أنتصار ديبلوماسي خارجي سيساعده لبعض الوقت. وهنا الخطورة في محادثات واي لأن هذه القمة كانت وليدة المصاعب التي تواجه كلينتون ولم تكن نتيجة تحسن فرص التوصل إلى اتفاق بين الفلسطينيين وإسرائيل. ولذا يمكن القول وبصراحة، إن قمة واي شأن مرتجل بل وليس من المستبعد أنها جاءت كفكرة عابرة في قمة اريتز بين عرفات ونتانياهو، وقرر الرجلان تقديمها "هدية" إلى الرئيس الأميركي. فهي قمة غير مدروسة ولم تشهد أي استعدادات مسبقة، اللهم إلا إذا أخذنا في حسباننا الدور الذي قام به دنيس روس المنسق الأميركي لعملية السلام. فمما لا ريب فيه ان روس يحاول تحسين مركزه الشخصي لدى الرئيس ولدى نائبه آل غور. وهل هناك محاولة أفضل من ترتيب قمة بين عرفات ونتانياهو بهذه السرعة... وفي ضواحي واشنطن؟ وفي هذا السياق يقول أحد كبار الساسة اليهود الأميركيين: "أصبحت المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية في رأي روس الطريق الأمثل لإنقاذ الرئيس كلينتون. أما إنقاذ عملية السلام فهو مسألة أخرى". وقصارى القول إن الارتجال في السياسة الأميركية حيال المأزق الفلسطيني - الإسرائيلي ليس بالأمر الجديد. ومع انه قد يعود بالفوائد غير المتوقعة أحياناً، كوسيلة ديبلوماسية، فإنه يصبح في منتهى الخطورة إذا ما حلّ مكان السياسة المدروسة والمخطط لها بدقة. وهذه السياسة الأميركية المرتجلة هي التي دفعت الإدارة الأميركية على سبيل المثال إلى توجيه "انذارات نهائية" لإسرائيل لكي تقبل المبادرة الأميركية الأخيرة، لكنها ظلت تتجاهل تلك "الانذارات". فماذا كانت النتيجة؟ بكل بساطة تراجعت واشنطن عن "انذاراتها"، بينما واصلت إسرائيل تطبيق سياساتها من دون اكتراث بالاعتراضات، وفي مقدمة تلك السياسات الاستمرار في مصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات. لقد انعقدت قمة واي بعدما كانت أولبرايت نفسها قد أعلنت قبل أشهر قليلة فقط أن "واشنطن قررت ان تترك الطرفين كي يسوّيا خلافاتهما... وحدهما". ولذا فإن أي اتفاق تمخضت عنه قمة واي هو اتفاق موقت، مصيره الانهيار بعد أسابيع أو أشهر قليلة!