بدأ الشرق الأوسط يرتب أوضاعه ويحبس أنفاسه في انتظار قدوم "السيدة". والسيدة هي طبعاً وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة مادلين اولبرايت التي آلت على نفسها منذ تعيينها في هذا المنصب ألا تكرر "كابوس" سلفها وارن كريستوفر. فهذا الأخير كاد يقيم في المنطقة من غير ان يحرز تقدماً يوازي الجهد الذي بذله. وكان الصحافيون الاميركيون يتندرون بذكر عدد رحلاته الى دمشق وتل ابيب والساعات التي أمضاها مع فريق عمله في اجتماعات مع قادة المنطقة من دون إحداث الانفراج المنشود. لذا عندما تولت اولبرايت حقيبة الخارجية أكدت ان زياراتها الى الشرق الأوسط ستكون معدودة، وعلى الأرجح مثمرة. وها هي تستعد لجولة فاصلة تريد ان تستند فيها الى عاملين: - الأول: اقليمي يتمثل في نجاح ايهود باراك في هزيمة بنيامين نتانياهو الأمر الذي يفتح، من وجهة نظر واشنطن "نافذة فرص" كانت مقفلة قبل اشهر. ومن الواضح ان اولبرايت ستحاول استغلال ذلك قدر الإمكان على قاعدة التوجه الاميركي الجديد القائل بأن التدخل يجب ان يكون نوعياً وليس كمياً. - الثاني: دولي، يتمثل في الانتصار الذي حققه حلف شمال الاطلسي في حرب كوسوفو. فليس سراً ان الولاياتالمتحدة هي التي قادت التحالف الدولي ضد الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش. ولكن ما ليس معروفاً ان اولبرايت تزعمت "الصقور" في الإدارة وساجلت كل من دعا الى الحوار، معتبرة ان بلغراد مسؤولة عن إحباط مفاوضات رامبوييه وباريس، وان اللجوء الى القوة بات أمراً لا مهرب منه. وتعمدت أوساط وزارة الخارجية الاميركية، اثر وقف النار في البلقان، القول ان ما جرى هناك رسالة الى الشرق الأوسط، وأن الحلقة الثانية في اهتمام واشنطن ستكون "جنوبية" والقصد منها توسيع رقعة الاستقرار ومنع النزاعات من ان تتفاقم لتهدد السلام الاقليمي والمصالح الاستراتيجية للدول الكبرى. اولبرايت قادمة اذاً وفي يدها الأولى "جزرة" باراك، وفي الثانية "عصا" كوسوفو. والمعروف ان فكرة هذه الجولة وبرنامجها وجدول أعمالها ومحاورها الرئيسية تبلورت الى حد بعيد خلال الزيارة الأولى التي قام بها باراك للولايات المتحدة. لقد تعمد استنفاد الوقت المسموح له به لتشكيل حكومته، لكنه ما ان فعل ذلك حتى باشر تحركاً كثيفاً، فالتقى الرئيسين المصري حسني مبارك والفلسطيني ياسر عرفات، ثم العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني. وأعطى للقاءاته هذه طابع التعارف، وكسر الجليد، واشاعة مناخ تفاؤلي، لكنه لم يعد بأي شيء حاسم. وبما أنه أدرك ان جواً جديداً ينشأ، فقد عمد الى التركيز على ضرورة خفض سقف التوقعات وعدم انتظار نتائج سحرية لنزاع مستمر منذ قرن. ما أن أنهى باراك جولته التمهيدية في الشرق الأوسط حتى توجه الى الولاياتالمتحدة التي استقبلته بترحاب لم يشهد مثله رئيس وزراء اسرائيلي سابق. فهو يريد من جهته احياء الحجر الاساس في السياسة الخارجية الاسرائيلية، وواشنطن تنتظر من جانبها هذه الفرصة لاستعادة حرارة في العلاقات هبط بها نتانياهو الى أدنى درجاتها. وثمة اجماع على ان الزيارة حققت أهدافاً عدة تدعم موقع كل من الدولتين وتعزز ما هو مشترك بينهما. وذلك على النحو الآتي: - أمكن لباراك توطيد علاقته الشخصية مع الرئيس كلينتون الذي انتظر قدومه بلهفة "ولد أمام دمية جديدة". لقد اجتمعا لساعات طويلة معظمها على انفراد أو في أجواء عائلية حميمة. وتبارى الاثنان في كيل المدائح لبعضهما، ويمكن القول ان الصلات بين الرجلين باتت في سوية العلاقة بين العاصمتين. - حصل على تعهدات مالية لقاء تنفيذ اتفاق "واي ريفر" وعلى وعود بمساعدة عسكرية جزيلة وتشكيل لجان مشتركة للبحث في قضايا الأمن والمياه والسياحة والفضاء والتخطيط الاستراتيجي. والعنوان الاجمالي لذلك هو الاستعداد الاميركي لتغطية كل مجازفة تقوم بها اسرائيل سعياً وراء السلام. - انتزع باراك موافقة الولاياتالمتحدة على خفض دورها على المسار الفلسطيني لتعود فتصبح "مسهّلاً" وليس "حكماً ولا شرطياً ولا قاضياً". ويعني ذلك عملياً نقضاً لاتفاق "واي ريفر" الذي ينص على وجود اميركي مباشر في عدد من اللجان، خصوصاً الأمنية. - عرض رئيس الوزراء الاسرائيلي وجهة نظره حول تعديل تنفيذ اتفاق "واي ريفر" واتفق مع اولبرايت على جدول زيارتها للمنطقة. ومع ان الاميركيين محرجون في موافقته على العبث بالاتفاق الذي رعاه كلينتون ووقع عليه، ومارس ضغوطاً هائلة على الفلسطينيين ثم على نتانياهو من أجل التوصل الىه، مع ذلك فإنه لم يبدر منهم ما يشير الى أنهم خالفوا باراك الرأي. لقد سبقت زيارة باراك الى اميركا واقامته فيها مواقف متحفظة من مصر ومتفائلة من الولاياتالمتحدة واسرائيل وسورية. اذ بدا ان القاهرة مستاءة من محاولات إبعادها ومن احتمال تعرض المسار الفلسطيني الى الإهمال، ومن نمو العلاقات الاميركية مع اسرائيل على حساب مثيلتها مع مصر. وقد عبرت عن ذلك بسلسلة تصريحات لكبار المسؤولين فيها تصر على تنفيذ الاتفاقات الموقع عليها، وعلى وقف الاستيطان في الأرض المحتلة، وضرورة التقدم في المسارات كلها. في هذا الوقت، استمرت دمشق ترسل اشارات ايجابية وتلقى ردوداً مماثلة عليها من واشنطن وتل ابيب. وتردد في سياق ذلك ان الزيارة قد تنتهي بتحديد موعد استئناف المفاوضات، بل ذهبت صحف اسرائيلية بعيداً جداً الى حد القول ان قمة ثلاثية ستعقد في جنيف تضم كلينتون والرئيس حافظ الأسد وباراك. تميزت الساعات الأخيرة من زيارة باراك لأميركا بنوع من التلبد في الأجواء المتفائلة، فهو حصل على ما حصل عليه، وشرع يمهد لخفض سقف التوقعات العربية. فتحدث - مثلاً - عن الجولان مؤكداً ان لا وجود لأي التزام اسرائيلي بالعودة الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، ولا نية للسماح للسوريين بالوصول الى مياه بحيرة طبريا. واستعاد نظرية اسحق رابين الشهيرة في المفاوضات معتبراً ان الاتفاق على حدود الانسحاب في آخر الجدول، ويجب ان يسبقه اتفاق في شأن لبنان والمياه والترتيبات الأمنية والاقتصاد والسفارات. وبلور باراك في واشنطن اكثر من السابق لاءاته المعروفة في ما يخص المسار الفلسطيني، اذ رفض أي انسحاب من كامل الأراضي المحتلة، وأي تفكيك للمستوطنات، وأي تنازل عن القدس، وعودة اللاجئين، ووجود جيش أجنبي الى الغرب من نهر الأردن. وأجمل مواقفه هذه بالقول انه يحتاج الى خمسة اشهر لمعرفة هل حصل انفراج في أي من مسارات التفاوض. وبدا واضحاً من اختياره هذه المدة الزمنية إفهام السوريين ان باراك غير مستجعل، وانه يعتبر ان الوقت يمضي لصالحه. وكذلك افهام الفلسطينيين ان تطبيق اتفاق "واي ريفر" يمكنه ان ينتظر، وكذلك مفاوضات الحل الدائم التي لم تبدأ بعد. وعلى رغم هذه المواقف، فإن الرئيس الاميركي هب الى القول ان أمام الرئيس السوري "فرصة ذهبية" وان نتائج اجتماعاته مع باراك "طيبة" وانه سيعمل على اعادة تحديد دور واشنطن في المفاوضات. ولوحظ اثر عودة باراك ان المواقف الفلسطينية والسورية باتت أكثر ميلاً الى التحفظ، فقد طالب ياسر عرفات بالتنفيذ الفوري لاتفاق "واي" سواء لجهة الانسحابات أم الممر الآمن أو اطلاق الأسرى أو فتح ميناء غزة. وأضاف الى ذلك الدعوة الى اجراءات تبني الثقة خفض هدم المنازل، وقف مصادرة هوية المقدسيين.... وشرع السوريون يركزون على أنهم ينتظرون اجراءات ومواقف ملموسة تترجم النوايا المنسوبة الى باراك حول رغبته في السلام. وربما جاء تصريح أحد أقرب المستشارين الى باراك داني ياتوم في هذا السياق، فلقد أكد ان اسرائيل مستعدة لاستئناف المفاوضات مع سورية من حيث توقفت في شباط فبراير 1996، مستدركاً ان هناك خلافاً حول تفسير ذلك. واذا كانت دمشق ابدت ارتياحاً للشق الأول من هذا الكلام، فهي قد تحفظت على الاستدراك، واكدت انها تملك التزاماً اسرائيلياً بالانسحاب الى حدود 4 حزيران وان تجديد هذا الالتزام شرط لاستئناف المفاوضات. ورد مسؤولون اسرائيليون على هذا التأكيد بالقول ان رابين لم يقدم أي تعهد أو التزام، وانما طرح سؤالاً افتراضياً. وكان الملفت ان معتدلين في حكومة باراك مثل وزير العدل يوسي بيلين هم الذين تولوا السجال مع الطرح السوري رافضين اعلان نية الانسحاب الى حدود 4 حزيران، وكحد أقصى، الموافقة على الانسحاب الفعلي. وذكر بيلين ان اسرائيل لم تنسحب على المسار المصري الى هذه الحدود بدليل بقاء غزة تحت سيطرتها بعد كامب ديفيد، وانها لا يمكن ان تكافئ سورية أكثر من مصر في حين ان السادات فعل اكثر مما فعله الأسد "ألف مرة". وحصل في هذا الوقت الاعلان عن وفاة الملك الحسن الثاني فسرت شائعات عن ان جنازته قد تتحول تظاهرة سلام عربية - اسرائيلية. وانطلقت هذه الشائعات من كلام لوزير خارجية اسرائيل ديفيد ليفي الذي قال انه اذا شاهد الرئيس الأسد في الرباط فسيتقدم الى محادثته. كما سربت أنباء عن اعتزام كلينتون الجمع بين باراك والأسد في حال حضر الأخير الجنازة. وربما لعبت هذه الأقاويل دوراً في دفع الرئيس السوري الى عدم المشاركة، فتم الاكتفاء بلقاء ثلاثي بين كلينتون وعرفات وباراك، وهو لقاء لا يبدو انه نفع في تقريب وجهات النظر المتباينة بين الاسرائيليين والفلسطينيين. وهكذا تحول الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة الى نجم الجنازة عبر مصافحته باراك وتبادل الحديث معه لمدة سبع دقائق. عادت الأمور بعد الجنازة الى مجراها الأول. وشهد الحوار غير المباشر بىن سورية واسرائيل فتوراً ملحوظاً في حين تطور الخلاف الفلسطيني - الاسرائىلي وخرج الى العلن بعد سلسلة اللقاءات الثنائية بين كل من عرفات وباراك وبين مبارك وباراك، وبين مبارك وعرفات. وتفيد المعلومات ان باراك طلب من الرئيس المصري اقناع عرفات بمهلة اسبوعين لدراسة الاقتراحات المقدمة اليه حول تعديل اتفاق "واي ريفر"، وان عرفات استأخر الجواب لاستطلاع الآراء داخل "فتح" ولعدم تعطيل الحوار مع كل من "الجبهة الشعبية" و"الجبهة الديموقراطية". ولوحظ ان البيان الختامي لاجتماعات اللجنة المركزية ل"فتح" جاء متشدداً في وقت اصطدم كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات بنظرائه الاسرائيليين، وخرج من الاجتماع معهم صافقاً الباب وراءه وسامحاً لعرفات بإصدار أول تعليق سلبي على سياسة باراك. ان الفترة الفاصلة عن زيارة اولبرايت ستكون، كما درجت العادة، فترة توضيح مواقف الحد الأقصى لكل طرف. فهذه هي شروط اللعبة. ولكنها لعبة خطرة اذ يمكنها ان تقود الى تسويات، كما يمكنها ان تجعل السياسة أسيرة مواقف متصلبة تفرض على وزيرة الخارجية القيام بما أوحت بأنها ترفضه: تكرار تجربة كريستوفر