بعد أقل من شهر على استئنافها، دخلت المفاوضات السورية - الاسرائيلية أزمة تبدو للبعض كبيرة. فقبل توجه رئيس السلطة الفلسطينية الى واشنطن لبحث أوضاع المفاوضات على المسار الفلسطيني مع الرئيس كلينتون وأركانه، أعلنت القيادة السورية تأجيل سفر وفدها للجولة الثالثة من المفاوضات. واشترطت استئنافها على ذات المستوى العالي الذي بدأت به بالتزام الحكومة الاسرائيلية بالانسحاب من الأراضي السورية المحتلة حتى حدود الرابع من حزيران 1967. وربط بعض أوساط السلطة بين تأجيل سفر الوفد السوري وسفر الوفد الفلسطيني. الى ذلك جاء رد باراك على الاعلان السوري هادئاً، وقال: "اسرائيل لن تخضع للابتزاز، والسلام حاجة مشتركة ولن نرضخ للشروط المسبقة". فهل بدد الموقف السوري فرصة توصل الطرفين الى اتفاق ينهي نزاعهما المزمن، أم ان الأزمة تكتيكية وسيتم تجاوزها بسرعة، والموقف السوري يساعد في تفعيل دور الشريك الاميركي، ويسرع توصل الطرفين الى اتفاق "في غضون الشهرين المقبلين" كما تعهدا للرئيس كلينتون؟ بديهي القول انه لا يمكن للسوريين والاسرائيليين التوصل بيسر وسهولة الى اتفاق، مقدر له احداث تغيير نوعي في أوضاع المنطقة لسنوات طويلة، من دون وقوع أزمات كبيرة وصدمات قوية تحضر الرأي العام لاستقبال الحدث الكبير. ويخطئ من يعتقد ان نشر الصحافة الاسرائيلية "مسودة معاهدة السلام" التي تقدم بها الرئيس كلينتون في الجولة الثانية من المفاوضات تم بفعل تسريب فضولي قام به أحد أعضاء الوفد الاسرائيلي. فالتسريب مقصود وتم بمعرفة باراك لإظهار ما حققه في مجال الأمن وتطبيع العلاقات الديبلوماسية والتجارية والسياحية، وتهيئة الجمهور الاسرائيلي لتقبل الاتفاق والتصويت لصالحه في الاستفتاء الذي التزم إجراءه. وردّت القيادة السورية على التسريب بالإصرار على التأجيل الذي يتضمن محاولة نفي تهمة التسرع في إبداء تفهم مطالب اسرائيل بتطبيع العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية والسياحية، والتجاوب مع مفاهيمها الأمنية قبل حسم مسألة الانسحاب من الجولان. والتأزيم المدروس كما حصل لا يتعارض مع دور الراعي الاميركي، بل يعززه كشريك. والمطلوب حسب وجهة نظره عودة الطرفين الى شيبردزتاون بقرارات سياسية حاسمة، وبخاصة حول انسحاب الجيش الاسرائيلي الى حدود 4 حزيران كما تطالب سورية، بعدما وافقت على معظم تفاصيل تطبيع العلاقات التي طلبها باراك. وفي كل الأحوال يمكن القول ان الأزمة التي عبرتها المفاوضات السورية - الاسرائيلية أزمة عابرة سيتم تجاوزها بسرعة، وتختلف عن الأزمات السابقة التي مرّت بها في مرحلة اتفاق اوسلو عام 1993 وفي فترة حكم نتانياهو 96 - 99. فالطرفان توجها هذه المرة الى شيبردزتاون ومعهما، لاعتبارات متعددة ومتنوعة، قرارات استراتيجية بحل نزاعهما المزمن حلاً نهائياً وشاملاً، ودفع ثمنه حتى لو كان مؤلماً وقاسياً كما وصفه باراك. والهبات الساخنة والباردة التي هبت وستهب لاحقاً على الصحافة ووكالات الانباء لا تغير حقيقة ان الطرفين دخلا المفاوضات وليس باستطاعتهما، لاعتبارات داخلية وخارجية كثيرة، تفجيرها والخروج منها من دون اتفاق، لان أرباحه في حسابات الطرفين تفوق بما لا يقاس خسائره. واذا كانت مصالحهما الاستراتيجية والمباشرة ضغطت باتجاه استئناف المفاوضات، كما دفعتهما رغبتهما المتبادلة في التوصل الى اتفاق الى قبول قيام الراعي الاميركي بدور الشريك الذي يملك زمام المبادرة، فهي تضغط الآن بقوة أكبر لاستمرارها على رغم التصعيد الاخير في لبنان. وعامل الزمن يضغط على الأطراف الثلاثة، ومصالح ادارة الرئيس كلينتون تضغط على الطرفين لتحقيق نتائج ملموسة خلال أقصر فترة زمنية ممكنة، وتحديداً قبل ارتفاع درجة حرارة الانتخابات الاميركية منتصف العام المقبل. وتؤكد مجريات مفاوضات الجولة الأولى والثانية، ونتائجها الأولية كما وردت في "ملخص كلينتون" تجاوز الطرفين خلال اسبوعين من المفاوضات المباشرة المكثفة مرحلة جس النبض، ودخلا في البحث عن حلول وسط تحقق لهما الحدود الدنيا من اهدافهما. وحققا تقدماً ملموساً في معالجة المسائل الاجرائية، وجوانب عدة من القضايا الجوهرية وبخاصة في مجال تطبيع العلاقات الثنائية والترتيبات الأمنية المشتركة. وما حققاه في جولتين يؤسس لتقدم اسرع وأشمل وأهم، ويؤهلهما لصفقة متكاملة تنتج "اتفاق سلام" أو "إعلان مبادئ" تفصيلياً وموسعاً يكون مرشداً لعلاقاتهما المستقبلية، وينقلهما من حال الحرب الى حال جديدة من السلام خصوصاً بعد اعتمادهما رسمياً "ملخص كلينتون"، قاعدة لعمل اللجان الأربع الاساسية، واستمرارهما في التفاعل ايجاباً مع مبادراته ومع الدور المحوري المكثف الذي يقوم به. الى ذلك سيكون مع الاتفاق السوري أو بعده، وليس قبله، اتفاق لبناني - اسرائيلي شامل، ينهي نزاع البلدين حول مختلف القضايا الثنائية، ويطبع رسمياً علاقاتهما الثنائية بغض النظر عن رأي القوى الوطنية اللبنانية، ويغلق ملف الصراع في جنوبلبنان، وينهي مبررات وجود الحزام الأمني الذي انشأته اسرائيل. وأياً تكن نصوص الاتفاق السوري وملحقه اللبناني فالمؤكد انه سيخلق عدداً من الحقائق الجديدة في المنطقة تظهر مباشرة على سطح العلاقات العربية - العربية، والعربية - الاسرائيلية. ابرزها تعزيز توجه شعوب المنطقة نحو نبذ الحروب واعتماد لغة الحوار سبيلاً وحيداً لحل صراعاتهم المزمنة، وتزويد عملية السلام التي بدأت في مدريد عام 1991 بقوة دفع اضافية تكفي لمواصلة تعميق الواقعية في الفكر السياسي الاسرائيلي والعربي في السنوات المقبلة. كما تدفع بالسياسات التوسعية والمعتقدات الايديولوجية الغيبية المثالية تدريجاً الى الوراء، تاركة لمن يشاء من الجانبين الاحتفاظ بها في أعماق ضميره. وبتوصل الأطراف الثلاثة، لبنان وسورية واسرائيل، الى اتفاقات تستكمل اسرائيل الصلح مع "دول الطوق"، ويغلق ملف النزاع السوري - الاسرائيلي "حول الوجود والحدود" ويفتح ملف جديد لعلاقات سلمية شبيهة بتلك السائدة مع مصر والأردن. وقد تشهد المنطقة تسارعاً في انفتاح مزيد من الدول العربية ديبلوماسياً واقتصادياً على اسرائيل. وستحصل اسرائيل على مطلبها بتفعيل مفاوضات متعددة الأطراف، وبعث الحياة في المؤتمر الاقتصادي الشرق أوسطي، وقد نشهد "بدء حوار بين الحضارات، وبدء منافسة مشرفة في مجالات متنوعة سياسية وثقافية وعملية واقتصادية" كما قال الوزير الشرع في خطابه الشهير، الذي ركز فيه على قضايا سورية الاقليمية فقط، وقفز كلية عن مكونات الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي ومصير "قضية العرب الأولى". وبصرف النظر عن النتائج البعيدة للاتفاق السوري - الاسرائيلي فقد نجح قبل ولادته في إرباك مواقف عدد من القوى السياسية والمثقفين العرب، وبادر بعضهم الى تخفيف حدة معارضته لعملية السلام ووقع تبدل نوعي في علاقة حركة حماس بالحكومة الأردنية وجهته سلبية، وتأثرت علاقة قيادتها في الداخل بأركان مكتبها السياسي في الخارج. وسارع آخرون في المعارضة، من دون مراجعة جريئة وشاملة، لإعادة النظر بعلاقتهم بالسلطة لجهة تطبيعها، وبموقفهم من الاتفاقات الفلسطينية - الاسرائيلية لجهة التعامل بها كأمر واقع، وأوقفوا مطالبتهم بإلغائها كشرط للعمل المشترك، وراحوا يبحثون في سبل قيامهم بدورهم الوطني ضمن اطار مؤسسات منظمة التحرير. وأظن ان الاتفاق السوري - الاسرائيل القادم، ولاحقاً اللبناني، سيحركان بقوة وبشكل دراماتيكي الأوضاع والعلاقات داخل اسرائيل وفي عدد من دول المنطقة، بما لا يقل عن تلك التي شهدتها بعد اتفاقات كامب ديفيد. وسيساهمان في تصحيح العلاقات السورية - الفلسطينية، واللبنانية - الفلسطينية الرسمية، ويرسيان أرضية جديدة لعلاقة اكثر موضوعية بين الأطراف الثلاثة بعد ان تتساوى مواقفهم من السلام مع اسرائيل، ويتم تطبيع لغة الكلام بينهم. وقد ترفع الادارة الاميركية الحظر المفروض على انعقاد القمة العربية المصغرة أو الموسعة التي طال انتظارها، فعندها تصبح القمة مطلوبة لمباركة الاتفاق وتوفير كل أشكال الدعم لتنفيذه بنجاح وتطبيع العلاقات العربية - الاسرائيلية. الى ذلك، استنفر الاتفاق قبل ولادته ايضاً القوى الاسلامية في سورية ولبنان والأردن. وأخذت القيادة الايرانية الرسمية موقفاً سلبياً من المفاوضات، ووصفها المرشد الروحي للثورة "تراجع عن مواقف ثورية". ورفض اضفاء الشرعية على اسرائيل، وباتت العلاقات السورية - الايرانية الحميمة معرضة لهزة نوعية عنيفة قد تطيح بتحالف البلدين في أمد قريب. وسيضع الاتفاق السوري - الاسرائيلي "حزب الله" بين خيارين صعبين، إما احداث تغيير جذري وسريع في استراتيجيته السياسية والجهادية وفتح مسافة عن ايران والتساوي بالمعارضة الوطنية، أو التمسك بإيران كمرجعية والدخول في تصادم عنيف مع سورية واجهزة السلطة اللبنانية. وإذا كان مجرد تجدد المفاوضات بين سورية واسرائيل استفز واستنفر قوى اليمين الاسرائيلي، العلمانية والدينية، بعضها يشارك في الحكومة، وحشدت في شوارع تل ابيب تحت شعار "لا للنزول من الجولان" ما يزيد على 200 ألف، ففي الإمكان تقدير طبيعة التفاعلات الايديولوجية والصراعات الحزبية التي سنشهدها في الشارع الاسرائيلي وفوق مسرح الكنيست بعد توقيع الاتفاق، وخلال فترة التحضير لاستفتاء الجمهور حوله. ويفترض ان لا يختلف الفلسطينيون على ان رياح الخلافات الاسرائيلية تحمل لهم معها متاعب اضافية، وتكرس عدم قدرة قيادة حزب العمل وحكومة باراك وقوى اليسار الاسرائيلي على تحمل حلين شاملين على الجبهتين السورية - اللبنانية والفلسطينية، وتدفعها نحو التشدد في المفاوضات على مسارهم. وسلفاً يمكن القول ان العاصفة القوية التي ستهب على المنطقة بعد الاتفاقات الجديدة ستضعف موقف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات وموقف المعارضة في معارضتها. وخير للفلسطينيين ان يعملوا على تقليص نسبة خسائرهم، بترتيب أوضاعهم الداخلية، وتركيز جهودهم على انتزاع حقوقهم التي نصّت عليها اتفاقات المرحلة الانتقالية، وعدم التعمق في هذه المرحلة في دهاليز الحل النهائي. ويخطئ من يعتقد ان في الإمكان في مرحلة المفاوضات السورية - الاسرائيلية وفترة تنفيذ اتفاقات سينبثق منها، التوصل الى "اتفاق اطار" على المسار الفلسطيني يعالج قضايا الحدود والقدس واللاجئين... الخ، الا اذا رضخ المفاوض الفلسطيني للموقف الاسرائيلي، ووافقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على بقاء المستعمرات والقدس بمقدساتها تحت السيادة الاسرائيلية، وقبلت "إعلان مبادئ" يتضمن انتهاء النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، مقابل اعتراف اسرائيل والإدارة الاميركية بدولة على أقل من نصف أراضي الضفة والقطاع. * كاتب فلسطيني