أدمغة الهنود : العودة قبل جيل، غادر عشرات آلاف المهندسين الهنود بلدهم متوجهين الى أميركا. الكثيرون منهم أثروا مع ازدهار التقنية الرفيعة وتوسّع مجالاتها. وفي هذه الغضون تحولوا رموزاً على نزف الأدمغة الذي تعانيه "البلدان النامية"، لا سيما الهند. الآن بدأ، على ما يبدو، ميل معاكس. فبعض هؤلاء، وهم من الناجحين في الولاياتالمتحدة، شرعوا يعودون. وهي ليست عودات لزيارة الأهل والأقارب، بل لانشاء شركات ومشاريع والاستثمار في المجال التقني. وبدل الحديث القديم عن نزف الأدمغة، ظهر من يتحدث عن بدايات تأسيس البنك الهندي للأدمغة. ففي زمن غدت معه الطائرة والتليفون والبريد الالكتروني وآلات الفاكس تقصّر المسافات وتخلط الامكنة، صار من السهل على العائد ان يبقى على صلة وثيقة بمكان هجرته. وهذا النمط هو ما يظهر اليوم في الهند التي ودّعت بدءاً بأواخر الستينات أكثر من 25 ألفاً من أبرز خرّيجيها الذين قصدوا أميركا، حيث باتوا يديرون ما لا يقل عن 750 شركة تكنولوجية في سيليكون فالي بكاليفورنيا. العائدون يقولون الآن انهم يفعلون هذا ليس فقط لأن الحكومة ناشدتهم العودة، بل أيضاً لأنهم نجحوا كأصحاب مشاريع، وهناك الآن فرص تنتظرهم في الاقتصاد الهندي المتزايد الانفتاح. فإذا كانت حكومة بهاراتيا جاناتا متعصبة قومياً ودينياً، الا انها أيضاً أكثر ترحيباً بالمشاريع واصحابها من حكومات حزب المؤتمر السابقة. لكن وجهاً ثانوياً من وجوه نشاطهم الجديد هو تقديم اجزاء من ثرواتهم لفقراء الهند. فالحكومة، مثلاً، تحدتهم ان يجمعوا بليون دولار ويقدّموها للجامعات التي تخرجوا منها. وقد فعلوا. أزمة المطبخ الفرنسي المطبخ الفرنسي الشهير بحذلقته وتعدد اطباقه وتنوع صلصاته ومَرَقه، يعاني أزمة قد تقضي عليه نهائياً. فهذا المطبخ الذي ارتبط بالذوق الاريستوقراطي لا في فرنسا وحدها بل بين عليّات القوم في العالم، يدفع، بدوره، ثمن ضمور الاريستوقراطية ودمقرطة الحياة وتعقيدها. فهناك، أولاً، ضغوط اقتصادية واجتماعية متنامية على مطاعم "النجوم" الفخمة والتي لعبت دائماً دورها الكبير في ترويج المطبخ الفرنسي. ذاك ان صعوبة الحصول على جهاز بشري مدرّب الطبّاخ، النادل الخ...، معطوفة على كلفة عمله المرتفعة، تفتتحان المأزق. فكيف وان اسبوع العمل الذي يتقلّص في فرنسا الى 35 ساعة، سيرفع الأكلاف على أصحاب المطاعم. وفي المقابل بات من غير السهل حتى في باريس الكوزموبوليتية، تأمين مواد الطبخ كما كانت تُزرع وتُسوّق قبلاً بالتمام والكمال. وأهم من هذا ربما، تغيّر عادات ومطاليب الأغنياء ومرتادي المطاعم. فالأخيرون اتسع نطاقهم كثيراً وأصبح ارتيادهم المطعم أوثق صلة بدوام المكتب أو الشركة. وحتى في فرنسا نفسها غدا من الصعب توفير جمهور كبير يمكنه قضاء ثلاث ساعات او أربع على الوجبة الواحدة. واتضح هذا التحول في مبيع "دليل المطاعم" الذي انخفض الى 250 ألف نسخة بعدما كان في 1990، 600 ألف، لكنه اتضح ايضاً في سحب بعض المطاعم أدواتها الفضية من التداول لأن تنظيفها يستغرق ساعات بأكملها فيما تراجع كثيراً المهتمون بما اذا كانت الشوكة والسكين من فضة او غير ذلك. وفي موازاة هذا كله يتقدم مطبخ جديد بدأ يشكّل خطراً جدياً على المطابخ القومية، بما فيها الفرنسي. وهذا الجديد متعدد الهويات القومية رغم ولادته في الولاياتالمتحدة: انه خليط ايطالي - مكسيكي اساساً الا ان الهمبرغر ومتفرعاتها تنطوي فيه. وعناصره هذه تؤسس له قاعدة بشرية معقولة ينطلق منها: في أوروبا الجنوبية والمتوسط وأميركا اللاتينية، فضلاً عن الولاياتالمتحدة. ومطبخ كهذا يوفّر الغنى والتعدد والجودة، معطوفة على العملية والسرعة. بوليس على البوليس؟ اذا كان البوليس النيويوركي مضرب مثل في الفساد، فالشيء نفسه غدا ينطبق، بصورة او اخرى، على المدن الكبرى جميعاً: من لوس انجليس الى باريس، ومن مكسيكو الى طوكيو. فضائح البوليس تتكاثر في العالم كله، فلا يمرّ اسبوع الا تظهر واحدة او اكثر، حتى غدت هذه الظاهرة من معالم التمديُن في زمننا. من يكون بوليساً على البوليس؟ هذا هو العنوان الذي وضعته مؤخراً "واشنطن بوست" لتحقيق عن الشرطة في البرازيل. ويبدو ان هذا الموضوع تعدى النقاش في ادوار وزارات الداخلية وصلاحياتها وتجهيزاتها، الى البرلمانات وعمليات التشريع واصدار القوانين. اما في ما خصّ النشاطات العنصرية تحديداً التي يرتكبها افراد من البوليس، فتبين ان الحاجة الى البرامج التثقيفية ذات الحاح قاهر. مع هذا تبقى مشكلة ليس من السهل تذليلها: فإذا كانت المدن تزداد كبراً واتساعاً، فكذلك تكبر الجريمة وعصاباتها التي تعدّت الحدود الوطنية وصارت مافيات اقليمية او أممية. وفي المقابل، وتبعاً لفورة المال، والمال وحده، منذ الثمانينات، ضعفت الروابط الاجتماعية بين السكان ممن باتوا اقل اعتناء بمعايير الجيرة والثقة والحرص على المصالح العامة. نقاش في البطالة والاقتصاد نجاحات "الاقتصاد الجديد" في الولاياتالمتحدة، المؤسس على التقنيات، تطلق نقاشاً يزداد سخونة يوماً بيوم. ذاك ان توقع الضمور الذي يلي التوسع هو ما خاب مراراً في السنتين الماضيتين. ويتبين انه كلما حمي الاقتصاد قليلاً امكن باجراءات بسيطة تبريده، بعيداً جداً عن احتمالات بلوغ الأفق الانفجاري. النقاش غالباً ما يبدأ بمراجعة "منحنى فيليبس"، وهو العلاقة بين البطالة والتضخم كما اقترحها الاقتصادي البريطاني أ. دبليو. فيليبس اواخر الخمسينات، ثم تطورت الى شكلها الحالي في اواخر الستينات على ايدي نِد فِلبْس وميلتون فريدمان. وعملا بهذا المنحنى استقرّت، لمدة تزيد على 25 عاماً، توقعات الاقتصاديين الأساسيين على الحسبة التالية: كلما هبطت البطالة الى ما دون حدّ متدنّ ما، والذي يُسمّى "المعدل الطبيعي للبطالة"، باشر التضخم ارتفاعه. ولسوف يوالي التضخم الارتفاع الى ان تعاود البطالة ارتفاعها فتتجاوز، في البداية، ذاك المعدل "الطبيعي"، ثم تتوازن مع حركة التضخم. الآن لم يعد هذا المنحنى يشتغل. لكن اقتصاديي المنحنى يبدو انهم كفّوا عن اصدار التوقعات وشرعوا يصدرون التخمينات، مراهنين على ان منحناهم لا بد ان يعود الى العمل قريباً... وهذا القريب لا يني يبتعد! ففي 1994، وكانت البطالة انخفضت الى 1،6 في المئة لم يرتفع التضخم. الا انه في 1996، وكانت البطالة قد انخفضت الى ادنى مستوى تعرفه منذ عقود، لم يرتفع التضخم ايضا بل هبط الى ما يقل عن 2 في المئة سنويا. اما في 1999 فالبطالة انخفضت الى 2،4 في المئة، اي ما هو ادنى بكثير من "المعدل الطبيعي"، فيما انخفض التضخم معها الى 5،1 في المئة. وهكذا تتصاعد النبرة القائلة بضرورة ابتكار نظرية جديدة عن التضخم تكون اشد تعقيداً ومواكبة لما يجري. طالبان وأفيون أفغانستان تجارة الأفيون والمخدرات، في افغانستان، ليست في احسن اوضاعها. السبب: حكم الطالبان. فهؤلاء يبدو انهم، بعد طول تردد، قرروا توجيه ضربة، وإن غير استئصالية، للتجارة المذكورة بعدما بلغت في 1999 رقماً قياسياً: 5070 طناً، او 75 في المئة من مجموع الانتاج العالمي المسوّق. فالافيون كان يباع علنا في افغانستان كما يباع البصل. فما الذي جرى وحمل الطالبان على تغيير سلوكها ولو جزئياً؟ من المعروف ان حكام كابول الحاليين لم يفعلوا اي شيء يُذكر لكبح تجارة المخدرات غير الشرعية، على رغم كل الادانة التي وُجّهت اليهم في الخارج، بل على رغم تحفظات اوساط دينية افغانية اعتبرت هذا النشاط متعارضاً مع الدين والاخلاق. كل ما فعلوه هو انهم كانوا، بين حين وآخر، يغلقون معملاً او مختبراً، او يحرقون كمية هيرويين طالبين من الصحافة تصويرها ونشرها على العالم. لكن في ايلول سبتمبر الماضي حدث التحول: فبعد مناشدات وتهديدات ملحة ومتواصلة من الاممالمتحدة، وجه الزعيم الطالباني الاعلى الملا محمد عمر امرا للفلاحين باتلاف ثلث هذا النوع من المزروعات. وتولت قوات الميليشيا فعلا انفاذ الامر. والتردد السابق له مصدران: ان هذا القرار غير شعبي فيما لا يزال حوالي 15 في المئة من اراضي افغانستان خاضعاً لأعداء الطالبان: المجاهدين. والثاني ان حكومة الطالبان نفسها جنت الملايين من ضرائبها على تجارة المخدرات وعلى عمليات تسويقها. الا انه يبدو ان الحزم في التطبيق بحدود الثلث، محاولة لحمل العالم والاممالمتحدة التي لا تعترف بحكومة الطالبان، على تغيير رأيهما! رئاسيات أميركا: الدين والسياسة الذين ظنوا ان الانتخابات الايرانية الاخيرة خففت قبضة الدين على السياسة، فاتهم ان الدين يشدد قبضته على السياسة في... الولاياتالمتحدة الأميركية. فمنذ ابتداء حملة الرئاسة 2000، والمرشحون جميعاً يرفعون الدين الى صدارة المواضيع والاهتمامات. حاكم تكساس جورج دبليو بوش غالباً ما تحدث عن السيد المسيح وكيف غيّر قلبه. نائب الرئيس آل غور، وفي محاولة منه ان يؤنسن صورته الخشبية، خرج على العالم بصفته مسيحياً ولد من جديد. حتى السناتور جون ماكين الذي اشتهر بهجماته على اهل اليمين المسيحي من "عملاء عدم التسامح"، تحدث بشكل مؤثّر عن تجاربه الدينية في زنزانته في هانوي. هذه الوجهة هي ما رأتها مجلة "كريستيان ساينس مونيتور" دليلا على غلبة الجوانب الشخصية والاخلاقية، عند المقترعين، على المواقف السياسية والايديولوجية للمرشحين. ذاك ان الرغبة في الابتعاد قدر الامكان عن فضائح الرئيس بيل كلينتون حمّلتهم على الكلام عن الايمان، وفيه، بشكل غير مسبوق في المجال العام. غير ان اقحام الدين في السياسة، على هذا النحو، رتّب مشكلات اخرى. فالتديّن العميق في الولاياتالمتحدة شرع منذ عقود ينتهي الى تأكيد الحب والوئام بين الجميع. وفي هذا المعنى تراجع خطاب الكراهية الذي ارتبط بدعاة اليمين المسيحي ك"الاكثرية الاخلاقية" وبات روبرتسون والاب فالويل، وزاد الغرف من معين خطاب المسيحية السوداء للكنائس الجنوبية حيث يسود التبشير بأخوّة بني البشر. فحينما وضع المرشحون يدهم مؤخراً على القاموس الديني اعادوا تحويله في وجهة الكراهية، وقرنوه بالتهم التي راحوا يتبادلونها في ما بينهم. ويبدو ان الاثر الذي تركه ذلك جاء سيئاً جداً، اذ رغم التراجع الكبير الذي يعانيه اليمين المسيحي راهنا، لم تلاق اتهامات ماكين له ترحيباً يُذكر، فيما كان تبادل القصف الكلامي بينه وبين جورج دبليو بوش حول الكاثوليكية مصدراً لقرف واسع. لا بل ان هذا القصف حمل للكثيرين اصداء ماضٍ يُستحسن طيّه ونسيانه، او بحسب ما كتب احد المعلقين: في 1928 حينما اصبح الديموقراطي آل سميث اول مرشح كاثوليكي للرئاسة، حالت مخاوف البابا من آثار هذه الخطوة دون اكماله معركته. اما في 1960 فتبين، مع انتخاب الكاثوليكي جون كينيدي، ان البلد تجاوز الصراع البروتستانتي - الكاثوليكي. فلماذا يُرجعنا المرشحون الى زمن يقع ما بين 1928 و1960؟.