لم يستطع مسيحيو الهند أن يحتفلوا بعيد الميلاد الأخير، ففي ذاك اليوم والأيام التي تلته طغى الموت والخوف على الولادة والفرح. ففي غير ولاية من ذاك البلد الآسيوي الضخم اعتدي عليهم فأُُحرقت الكنائس ودور العبادة وأتلفت كتبهم الدينية. وقد يكفي القول انه في ولاية جوغارات أو كوجارات الغربية وحدها هوجمت 18 كنيسة ودار عبادة. واختلط المضحك والمبكي في الانتهاكات التي قال بعض غلاة الهندوس ان سببها محاولات المبشرين المسيحيين تحويل الهندوس بالقوة عن دينهم. بطبيعة الحال لم يصدّق كثيرون قيام المسيحيين الهنود، ممن لا تزيد نسبتهم عن 5،2 في المئة من السكان، بهذا العمل المتجرىء على الهندوس وهم أكثر من 85 في المئة من أهل الهند! لكن بحث العنف عن الذرائع والأسباب ليس عملية صعبة. والحال ان تصاعد العنف الموجه الى المسيحيين في الهند تعاظم بصورة نوعية في السنوات الأخيرة، مع شيوع موجات التطرف الديني عموماً والهندوسي خصوصاً. وليس عديم الدلالة أن تحصل الانتهاكات الأخيرة في عيد الميلاد، فلا تستطيع المناسبة ورمزيتها أن تردعا أعمالاً متعصبة عمياء. والحال أنه سبق للهندوس المتعصبين أن أقدموا، في 1991، على عمل دل بدوره على المدى الذي يمكنهم البلوغ اليه. فقد هدموا آنذاك المسجد البابري لاقامة معبد الاله الهندوسي رام. لكن السؤال الذي طرح نفسه بحدة: لماذا يتجدد العنف الآن، ولماذا ضد المسيحيين خصوصاً؟ أول ما يتبادر الى الذهن أن الاعداد للانتخابات العامة يجري على قدم وساق، بيد أن هذه الانتخابات لها خصوصيتها: ذاك أن "حزب المؤتمر" التاريخي الذي أسس الدولة الهندية الحديثة شرع ينهض من كبوته. فقد نجحت سونيا غاندي، أرملة رئيس الحكومة الراحل راجيف، في أن تلمّ معظم أطرافه التي تناثرت وتفرّعت في السنوات الأخيرة، نجاحها في رفع معنويات الجمهور المؤيد لحزبها والذي أحبطه تراجعه المتعاظم في موازاة تقدم القوى الهندوسية المتطرفة. وما دام الحزب قد ارتبط تاريخياً بالأسرة النهروية - الغاندية، فقد بدا أن مقتل راجيف، بعد مقتل والدته أنديرا ورحيل شقيقه سنجاي، حرمه القيادة التي تحظى بالاجماع. واستمر الأمر على هذا النحو الى أن قررت الأرملة الايطالية الأصل أن تخوض غمار السياسة. وجاءت أواخر العام الفائت لتشهد بأن سونيا تقود حزبها على سكة العودة شبه المؤكدة. فقد أجريت آنذاك ثلاثة انتخابات فرعية في ثلاث ولايات، أسفرت نتائجها جميعاً عن فوز كاسح للمؤتمر. هكذا انطلقت حملة هدفها تلويث سمعة سونيا غاندي وصورتها، بالتوكيد على أصلها غير الهندي وعلى دينها المسيحي - الكاثوليكي، فضلاً عن محاولات ربط اسمها بفساد لم يثبت عليها. في هذا الجو المسموم ظهر تركيز غير مألوف على المسيحية والمسيحيين. لكن هذا التوجه ارتبط بتوجه أعرض مفاده العداء للغرب، ورفض الحداثة الغربية وقيمها. ذاك ان القوى الهندوسية المتعصبة الطامحة الى بناء كيان للهندوس وحدهم، لا تطلب النقاء السكاني وحده بل تطلب أيضاً النقاء الايديولوجي. وهذا يعني ان قيم العلمانية والتعددية والوطنية الزمنية والديموقراطية البرلمانية تبقى، في رأيها، قيماً غربية مستوردة هدفها الاساءة الى "روح" الأمة الهندية - الهندوسية وتشويهها. وتزايد التعبير عن هذه المواقف صراحةً بعد التجارب النووية الهندية التي عارضها وندد بها العالم الغربي. فبدا كأن "الغرب المسيحي" هو الخصم العنيد لقوة الهند وتفعيلها "أصالتَها وهويتَها". ثم أن المسيحيين الهنود انما تشكلوا تاريخياً، على تعدد مذاهبهم، كنتاج للاحتكاك بحركات التبشير الديني الوافدة من اوروبا. وهذا كفيل بجعلهم يمثلون امتداداً غربياً ما، وبتقديمهم، من دون شك، أعداءً للهوية والمصلحة الهنديتين. وفي سياق سطوع موضوع "الهوية" في السنوات الماضية، في الهند وفي غيرها، تمكن حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندوسي من الوصول الى السلطة وتشكيل الحكومة التي يرأسها حالياً أتال بيهاري فاجباي. وينجرّ "بهاراتيا جاناتا"، المهتم بمخاطبة المشاعر الشعبوية والعاميّة للهندوس، وراء تحالفه مع حزب صغير، بالغ التعصب الديني وفاشي يفوق "بهاراتيا" استعداداً الى "مباشرة" و"إنفاذ" الدعوة الهندوسية السياسية. ولهذا، ولاعتباره أن الدولة الهندية "ملوّثة" بالأديان الأخرى وبمصالحها، يميل هذا الحزب الصغير، "راشتريا سوايافسيفاك سانغ"، الى "الحسم" من خلال ميليشيات يسيطر عليها، أهمها مجموعة الرعاع المسلح المسماة "سانغ باريفار". ويمكن ادراج عامل آخر وراء اتجاه شفرة العنف الى المسيحيين. فالمسلمون الذين يشكلون 12 في المئة من سكان الهند، هم الذين كانت تستهدفهم تقليدياً أعمال العنف الطائفي الهندوسي التي بلغت ذروتها مع هدم المسجد. بل يمكن القول إنه منذ 1947 على الأقل والنزعتان القوميتان الهندوسية والمسلمة هما النقيضان "الطبيعيان" في شبه القارة الهندية. واذا عُدّت حرب 1947 والحروب الهندية - الباكستانية حروباً هندوسية - مسلمة بمعنى ما، فالمسيحيون كانوا دائماً أكثر ضآلة ومجهرية من أن يشكلوا تحدياً وخصومةً لأي منهما. غير ان المسلمين اليوم غدوا اقوى من ذي قبل، وأشد استعداداً للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، هم الذين اكتشفوا ضعف قدرات وربما رغبات الدولة الهندية المركزية في السنوات القليلة الماضية، في حمايتهم. ثم أن المسلمين ثقل انتخابي كبير، يراهن بعض معتدلي حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم على جذب بعضهم لتأييده في الانتخابات المقبلة. ومصدر الرهان هنا أن آخر حكومات "المؤتمر"، وهي التي ترأسها ناراسيمها راو، اتُهمت بالتفريط في الدفاع عنهم من هجمات الهندوس المتعصبين ممن فكّر راو في كسبهم بتقديم التنازلات لهم. على أن العنف السياسي والديني يتعدى الهند الى شبه جزيرتها. فمدينة كراتشيالباكستانية البالغ عدد سكانها 14 مليوناً، مضرب مثل في هذا الضرب من العلاقات بين الجماعات. ففي 1998 وحده سقط 800 قتيل في كراتشي وحدها، وتمدد العنف الذي ابتدأ في أحياء المدينة الداخلية الأكثر فقراً، ليروح ينتقل الى محيطها الأوسع والأغنى. وقد ادى هذا الوضع الى منح الجيش والشرطة التي اشتهرت بفسادها صلاحيات أكبر، ما وضع البلاد أمام سؤال ملح: هل تضع المؤسسة العسكرية يدها على هذه الفرصة وتبني عليها مطالبتها بالحكم كله؟ فالجيش حكم الباكستان معظمَ تاريخها الحديث، ويبدو ان السنوات العشر من الديموقراطية البرلمانية التي اعقبت رحيل الجنرال ضياء الحق، لم تبرهن على نجاحات حقيقية، ما يجعل الانقضاض عليها محتملاً في أي وقت. ولذلك أسباب تفوق العدّ: فالطبقة السياسية برأسيها، أي رئيس الحكومة نواز شريف وقائدة المعارضة بنازير بوتو، متهمان بالفساد، وتتغذى الأصولية الدينية التي توالي صعودها من هذا الفساد الضارب أطنابه والممزوج بوضع اقتصادي شديد التردي، فتمضي داعيةً الجمهور الباكستاني الى خلاصية مضمونة يشوبها النقاء والكفاءة والبحبوحة. فقد كان المتوقع ان يسفر العام المالي 1997-1998 عن توسع اقتصادي بنسبة 5 في المئة، الا أن المؤشرات الأساسية ما لبثت أن رسمت صورة بائسة جداً عن اقتصاد هذا البلد الذي يضم 140 مليون فقير. وفي غضون ذلك ينمو السكان بنسبة 3 في المئة سنوياً، بينما الخدمات الاجتماعية شبه معدومة في معظم البلاد. ففي لاهور التي تُعتبر العاصمة الثقافية للبلد، هناك لكل 100 تلميذ مُدرّس واحد، من دون أن توجد مقاعد أو كراسٍ أو ألواح في المدارس. واللوحة تصير أشد قتامة حين نصل الى النساء حيث نسبة الأمية بينهن 64 في المئة. ولئن توصلت باكستان في تشرين الثاني نوفمبر 1998 الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي يفضي الى تقديم "رزمة انقاذ" لها بقيمة 55 بليون دولار، فقد اعتبر حكام باكستان الاتفاق نصراً تاريخياً لهم، بقي من المشكوك فيه اقدام نواز شريف على خطوات انقاذية درامية. فهو، على رغم فوزه بغالبية برلمانية كبرى في 1997، ليس الرجل المرشح لمحاربة الفساد والهدر والزبونية، او اعتماد اجراءات اقتصادية غير شعبية. على العكس تماماً، غيّر رئيس الحكومة الباكستاني وزيره للمال للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر، فأحل أحد أنصاره محل تكنوقراطي محترم. ويرى الصناعيون الباكستانيون أن الضربة الأقوى التي وجهها لصدقيته الاقتصادية تمثلت في تجميده أرصدة بالعملة الصعبة قيمتها 11 بليون دولار لكي يوقف هجرة الرساميل التي ابتدأت على أثر التجارب النووية. بيد أن الميل الى التطرف، والصعودُ الأصولي أحد تجسيداته، يسم الوضع الباكستاني عموماً بميسمه. وهذا ما اتضح بأجلى صوره في الضغط الذي واجهته حكومة نواز شريف لكي تلاقي التجارب النووية الهندية في منتصف الطريق. فشريف، من دون ان يكون معتدلاً، بدا مدركاً أن عملاً كهذا يكلّف البلد كثيراً على جبهة علاقاتها الدولية، لا سيما الصلة بالولايات المتحدة، ولكنْ أيضاً على الجبهة الاقتصادية المنهارة. وتقدم كراتشي لوحة باهرة عن الصراعات الباكستانية المفتوحة. فمنذ اواخر الثمانينات تشتبك القوات الحكومية، مدعومةً بتنظيمات محلية من السكان "الأصليين"، مع "حركة مهاجرين قوامي"، وهي حزب المهاجرين المسلمين الذين هربوا من الهند مع تقسيمها وحربها في 1947. فقد أقام معظم هؤلاء في كراتشي، أكبر مدن باكستان وقلب البلد التجاري. ولأنهم غدوا، كأقلية، أكثر تعلماً وتقدماً من السوية العامة للسكان، استهدفهم الحسد والكراهية والرغبة في عزلهم عن مجريات الحياة العريضة. كذلك اصطدمت طبيعتهم المدينية والتحررية بهيمنة ملاكي الأراضي على اقليم السند وعاصمته كراتشي. لكن كراتشي لا تختصر العنف الباكستاني. فمن بؤره التي بدأت بالظهور منذ عقد، لا سيما في لاهور، النزاع السني - الشيعي الذي تمارسه وتؤجّجه تنظيمات طائفية ومتعصّبة في الجانبين. الى ذلك لعب النزاع المديد في أفغانستان دوراً لا يُستهان به. ففي الاتجاه الكالح هذا عمل المناخ الحربي والديني - السياسي، معطوفاً على الحدود المفتوحة معها، والاقتصاد الأسود، وعودة الذين ذهبوا الى "الجهاد" فيها حاملين أسلحتهم وتسييسهم. واذا دلت أعمال خطف الأجانب، وهي ليست دائماً ذات معنى سياسي، والفلتان الأمني العشوائي بين حين وآخر، وفي هذه المدينة أو تلك، الى حدود المأزق، فالآتي يبدو أعظم. ذاك أن باكستان، على عكس الهند، أثبتت أنها تجربة لم تنجح. فهي، منذ النشأة في 1947، تتقلب على جمر الأنظمة العسكرية من غير أن يُكتب لتجاربها الديموقراطية العابرة ان تنمو وتستقر. واذا برهنت الديموقراطية الهندية، في ظل طبقة وسطى جدية بمعايير "العالم الثالث"، على أنها لا تزال أقوى من ظاهرات العنف، فإن اخفاق باكستان يوحي ان العنف هو بمعنى ما تطلّب، أو شرط، للتكتم على الاخفاق