أنفق المطرب السوداني شرحبيل احمد اربعين سنة من عمره يبث العافية في الأغنية السودانية، وما زال حتى اليوم 64 عاماً مُصراً على المضي في الطريق، طريق تحديث الاغنية السودانية مع الاعتبار لموروثها وتميزها كأغنية عربية الكلمات افريقية اللحن والايقاعات، أو كما يحب ان يسميها: الاغنية الافريقية الناطقة بالعربية. شرحبيل الذي عمل لفترة معلماً للموسيقى ومحرراً في مجلات الاطفال يحاول اللحاق بالعمر الذي يمضي، بحثاً عن موقع لنفسه وللاغنية السودانية خارج الخرطوم التي قست عليها الظروف السياسية منذ 1989. يزعج شرحبيل اختفاء الاصوات النسائية وضعفها في الساحة السودانية، وايضاً يغضبه بشدة سيطرة التقليد على المغنيين الشباب لدرجة أنه يرى ان الكل، عدا اثنين، يقلد ولا يضيف جديداً كما يقول. تمتد آراء شرحبيل من موقعه في الخرطوم ليدرس اسباب أزمة الاغنية في شمال الوادي مصر، ويرى أن خطراً داهماً يهدد الاغنية المصرية، بسبب الاصوات الضعيفة التي تسيطر على الساحة "من دون ضابط ولا رابط". والخطر في رأي شرحبيل يهدد الاغنية الشامية ايضاً، ويرى ان الاغنية المغاربية اختصرت الطريق الى أوروبا وتكلمت بلسانها ورقصت على موسيقاها. ويعرج على الاغنية الخليجية ويرصد تأثرها بالموسيقى الهندية. لا يخاف شرحبيل من طرح أفكاره على الورق او كشف سرقات لأغانيه في مصر ويبوح في هذا الحوار بالكثير الذي اختزنه طويلاً. من الناحية الموسيقية والشعرية يقول شرحبيل ان الأغنية السودانية في حال جيدة، ولديها مقومات ومواصفات تستطيع ان تنمو بها وتزدهر بلا خلاعة وبهرجة. أما من ناحية الجوانب الدعائية والانتاجية، فللأسف الاعلام ضعيف لا يوصل الموسيقى الى الجمهور، كما ان تقنيات انتاج الاغنية تؤثر على جودتها. صحيح ان الوضع تحسن نسبياً أخيراً بعد ان عادت الاذاعة الى بث الاغنية وكذلك التلفزيون. كما ان شركات الكاسيت انتعش نشاطها بعض الشيء إلا أن هذا لا يزال تحت المأمول الذي يتواكب مع عافية اللحن والكلمات السودانية. ربما تعاني الاغنية السودانية من ندرة اصوات لدرجة أننا لا نذكر من مطربي السودان سوى محمد وردي؟ - وردي لا يقاس بغيره، فهو اشتهر لأنه تجول طويلاً خارج السودان إلى أن استقر في القاهرة ومن هناك استطاع ان ينتشر مصرياً وعربياً. والفنان لا يمكن أن يستمر في منطقة واحدة الى كونه يطلب الانتشار، اما ما يقال عن ندرة الأصوات، فكلام غير دقيق، إذ أن هناك عدداً لا بأس به من الاصوات الواعدة أذكر منهم نادر خضر ومحمود عبدالعزيز وحيدر بورتسودان، وغيرهم. وعيب هذا الجيل رغم جودة اصواته انه يقلد، باستثناء اثنين او ثلاثة يجنحون الى التراث او اغاني فنانين سابقين، في وقت يفترض ان يقدموا فيه جديداً ولا يقلدوا القديم، خصوصاً أن التقنية اصبحت أفضل والاعلام يحقق انتشاراً أوسع للجدد. جيلنا قوي هل انتهى جيل وردي وشرحبيل؟ - بالعكس، جيلنا قوي جداً لأن أساساته قوية، جيلي ما زال فاعلاً يضم جوقة من أجمل الأصوات. لا أحد ينسى ابراهيم عوض وصلاح بن البادية وصلاح مصطفى والعاقب محمد حسن وغيرهم من ابناء جيل الخمسينات. والاصوات النسائية السودانية أين هي؟ - أنا شخصياً لا أعرف سر اختفائهن إذ كلما ظهرت مجموعة، تختفي في ظروف غامضة. وأذكر أن آخرهن كانت مجموعة "البلابل" التي ضمت ثلاث شقيقات مثل "الثلاثي المرح" في مصر، وبدأت بانتاج طيب، لكنها لم تستمر. فالشقيقة الكبرى سافرت الى أميركا مع زوجها والصغرى هاجرت مع زوجها والوسطى انخرطت في التمثيل. بعدهن جاءت حنان النيل وسمية حسن لكن المشكلة ان مجهودهما قليل وربما لأنه لا توجد الحان تتوافق مع الاصوات النسائية وتقدم لها ما يناسبها. وطبعاً لا ننسى الظروف الاسرية التي تلعب دوراً في حجب النساء عن الساحة، بعض الأسر السودانية يأنف ان تظهر بناته على المسرح، ولكن هذا لا يمنع ان هناك بنات يدرسن ويعزفن على الآلات الحديثة وزوجتي احداهن بل كانت أولاهن. هل لأزمة الاغنية السودانية علاقة بالوضع السياسي؟ - الى حد كبير، فذلك الوضع اطلق اسئلة من نوع: هل الغناء حلال أم حرام؟ وهذا سؤال مطروح بشكل مباشر وغير مباشر. ونحن كفنانين نحس احياناً بأن هناك تصريحات وتلميحات الى ان الغناء حرام، ما يجعل الساحة مفتوحة فقط للاغاني الوطنية والجهادية والحماسية. معظم الفنانين ليس لديهم انتاج من النوع الرومانتيكي، حتى الاذاعة لا تسجل أغاني عاطفية جديدة. أصبحت عندهم مواصفات معينة للأغنية، مثلاً يقبلون المدائح النبوية، والاغاني الوطنية وان اذاعوا اغاني عاطفية فمن تلك التسجيلات القديمة، حتى تلك بعضها يذاع وبعضها يمنع، ونحن منذ عشر سنوات لم نسجل جديداً للاذاعة. هل هناك موانع مجسدة أم "اشباح" تطارد الفنانين ربما لا أصل لها في الواقع؟ - لا توجد موانع بالشكل المباشر، ولكن الاغنية السودانية مخنوقة في مساحة محدودة للكلمة واللحن وحتى بالنسبة الى مكان العروض. ربما تحاصرها اللهجات وتعددها؟ - ابداً، اغنياتنا تسمع في كل مكان. مثلاً اغنيتي "الليل الهادي" يغنيها محمد فؤاد في مصر، وهذا دليل على قدرة الاغنية على كسر نطاق المحلية. "مفاجأة" محمد فؤاد ما هي حكاية اغنية "الليل الهادي"؟ - هذه الاغنية مسجلة في اذاعة "ركن السودان" في القاهرة منذ أكثر من 25 سنة، وفوجئت أخيراً بمحمد فؤاد يغنيها من دون أن يستأذنني. أنا لا اتهمه بالسرقة ولكن اقول: تلك اغنيتي تغنى في شمال الوادي. هل هناك أغنية سودانية لها ملامح تميزها عن الاغنية المصرية أو الخليجية مثلاً؟ - الاغنية السودانية مميزة بايقاعاتها، لدينا ايقاع "المردوم" و"الدليب"، ايضاً لدينا "الجراري"، وايقاعات اخرى افريقية في الجنوب، وهناك "الدلوكة" والاغاني الحماسية، إضافة الى ايقاعات المدائح على "الدف" كل هذا يعطي الاغنية السودانية ملامحها المميزة. واذا بحثت عن التميز ستجد الاغنية السودانية خماسية السلّم اللحني. وعندما تقارن الموال العربي بالموال السوداني تجد فارقاً كبيراً من ناحية المقامات والسلالم الموسيقية. نحن نسحب من السلم السباعي "تونين" السي والمي وكذلك نسحب من السلالم الموسيقية الصغرى. هل ما زالت الطوائف تستقطب المداحين أم استبدلتهم بمطربين؟ - للانصار والختمية وغيرهما منشدون يحيون الليالي والموالد على العادة القديمة. هل مزاج الاغنية السودانية افريقي أم عربي؟ - هي أقرب إلى افريقيا "البيضاء"، لو صح التعبير، لاننا نتكلم اللغة العربية، وهي من ناحية اللغة واللفظ أقرب الى الاغنية العربية ولكن من ناحية الالحان هي أقرب الى الافريقية، بمعنى أن "ايقاع" الاغنية السودانية افريقي وعنيف جداً، ولكنه ناطق بالعربية. وهناك محاولات لإدخال بعض اللهجات المحلية السودانية في الاغنية لضمان انتشارها في افريقيا على اعتبار ان اللهجات السودانية قريبة من المزاج الافريقي، وهذا لا يمنع ان الاغنية السودانية الناطقة بالعربية حققت اختراقات مهمة في نيجيريا والصومال ومالي وتشاد وغينيا والكاميرون، وهي المناطق الناطقة بالعربية كلغة حوار مثل الانكليزية واللغات المحلية. تنافس هل تشهد الساحة السودانية تنافساً بين الاغنية السودانية والاغنية المصرية خصوصاً ان محلات بيع شرائط الكاسيت يغلب عليها بيع الكاسيتات المصرية في قلب الخرطوم؟ - الاغنية المصرية لها وجود حقيقي وليس في الأمر تنافس. انه شيء تاريخي وقديم، فيلم "الوردة البيضاء" دخل الى السودان في وقت عرضه في مصر. اغاني عبدالوهاب السبعة الشهيرة في الفيلم غناها الشعب السوداني كله. حفظنا الاغنية المصرية من عبدالحليم حافظ الى محمد فؤاد، يعني الاغنية المصرية والافلام الاستعراضية المصرية لها وجود حقيقي في الوجدان السوداني. يطلقون عليك لقب عبدالحليم حافظ السودان، ما هي الحكاية وهل التقيت حافظ في القاهرة؟ - عندما ذهبت الى القاهرة لدراسة الوسائل التعليمية بصفتي معلم موسيقى كانت اغاني فيلم "الوسادة الخالية" تملأ الكون كله. ولأنني مغرم بعبدالحليم واحفظ أغانيه، تقت لرؤياه وتحققت امنيتي ورأيته في محفل موسيقي وعرفته بنفسي كمطرب سوداني فرحب بي كثيراً وبكرم بالغ. واخبرته أنني احفظ كل أغانيه واعتبره مثلاً لجيلي وجيل الشباب آنذاك. ان عبدالحليم حافظ أحدث ثورة في الاغنية العربية. كنا نحفظ اغانيه ونرددها في الرحلات، كانت لغة الشباب "حليمية". ولن أنسى مقدار انتشار اغنية "على قد الشوق". اعجابي بعبدالحليم عرفه عني الجميع ويطالبونني دوماً بأداء اغانيه فأفعل ذلك وأنا سعيد جداً وأكثر سعادة بلقب "عندليب السودان". خطر يهددنا هل ضاعت الاغنية المصرية تحت وطأة أغاني "الفيديو كليب"؟ - باستثناء هاني شاكر، بقية الاصوات في القاهرة أي كلام. ما نسمعه في مصر ليس هو ما نعرفه عن الاغنية الشرقية. الألحان مضطربة والكلمات مسطحة وضعيفة، احياناً أسمع عشر أغانٍ فأجد اللحن واحداً، ما جرى ساق الاغنية الشرقية الى طريق آخر، يقينا هناك خطر كبير جداً على الاغنية المصرية، لأن هناك استعمالا غير راشد للاجهزة الموسيقية الجديدة. احس بأن هناك اعتماداً كلياً على الآلات الحديثة. الكلمات التي يستخدمونها تبسيطية الى درجة غير معقولة، ليس مقصوداً ان اجمع الكلمات من الشارع فقط، الأمر جد مختلف، تسطيح اللغة يضيع الاغنية الشرقية، وعندما اقول الشرقية اقصد المصرية. لا يمكن ان نترك المطربين هكذا بلا ضابط كيف تترك الاغنية على تلك الحالة؟ كيف تترك الكلمات هكذا؟ انها أزمة نص ولحن. والاغنية الشامية في بيروت ودمشق كيف حالها؟ - الازمة لحقتهم، العالمية والغربية اضاعت ملامحها، مدرسة الرحباني التي لا يستهان بها انزوت والباقي يسعى وراء وهم العالمية، وينسون ان تطوير القومية اهم من الخروج الى العالمية لأن تطوير الاولى هو الطريق الى الثانية. وتيار "الراي" المنتشر الآن في اوروبا؟ - المغاربة استفادوا من قربهم من أوروبا وهم مواكبون لتطور الموسيقى في العالم واخذوا من الثقافة الفرنسية الكثير ومن خلال متابعتي اجد في الساحة المغاربية خطوطاً غنائية اصيلة واخرى جانحة. ولا تنس ان الناحية الاجتماعية لها دور. مثلاً الحياة الاجتماعية في المغرب تسمح بالرقص والاختلاط وغيرها بمعنى ان الخط الغربي في الاغنية المغاربية ليس محظوراً، وهذا يساعد الفنانين المغاربة على ادخال الآت غربية وايقاعات غربية، وهذا لا ينفي بدوره وجود بعض الملتزمين بالخط العربي الاصيل. وما تقويمك لمستوى الاغنية الخليجية؟ - اعرف كثيراً عن الاغنية الخليجية وانا مستمع جيد اليها واعتقد أن هناك مدرسة خليجية ذات ايقاعات متعددة وعندهم تأثر واضح بالموسيقى الهندية. وهم - الخليجيون - استفادوا من التكنولوجيا وميزوا انفسهم بالايقاع واللهجة واذكر منهم ملتزمين مثل محمد عبده في السعودية وايوب طارش في اليمن ونبيل شعيل في الكويت. هل ترى ان ظاهرة الاصولية تهدد الاغنية العربية؟ - عندما يسود سؤال هل الاغنية حلال أم حرام فإن ذلك يعكس خللاً كبيراً. الشعب العربي متسامح ولكن طرح هذا السؤال واختلاف الاجابة عنه من قطر لآخر يعوق انتشار الاغنية وتطورها، احياناً. ربما تحل الفضائيات المشكلة؟ - صدقني الفضائيات مفروض ان تُرَشد أولاً، مفروض قبل كل شيء ان يجلس المعنيون بالاغنية ليدرسوا من اين يأتي الخطر. هل الخطر انسحب على المسرح الغنائي في السودان؟ - المسرح الغنائي غير موجود في السودان وينطبق ذلك أيضاً على السينما، آخر عمل كان "تاجوج" بطولة صلاح بن البادية ونعمات حماد قبل عشر سنوات، وهو عمل درامي يحكي قصة حب اقرب لقيس وليلى تم تمثيله على المسرح ثم في السينما ثم انتهى. أخيراً... هل انت مطرب المناسبات الرسمية؟ - هذا صحيح، أنا أغني في المناسبات الرسمية... أغني لوادي النيل. وأنا مصنف "جاز" مجازاً ولكن انا اتبنى اغنية سودانية متطورة تدخل في إطار "البوب" أي الغناء الشعبي الذي يحبه الناس، انا بدأت وحيداً في هذا المجال عام 1960، بعد ذلك تكاثرت الفرق حتى بلغ عددها 50 فرقة، وكلها الآن توقفت ما عدا فرقتين او ثلاث، منها فرقتي وفرقة الديوم، وجيلاني الواثق وكمال كيلا