ليس هناك في العالم مكان تمارس فيه مجموعات الضغط نفوذها بتلك الكثافة التي تمارسها في واشنطن. إذ أن هذه المجموعات توجه ضغوطها نحو الكونغرس والرأي العام وبدرجة أقل نحو الادارة الأميركية نفسها - أي الرئيس وأعضاء حكومته. أما أنجع الطرق لممارسة تلك الضغوط فهي وسائل الإعلام من مرئية ومسموعة ومقروءة. وهناك سبب لذلك. فالسفير عادة لا يمثل وزير خارجية بلاده في الواقع حتى ولو كان يتلقى أوامره وتعليماته من الوزير، وانما يمثل ملك البلاد أو رئيس جمهوريتها. كما أن السفارات بصورة عامة تتعامل مع أجهزة السلطة التنفيذية في العواصم التي توجد فيها تلك السفارات. ومن هنا تصبح مجموعات الضغط الوسيلة الوحيدة المشروعة للاتصال بالمجالس التشريعية والبرلمانات والتعامل معها. من هذا المنطلق يمكن القول ان مجموعة الضغط الصهيونية في واشنطن أو ما جرت العادة على تسميته "اللوبي الصهيوني" أصبحت أقوى مجموعات الضغط قاطبة في العاصمة الأميركية. لكن الحال لم يكن كذلك دائماً. فقد ذكرت في كتابي "سماسرة النفوذ" 1977 ان العديد من اليهود الأميركيين كانوا يعارضون الجهود التي بذلها اللوبي الصهيوني لاحتلال الصدارة في ساحة الضغط السياسي والديبلوماسي اعتقاداً منهم بأن مثل هذه الخطوة ستعود بنتائج عكسية. لكن هذا اللوبي حقق نجاحاً رهيباً في السنوات اللاحقة الى الحد الذي أصبح معه نموذجاً تحذو حذوه مجموعات الضغط الأخرى التي لجأت الى تقليد طرقه وأساليبه بحذافيرها. ومن هذه المجموعات على سبيل المثال اللجنة العربية - الأميركية لمحاربة التمييز. إلا أن مصدر القوة الأساسي للوبي الصهيوني يكمن في استعداد معظم اليهود الأميركيين لتسخير ولائهم لاسرائيل وليس للولايات المتحدة، مع أن هذه القاعدة لا تنطبق على جميع أولئك اليهود طبعاً. فهناك - مثلاً - عدد من اليهود الذين يعادون الصهيونية معاداة شديدة. ومن هؤلاء الدكتور الفريد ليليانتال والحاخام إيلمر بيرغر الذي توفي أخيراً وهما من اليهود المتدينين، والفيلسوف اليهودي العلماني الشهير نعوم تشومسكي والمعلق السياسي المرموق عزّي ستون الذي توفي قبل سنوات. الهدف الأول الذي يركز عليه اللوبي الصهيوني هو الكونغرس. فمع أن عدد اليهود في الولاياتالمتحدة لا يزيد على نسبة 2.4 في المئة من مجموع السكان، فانهم يشغلون منذ سنوات عدة نسبة 10 في المئة من مقاعد مجلس النواب. وفي مجلس الشيوخ تسعة يهود من أعضائه ال100، بينهم ثمانية من الديموقراطيين، منهم مثلاً باربره بوكسار ودايان فينستاين عن ولاية كاليفورنيا وجمهوري واحد هو آرلين سبيكتر. وفي المقابل لا يوجد في مجلس الشيوخ سوى عربي - أميركي وحيد هو السيناتور سبينسر إبراهيم. وقبل سنوات عدة كانت "اللجنة الأميركية - الاسرائيلية للشؤون العامة" تجسد اللوبي الصهيوني في واشنطن. وكان إيشايا كينن وهو يهودي من مواليد بولندا أول رئيس لها. ومن أشهر رؤسائها لاحقاً موريس امتياي الذي ادعى انه من مواليد فلسطين. سجلت اللجنة نفسها لدى وزارة العدل الأميركية بموجب قانون الوكلاء الأجانب لأنها تتلقى معظم أوامرها وتعليماتها من السفارة الاسرائيلية في واشنطن. كما اشتهرت اللجنة باسم "أيباك" وهو الاسم المشتق من اختصار الحروف الأولى لاسمها بالانكليزية. وبفضل الأموال والتبرعات اليهودية السخية التي جمعتها "أيباك" تمكنت من محاربة عدد من الشخصيات المرموقة مثل السيناتور شارلس بيرسي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وسلفه في اللجنة وليام فولبرايت، وعضو مجلس النواب بول فيندلي، وإحباط حملاتهم الانتخابية واسقاطهم جميعاً لمجرد انتقادهم السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ومطالبتهم الادارة بانتهاج سياسة أكثر اعتدالاً. لكن الوجه الجديد الأخير الذي صار يمثل اللوبي الصهيوني هو "معهد سياسات الشرق الأدنى" الذي أسسه مارتن انديك اليهودي الاسترالي الذي منحه الرئيس بيل كلينتون الجنسية الأميركية في كانون الثاني يناير 1993 كي يتولى ادارة شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، مع أنه كان يحمل الجنسية الاسرائيلية أيضاً. وبعد ذلك تولى انديك مناصب عدة بينها السفير الأميركي في تل أبيب ثم مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى قبل أن يعود الى تل أبيب ثانية سفيراً للولايات المتحدة لدى اسرائيل. وبفضل الضغوط التي تمارسها "أيباك" و"معهد سياسات الشرق الأدنى" استطاعت هاتان المجموعتان الحصول على تأييد 70 في المئة على الأقل من أعضاء مجلس الشيوخ عند التصويت على أي شيء تريده اسرائيل، وتأييد أكثر من نصف أعضاء مجلس النواب. ويعود نفوذ هاتين المجموعتين في الكونغرس الى عهد ريتشارد بيرل الذي كان رئيس موظفي السيناتور هنري جاكسون. فمع أن جاكسون مسيحي إلا أنه كان من أشد مؤيدي اسرائيل والحركة الصهيونية مغالاة في الولاياتالمتحدة. وبعدما ترك جاكسون مجلس الشيوخ أصبح بيرل نائباً لوزير الدفاع. أما اللجنة الأميركية - اليهودية فهي أكثر اعتدالاً. وهناك أيضاً مجموعة ضغط أخرى تتمتع بنفوذ كبير وهي المؤتمر العام لرؤساء المنظمات اليهودية الأميركية الذي يمارس ضغوطه بهدوء ولكن بفاعلية كبيرة. خلال الحرب العالمية الثانية حاول عدد من اليهود المرموقين اقناع الحركة الصهيونية بتخفيف تطرفها ومطامعها، لأنهم رأوا في ذلك التطرف والمطامع وسيلة واضحة لإراقة الدماء في الشرق الأوسط. ومن تلك الشخصيات آرثر هيز شولزبيرغر ناشر صحيفة "نيويورك تايمز" والفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين وعدد كبير من أعضاء حركة الاصلاح اليهودية التي كانت تعارض اقامة المستوطنات اليهودية في فلسطين. لكن "بناي بريث" كانت أقوى المنظمات اليهودية التي طالبت بتوطين اليهود في "وطن قومي". لكن شتان ما بين الأمس واليوم. ففي حملة الانتخابات الأميركية لهذا العام ساهم اليهود الأميركيون بأكثر من نصف أموال الحملة مع أن عددهم لا يزيد على 2.4 في المئة من مجموع السكان. وقد تكون هذه المساهمة خير استثمار للأموال اليهودية لأنها تعود على اسرائيل بنفع كبير. فقد ذكرت مجلة "تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط" في عددها الأخير ان المساعدات الأميركية الحقيقية لاسرائيل تتجاوز ستة آلاف مليون دولار كل سنة، إذا أخذنا في حسابنا اعفاءات الديون والاعفاءات الضريبية. مع هذا لا يشكل المال العامل الوحيد في نجاح اللوبي الصهيوني، فاليهود مثلاً يملكون أهم صحيفتين في الولاياتالمتحدة "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست". لكن نفوذهم الحقيقي يتجسد في سيطرتهم على الهيئات الادارية والتحريرية في شبكات التلفزيون ودور الصحافة. وفي هذه الأيام صار عضو مجلس النواب بن غيلمان البالغ من العمر 78 عاماً وهو رئيس لجنة العلاقات الدولية في المجلس بمثابة المفتاح الرئيسي للسيطرة على الكونغرس، لتساوي عدد ممثلي الحزبين تقريباً. كما ان دينس روس منسق عملية السلام في الشرق الأوسط ومساعده آرون ميلر يهوديان. وحصل كلاهما أخيراً على الجنسية الاسرائيلية. في 1984 تحدثت في مؤتمر في تونس بدعوة من الجامعة العربية حضره مدراء الدوائر الاعلامية في الجامعة. وقلت في كلمتي ان أهم فلسطيني في التاريخ هو المسيح عليه السلام، كما ان خُمس الفلسطينيين من المسيحيين. ودعوت الجامعة آنذاك الى ضرورة ابراز هاتين الحقيقتين عند الحديث عن القضية الفلسطينية في أوروبا وأميركا. ويمكنني القول ان جماعات الضغط العربية في ذلك الوقت كانت شبه معدومة. لكن الوضع تغير هذه الأيام. فقد تحسن وضع اللوبي العربي في واشنطن الى درجة كبيرة، وأصبح له، على رأي المثل، ثلاثة أرجل بدلاً من اثنتين، لكنه لا يزال يفتقر الى الرجل الرابعة. هناك مثلاً "معهد الشرق الأوسط" الذي يتحدث باسم العالم العربي، لكنه في الوقت نفسه يتحدث باسم ايران والى حد ما باسم اسرائيل. أما اللوبي العربي الذي يحظى بالاحترام هذه الأيام هو "الرابطة الوطنية للعرب الأميركيين". وهناك أيضاً "اللجنة العربية - الأميركية لمحاربة التمييز" التي أسسها السيناتور السابق جيمس أبو رزق اللبناني الأصل، وترأسها الآن هالة مقصود عقيلة الدكتور كلوفيس مقصود الذي مثل الجامعة العربية في واشنطن أكثر من عشر سنوات. وتقوم هذه المنظمات والأفراد بمساع كبيرة لخدمة القضايا العربية. كما أن صندوق المساعدات الأميركي للاجئي الشرق الأدنى له وزنه. وهناك أيضاً مجموعات أخرى من بينها "رابطة التعليم الوطنية" التي يديرها ديبلوماسيان أميركيان سابقان هما أندرو كيلغور وريتشارد كيرتس. وتصدر هذه الرابطة مجلة "تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط" التي تحظى باحترام واسع النطاق. علاوة على ذلك يدير يوجين وجيري بيرد مؤسسة "مؤيدو السلام" التي تركز على قضايا الأميركيين - الفلسطينيين الذين تعتقلهم اسرائيل وقضايا الصحافيين الذين يتعرضون للاضطهاد. وتركز جميع هذه المنظمات جهودها بالدرجة الأولى على الكونغرس ووسائل الاعلام الأميركية. لكن النتائج المحدودة أو المتواضعة التي تحققها تعود الى عملية المراقبة الاعلامية التي تفرضها وسائل الاعلام الأميركية على كل ما لا يروق لاسرائيل. والقول نفسه ينطبق على "لجنة حماية الصحافيين" التي تديرها جول كامبانا. اذ تواجه صعوبة كبيرة في نشر معلوماتها في وسائل الاعلام الرئيسية مع انها لم تقصر انتقادات على اسرائيل وانما وجهت انتقادات أيضاً الى السلطة الوطنية الفلسطينية. وهناك أيضاً مجموعات ضغط عربية أخرى منها "معهد جيمس زغبي العربي - الأميركي". أما شقيقه جون زغبي فهو يدير أشهر مؤسسات استطلاع الرأي في أميركا. ومن المجموعات الأخرى أيضاً "معهد الدراسات العربية" في جامعة جورج تاون الذي يديره الدكتور مايكل هدسون والدكتور هشام شرابي، و"صندوق القدس"، و"المعهد الاسلامي". ومن الأصوات المحافظة التي تناصر القضايا العربية "معهد البترول الأميركي" و"مؤسسة راند" التي يتولى شؤونها غراهام فولار. وللسلطة الوطنية الفلسطينية، علاوة على ممثلها حسن عبدالرحمن، وكيل رسمي مسجل هو الديبلوماسي الأميركي السابق ادوارد أبينغتون. ومن جهة أخرى تتمتع القضايا العربية بشكل عام بتأييد واسع بين السود في الولاياتالمتحدة، لا سيما داخل جماعة "أمة الاسلام" التي يقودها لويس فرقان مع ان عدداً كبيراً من الساسة السود يميلون الى اللوبي الصهيوني لأنه يقدم التبرعات المالية لحملاتهم الانتخابية. إلا أن قضية الولاء عند العرب الأميركيين تختلف عنها عند اليهود. فاليهود موالون أولاً وقبل كل شيء لاسرائيل وليس لأميركا. والمشكلة بالنسبة الى العرب الأميركيين هي في التعريف. مثلاً من هو العربي - الأميركي؟ هل جورج ميتشل زعيم الاغلبية السابق في مجلس الشيوخ عربي؟ إذاً لماذا يستخدم اسم عائلة زوج أمه الايرلندي ولا يستخدم اسم عائلة أبيه اللبناني؟ ولا بد من الاشارة الى أن معظم العرب - الأميركيين الذين هاجروا، في بداية القرن العشرين، كانوا من المسيحيين الذين فروا من الحكم العثماني في سورية ولبنان وفلسطين. وتوجهاتهم السياسية في غالبيتها ديموقراطية، مع أن الأثرياء منهم جمهوريون. ويتركز العرب - الأميركيون في مدينة هيوستون في ولاية تكساس وفي ميتشيغان - مركز صناعة السيارات الأميركية. ومن الطريف أن مطار مدينة ديترويت وهي المدينة الرئيسية في ميتشيغان يحمل اسم مهاجر لبناني مسلم هو مايك بري. وربما كان الامتحان الشاق الذي سيواجه اللوبي العربي في واشنطن في عهد الادارة الجديدة هو مسألة نقل السفارة الأميركية في اسرائيل من تل أبيب الى القدس. وقد أعد اللوبي نفسه لمواجهة مثل هذه الخطوة بإثارة أسئلة مهمة منها: 1- ان الموقع الذي تستأجره الولاياتالمتحدة ليس ملكاً للحكومة الاسرائيلية وانما هو ملك لتسع عشرة عائلة فلسطينية الموقع الذي تعتزم أميركا اقامة سفارتها عليه في القدس. 2- ما هي الآثار التي ستنجم عن نقل السفارة وما هي الخطوات التي ستتخذها "الحكومات العربية الصديقة" لأميركا عندئذ؟ 3- هل ستصبح السفارة الأميركية في القدس هدفاً تلقائياً يتعرض للهجوم بالقنابل أو غيرها؟