أميركا أيضاً، وليس اسرائيل فحسب، احتفلت بمناسبة مرور خمسين سنة على انشاء اسرائيل على انقاض الوطن الفلسطيني واقتلاع شعبه وتشريده. وقد يستطيع الباحث ان يبرهن على ان وسائل الاعلام الاميركية احتفلت بهذه المناسبة أكثر مما تحتفل عادة بعيد الاستقلال الاميركي نفسه. ما سرّ هذه العلاقة الاميركية - الاسرائيلية الخاصة؟ وكيف توصلا الى اتفاق ضمني ومعلن على انه كي تظل اسرائيل قوية، يجب ان يظل العرب ضعفاء؟ وهل يمكن ان يقوم سلم على اساس هذا التفاهم الاميركي - الاسرائيلي الذي يتناقض مع المصالح العربية الجوهرية؟ وفي هذه الحال كيف يبرر العرب من دعاة مثل هذا السلم مواقفهم الواهية وآمالهم المبنية في الهواء وعلى الرمل؟ هناك تفسيران مبسطان، خصوصاً عند العرب، لسر هذه العلاقة الخاصة بين اميركا واسرائيل: يرى البعض ان سر هذه العلاقة يعود الى سيطرة اليهود أو الحركة الصهيونية على الوظائف الحيوية في المجتمع الاميركي، خصوصاً المالية والاعلامية والسياسية منها. ويضيف اصحاب هذا الرأي ان تأييد اميركا لاسرائيل يتم على حساب المصالح الاميركية في المنطقة مفترضين انهم يعرفون مصالحها أكثر مما تعرفها هي. وعلى عكس هذا، يرى البعض الآخر، ان اسرائيل هي قاعدة اميركية في المنطقة وان الاستراتيجية الاسرائيلية ليست سوى امتداد عضوي للاستراتيجية الاميركية للهيمنة على العرب وتعطيل أية مشاريع عربية تنموية ووحدوية وتجاوز الأوضاع السائدة ولتأمين منابع النفط. أميركا ايضاً تريد ان تُبقي العرب ضعفاء وتحرص على ان تجردهم من قدراتهم في الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الحيوية. ولهذا يعوم على سطح النقاش احياناً رأي ثالث يقول ان سر هذه العلاقة الخاصة هو النفوذ اليهودي الصهيوني والاستراتيجية الاميركية مجتمعين معاً. غير ان أصحاب هذا الرأي الثالث نادراً ما يذهبون أبعد من تأكيد هذه المسألة من دون التوغل في إظهار سبل وأدوات هذا الالتقاء العضوي. وكنت شخصياً أميل الى التفسير الثاني من دون ان أقلل من أهمية نفوذ الصهيونية، وأصبحت خلال السنوات الأخيرة أميل الى التفسير الأول مع الاحتفاظ بقناعتي ان الاستراتيجية الاميركية تسعى الى احتواء العرب وتعطيل قدراتهم، ولكنها كثيراً ما تجد نفسها معرضة لضغوط صهيونية لا تقوى على مجابهتها لشدة نفوذ الحركات الصهيونية في اميركا. ومن المعروف ان الحركة الصهيونية تستولي على الاعلام وعلى الكونغرس، ولليهود حضور مكثف في الادارة الاميركية الرسمية سواء في الكونغرس والبيت الأبيض ووزارات الخارجية والدفاع والمال. وبالنسبة الى الهيمنة اليهودية على وزارة الخارجية خصوصاً في ما يتعلق منها بشؤون الشرق الأوسط، كيف تم ذلك وما الغاية منه؟ طُهرت الخارجية الاميركية ممن أطلق عليهم لقب المستعربين Arabists وتم استبدالهم بيهود من أمثال انديك وروس وميللر وغيرهم. هل تم ذلك في خدمة المصالح الاميركية أو المصالح الاسرائيلية؟ هل الغرض من ذلك ان هؤلاء، على خلاف المستعربين، يستطيعون باعتبارهم يهوداً يحرصون على مصالح اسرائيل ممارسة الضغط على اسرائيل للتوفيق بين مصالحها والمصالح الاميركية؟ بكلام آخر هل الديبلوماسيون الاميركيون اليهود أكثر قدرة من غيرهم على اقناع الحكومة الاسرائيلية بالتنازل في سبيل دعم العملية السلمية؟ أم ان هؤلاء الديبلوماسيين اليهود الاميركيين تمكنوا من السيطرة على وزارة الخارجية كي يمنعوا ممارسة الضغط على اسرائيل؟ ما نعرفه، وقد كتبت عن ذلك في مقالات سابقة، ان هؤلاء منعوا كل المحاولات للضغط على اسرائيل، فقالوا بالتحبب لا بالمواجهة. ومع هذا تبدو وزارة الخارجية الاميركية أكثر اعتدالاً من الكونغرس الذي أصبح أسير الإرادة الصهيونية. ومن هنا فهو يستمر في الضغط على وزارة الخارجية لمصلحة اسرائيل، ومن هذه الضغوط نقل السفارة الاميركية من تل أبيب الى القدس. بالنسبة الى مدى تأثير اليهود الاميركيين في سياسة دعم اميركا لاسرائيل، تقول مقالة في "نيويورك تايمز" بتاريخ 26/4/98 ان اللوبي الاسرائيلي المتمثل بلجنة الشؤون العامة الاميركية الاسرائيلية AIPAC هي التي واظبت من دون ملل منذ تأسيسها عام 1951 على تعزيز العلاقات الاميركية - الاسرائيلية. وهي لجنة يخافها السياسيون الاميركيون خصوصاً في صفوف الكونغرس ومجلس الشيوخ والحزب الديموقراطي والجمهوري. ومثلاً على ذلك، ان قيادات هذه اللجنة اجتمعت في منزل السفير الاسرائيلي في واشنطن مساء 29/3/98 للنظر في كيفية منع احتمال لجوء ادارة كلينتون للضغط على اسرائيل للانسحاب من 13 في المئة من الضفة في سبيل استئناف مفاوضات السلام. وكان بين القرارات التي اتخذتها في هذا الاجتماع تأمين عريضة يوقعها اعضاء مجلس الشيوخ يطالبون فيها الرئيس كلينتون بعدم الاعلان عن الاقتراح الاميركي المقدم الى حكومة نتانياهو للانسحاب. وفي البدء لم يوقع على هذه العريضة سوى 40 من اعضاء مجلس الشيوخ البالغ مئة عضو. ولكن بعد أيام وبممارسة مزيد من الضغط، وقع على العريضة 81 عضواً وذلك دعماً لنتانياهو ضد رئيس دولتهم. وعلى رغم استياء ادارة كلينتون من هذا الضغط من جانب الكونغرس، الا انه هو نفسه اضطر ان يعلن أنه لم يكن يقصد المجابهة العامة مع حكومة اسرائيل. وتستطيع لجنة اللوبي الاسرائيلي هذه ان تخيف السياسيين الاميركيين لأنها تضم 55 ألف عضو ناشطين وميزانيتها تزيد على 14 مليون دولار. وبسبب نفوذها الخيالي استطاعت ان تمتنع عن تسجيل نفسها كپ"لوبي لدولة اجنبية"، الأمر المطلوب قانونياً مع مراكز القوة والنفوذ. يفخر المدير التنفيذي الحالي لپ"إيباك"، وهو هاورد كوهر، بنجاحها في اقامة الصلات الآتية: بالتعاون معها اختار نتانياهو شخصياً بن - ديفيد للمنصب الثاني في السفارة الاسرائيلية. هذا مع العلم ان بن - ديفيد مواطن اميركي وكان يعمل لحساب "ايباك" لمدة 25 سنة، وعلى رغم ان القانون الاميركي يمنع اي مواطن من العمل لحساب حكومة اجنبية. ومن الصلات الأخرى التي يفخر بها المدير التنفيذي لپ"ايباك" تلك التي اقامتها مع ستيفن روزن، وهو مديرها للشؤون السياسية الخارجية وكان قد انتمى لپ"ايباك" عام 1982، وهو استاذ استرالي كان يدرس في جامعة استراليا الوطنية ومن تلاميذه في تلك الجامعة مارتن انديك. وكان روزن هو الذي اقنع انديك بأن يأخذ إجازة من جامعة ماكيري في سيدني ليعمل مع "ايباك" لمدة ستة اشهر، امتدت الى سنتين، فتمكن ان يحصل على الجنسية الاميركية ليصبح سفير اميركا لدى اسرائيل، وهو الآن مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وهذا أمر استثنائي لا تقره القوانين الاميركية. ومما يفخر به مدير "ايباك" ان دنيس روس لا غيره الذي يشرف على عملية المفاوضات ويعمل وسيطاً بين عرفات ونتانياهو هو أيضاً عمل مع ستيفن روزن في مؤسسة "راند" عندما كان طالباً في قسم الدراسات العليا. كذلك تفخر اللجنة بعلاقاتها مع خريجيها من أمثال ستيف غروسمان وهو رئيس سابق لپ"ايباك" وهو الآن الرئيس العام للجنة القومية للحزب الديموقراطي، ومع ميل سمبلر الرئيس المالي للجنة القومية للحزب الجمهوري، ومع آرن كريستينسون، وكان سابقاً المدير التشريعي لپ"ايباك" والآن هو رئيس الفريق العامل مع رئيس مجلس النواب الكونغرس نيوت غينوتشر. ومن خريجي "ايباك" ايضاً وولف بليتزر، وهو حالياً مراسل "سي.ان.ان" لدى البيت الأبيض. ولا يبدو ان النفوذ الذي تملكه اسرائيل في اميركا يزعج الغالبية العظمى من الاميركيين. ففي استطلاع للرأي العام الاميركي اجرته صحيفة "نيويورك تايمز" 26/4/98 تبين ما يأتي: ان الغالبية تعتبر ان اسرائيل تستحق الدعم الاميركي، وتتعاطف مع اسرائيل وليس مع الفلسطينيين 58 في المئة يقفون الى جانب اسرائيل مقابل 13 مع الفلسطينيين، و11 في المئة لهم رأي سلبي من نتانياهو مقابل 42 في المئة من عرفات، وان 41 في المئة يعتقدون ان اسرائيل لم تظهر رغبة كافية في السلم، بينما يعتقد 67 في المئة ان منظمة التحرير الفلسطينية لم تثبت رغبتها بالسلم، و76 في المئة يعتقدون ان للولايات المتحدة مصلحة حيوية في اسرائيل. ومن الغريب ان نسبة الاميركيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين ظلت منخفضة منذ العام 1978 الى الوقت الحاضر رغم كل التطورات والمعدل هو 13 في المئة الا ان هذه النسبة ارتفعت عام 1993 الى 20 في المئة وعادت تنخفض بعد ذلك الى سابق عهدها. مقابل ذلك اظهرت استطلاعات الرأي هذه ان نسبة التعاطف مع اسرائيل ظلت تزيد على 40 في المئة ولم تنخفض هذه النسبة سوى عام 1990 حين تدنت الى 23 في المئة ومنذ ذلك الحين راحت ترتفع حتى بلغت 58 في المئة في الوقت الحاضر. وقد ظلت اسرائيل تتمتع بهذا الدعم الاميركي الواسع لأسباب عديدة منها ما يقال عن الشعور بالذنب للجرائم النازية "الهولوكوست" التي ذهب ضحيته ستة ملايين يهودي، والاعجاب بما حققته اسرائيل من منجزات واعتبارها امتداداً للقيم الغربية وهي في نظرهم بلد ديموقراطي وجزء من الغرب وإليه، والنظرة السلبية للعرب والاسلام، ودعم اليمين المسيحي. ولكن الفضل يعود في الدرجة الأولى الى النشاط الدائم والواسع الذي قامت به المنظمات الصهيونية في مختلف المجالات وعلى مختلف الأصعدة. نشرت "الواشنطن بوست" في عددها الصادر 29/4/98 ان يهود اميركا، متدينين كانوا أم غير متدينين، قدموا لاسرائيل أجل الخدمات، ففي عام 1948، وإثر تقسيم فلسطين، خطط ضباط في السلاح الجوي الاميركي بالتعاون مع "الهاغانا" لتجهيز اسرائيل بنواة لأسطول محارب جوي فهرب تجهيزات ومعدات من شركتي كبرتيس ولوكهيد، وقدم اليهم لائحة بالضباط اليهود في الجيش الاميركي الذي يمكن الاستعانة بهم. وعندما استفهم هذا الضابط في سلك السلاح الجوي الاميركي، واسمه ايرفين شيندلر، عما تحتاج اليه "الهاغانا" في ذلك الوقت، أجابه تيدي كوليك الذي أصبح فيما بعد رئيساً لبلدية القدس: "نحتاج الى كل شيء. ليس هناك شيء يمكن ان تسميه لا نحتاج اليه". وقد ذكرت "الواشنطن بوست" في عددها المذكور، عطفاً على كتاب وضعه صموئيل نوريش، ان التبرعات الاميركية الخاصة في السنوات الأولى لتأسيس اسرائيل بلغت 25 في المئة من ميزانيتها القومية، اذ اعتادت عائلات يهودية على وضع صندوق تبرعات بلون العلم الاسرائيلي في منازلها. من ذلك انه حين وقوع حرب 1967، أرسل اليهود الاميركيون مئة مليون دولار خلال أقل من اسبوعين اضافة الى المساعدات الرسمية. واستمر الدعم المالي الخاص من جانب العائلات اليهودية، بالاضافة الى الثلاثة بلايين دولار التي تقدمها الحكومة الاميركية سنوياً. وقد قال احدهم معلقاً في هذا العدد من "الواشنطن بوست": ماذا يبقى لليهود كجالية اميركية اذا ما انتزعت منهم قضية اسرائيل؟ انهم موزعون في كل انحاء البلاد اميركا، وليس لهم الكثير من الاهتمامات العاطفية والسياسية بقضايا اخرى. كي يظل للجالية اليهودية من دور تلعبه في واشنطن يكون عليها ان تحافظ على هذه العلاقة باسرائيل". ويمضي هذا التعليق فيقول ان الضابط شيندلر الذي لا يزال حياً "لن يخطر له ان يتخلى عن روابطه مع الدولة اليهودية. انها لا تزال جزءاً منه ويبقى مقتنعاً بأن الشيء الوحيد الذي يسمح لاسرائيل بالبقاء هو اصدقاؤها في الغرب". ولكن ما يسكت عنه هذا التقرير ان لليهود الاميركيين مصلحة خاصة في دعم اسرائيل، فمن خلال هذه القضية تمكنوا من ان يبرزوا في المجتمع الاميركي وان يقيموا لأنفسهم منظماتهم القوية وكياناً متفوقاً. ماذا يبقى لهم من هذه التنظيمات اليهودية التي تمنحهم الكثير من القوة والمكانة والنفوذ اذا ما حدث السلم وانتهت القضية الاسرائيلية؟ وهذا ما يفسر لنا لماذا يبدو اليهود الاميركيون اكثر تشدداً حتى من الاسرائيليين انفسهم. ان تأييدهم للقضية الاسرائيلية يخدم مصالحهم هم ايضاً ويعود عليهم بالجاه والقوة والنفوذ. لذلك يمكننا ان نستنتج ان يهود اميركا يخافون احتمالات قيام سلم شامل تنتهي معه القضية. وهم ايضاً يشاركون اسرائيل خوفها من حصول سلم حقيقي، اذ عندما يبطل ان يكون هناك عدو خارجي، ستتفاقم الانقسامات الداخلية في اسرائيل كما ضمن الجالية اليهودية في اميركا. ان وجود عدو خارجي يهدد اسرائيل ضروري لها كما للجالية اليهودية الاميركية ويعطيها المبررات للظهور بمظهر الصوت الواحد وكبت الخلافات باسم ضرورات الوحدة في مواجهة التهديد الخارجي. وأكثر ما يخيف اسرائيل والجالية اليهودية الاميركية حصول سلم حقيقي فلا تعود الخلافات ضمن صفوفهم تقتصر على النقاشات الحادة وتبادل التهم. عندئذ تبرز التناقضات الكثيرة في المجتمع الاسرائيلي بين العلمانيين والمتدينين وبين الأعراق المتفاوتة حضارياً وفي أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. واكثر ما يشغلهم انهم لم يتفقوا بعد حتى على تحديد هويتهم والنظام الذي يبغونه لأنفسهم. لذلك هناك حاجة للاحتفاظ بالاسطورة. ولكي تبقى اسرائيل قوية، يجب ان يظل العرب ضعفاء. وهذا، على ما يبدو، يناسب حكام اميركا.