على رغم الهدوء الذي يشوب أجواء المنطقة الكردية العراقية الخارجة عن سلطة الحكومة المركزية، تعيش هذه المنطقة التي تلتزم الولاياتالمتحدة وبريطانيا حمايتها جواً منذ العام 1992، أحداثاً ساخنة ليس أقلها معارك محلية بين أحزاب كردية، وتحركات عسكرية عراقية في مناطق التماس مع الأكراد، وتركية في مناطق حدودية. في هذا الاطار، لاحظ مراقبون عسكريون أكراد في منطقة زاخو تحركات عسكرية تركية على طول المناطق الحدودية مع العراق. وعلى رغم ان أنقرة أكدت أن تحركاتها العسكرية لا تهدف سوى الى مراقبة الأوضاع الساخنة في شمال العراق، خصوصاً خطوط المعارك الجارية بين قوات الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال طالباني، وقوات حزب العمال الكردستاني الذي يتزعمه من سجنه في جزيرة إيمرالي التركية، عبدالله أوجلان، إلا أن المراقبين الأكراد لا يستبعدون تدخلاً جوياً تركياً لمصلحة قوات طالباني في حال استمرار المعارك. يذكر أن هذه المعارك التي تجددت قبل حوالي اسبوعين بعد هدوء حذر طوال الشهرين الماضيين، تتركز في جبل قنديل على الحدود العراقية - الايرانية وأطراف قصبة قلعة دزه المتاخمة للحدود ذاتها، اضافة الى منطقتي بوتي وكاروخ القريبتين من قصبة رانية شرق السليمانية. وما يزيد من احتمال التدخل العسكري التركي ان القوات الموالية لطالباني لا تعتقد بأن ايران ستتدخل عسكرياً بشكل خفي الى جانب مقاتلي أوجلان. وفي هذا الصدد يشير مطلعون على ملف التطورات اليومية للقتال ان الطالبانيين أسروا في القتال الأخير عدداً من أكراد ايران كانوا يقاتلون في صفوف حزب العمال. لكنهم بادروا الى تسليمهم الى الحكومة الايرانية من دون اعلان ذلك في محاولة منهم لتجنب ادخال علاقاتهم مع طهران في نفق مظلم في الوقت الذي تواجه فيه علاقاتهم مع ايران اضطراباً أكيداً. وأضاف المطلعون أنفسهم ان التدخل الايراني أصبح يخيف أنقرة، خصوصاً بعد المقاومة العسكرية التي يبديها مقاتلو أوجلان في الدفاع عن مواقعهم في الجبال الحدودية. وما فاقم من هذا الخوف، ان انقرة تتعرض لضغوط من الاتحاد الأوروبي الذي يطلب منها السماح للأكراد ببث اذاعي وتلفزيوني، والالتفات الى حل مشكلتهم سياسياً. ومع هذا كله يظل الأغرب في قصة الحلف التركي - الطالباني الجديد، انه يأتي بعد أقل من ثلاثة أعوام على قيام طائرات حربية تركية بقصف مواقع قوات طالباني في أطراف شقلاوة ورواندوز نتيجة تعاونها مع مقاتلي أوجلان وإيوائهم في جبال محيطة بمدينة السليمانية. وعلى رغم ان طالباني شن في حينه حملة اعلامية، وصفه الاكراد بالحملة الصدامية، نسبة الى الرئيس صدام حسين، أكد فيها ان طائرات الحلف الأطلسي تركيا عضو فيه لم تنل منه، إلا أن الأتراك نجحوا في استمالته الى حلبة الصراع مع أوجلان لتتحقق بذلك رغبتهم في نقل الحرب ضد حزب العمال الكردستاني الى داخل الأراضي الكردية العراقية تماماً. ويتداول الاكراد ان القتال الجاري في اطراف السليمانية ليس سوى التعبير الأوضح للمثال الذي يشير الى أن من يلعب بالنار لن يصيبه في النتيجة سوى حرق أصابعه. فطالباني، حسب مصادر كردية في السليمانية، حرص على إيواء مقاتلي اوجلان وتوفير القواعد ومعسكرات التدريب لهم طوال السنوات التسع الماضية على أمل بأن يشكل هذا الحزب ضغطاً مزدوجاً على غريمه رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني والحكومة التركية. لكن وقوع اوجلان في شرك الأتراك أولاً، ونجاح بارزاني في ادارة حرب هادئة بعيدة عن الجعجعة الكلامية ضد حزب العمال ثانياً، وقرار حزب اوجلان التحول الى حزب سلمي وسياسي ثالثاً، لم تدع أمامه سوى التوجه بخطى سريعة نحو أنقرة حاملاً معه عرضاً مفاده: تخليه عن حزب العمال في مقابل تخلي أنقرة عن التحالف الاحادي مع بارزاني. ولم يتضح موقف انقرة من هذا العرض. لكن الواضح أن الأتراك لم يبدر منهم ما يشير الى استعدادهم للتخلي عن بارزاني الذي يرتبطون به، من خلال المناطق التي يسيطر عليها، بصلات اقتصادية قوية، خصوصاً صلة النفط العراقي المار عبر الأراضي التي يسيطر عليها نحو الأراضي التركية من جهة، وسيطرته على معبر ابراهيم الخليل الحدودي من جهة ثانية، ومرور الأنبوب النفطي العراقي التركي عبر مناطق نفوذه من جهة ثالثة. لكن مع ذلك، لا يمكن للأتراك أن يرفضوا عرضاً مغرياً كالذي طرحه طالباني في زيارته الأخيرة الى انقرة قبل نحو أربعة أشهر. وفي هذا الخصوص، يشير مراقبون أتراك الى ان انقرة قد تكون وعدت طالباني بمده بأموال ومساعدات اقتصادية لمواصلة قتاله ضد حزب العمال ومحاولة إنعاش الحياة الاقتصادية في مناطقه عبر السماح بتجارة التهريب بين مناطقه والحدود التركية. وقد تكون وعدته ايضاً باقناع بغداد وبارزاني بعدم مهاجمة المناطق التي يسيطر عليها طوال فترة حربه ضد مقاتلي أوجلان. وقد تكون وعدته كذلك ببذل جهود لاقناع بارزاني بالتصالح معه استناداً الى منطوق اتفاق أنقرة الموقع بين الطرفين في 1997. غير أن الأحداث الكردية العراقية أكثر تعقيداً من الوعود المقطوعة والآمال التي لم ير الأكراد منها إلا ما هو مبني على الرمال. فالعراق الذي يتحرك انطلاقاً من تصوره انه استطاع تفتيت الجزء الأكبر من العقوبات الاقتصادية التي تفرضها عليه الولاياتالمتحدة وبريطانيا والأمم المتحدة، بدأ بالفعل في اختبار مدى متانة الوعود الأميركية بحماية أكراد العراق. وكان المثال الأوضح على ذلك قيام قواته في التاسع من الشهر الجاري بتطويق قصبة باعذرة الواقعة ضمن مناطق بارزاني بين عقرة ودهوك، اضافة الى حشد قوات عسكرية أخرى بين كركوك والسليمانية في تلويح واضح بخيار اجتياح مدينة السليمانية الخاضعة لنفوذ طالباني. ان اللافت في كل هذه الصورة المتشابكة، هو عدم استبعاد تنسيق عسكري بين الحكومة العراقية وقوات اوجلان ومنظمة مجاهدي خلق الايرانية المعارضة لممارسة الضغط على طالباني من جهة، وبارزاني من جهة ثانية. وما قد يغري بغداد بقمع جديد للاكراد، كون الأميركيين غارقين في سجالاتهم بعد نتائج الانتخابات الرئاسية، في الوقت الذي بدأت روسيا تبدي مواقف أكثر تشدداً في معارضتها استمرار منطقتي حظر الطيران شمال العراق وجنوبه،