فرض الجيش التركي ستاراً من التعتيم الاعلامي على خططه وأهدافه وتحركاته العسكرية في شمال العراق. فيما يحرص على عدم الاعلان عن أي شيء سوى التأكيد المتكرر على هدفه المتعلق بالقضاء على حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله اوجلان. لكن المعلومات التي تنقلها مصادر من داخل المنطقة الكردية تشير الى ان طلائع القوات التركية المتعاونة مع ميليشيات مسعود بارزاني اصبحت تحكم سيطرتها على طريق هاملتون الدولي الذي يربط العراق بإيران، فيما وصلت اعداد من ضباط وأفراد جهاز الاستخبارات التركي ميت الى مدن الشمال، خصوصاً دهوك واربيل وصلاح الدين. واستمر اندفاع القوات الاضافية الى المنطقة، جواً بطائرات مروحية وبراً عن طريق المعبر الحدودي في زاخو. وكانت مصادر رئاسة الاركان التركية اعلنت قبل أيام ان قواتها في شمال العراق لا تتجاوز 30 الف عسكري. لكن المصادر الكردية القريبة من ساحة العمليات المحت الى ان العدد الفعلي يفوق 60 ألفاً مع مئات الدبابات والمدرعات التي تنتشر في رقعة واسعة تمتد من جبال زاخو المتاخمة للحدود السورية الى المثلث الحدودي التركي - الايراني - العراقي في اقصى الشمال الشرقي. وكل ذلك، يلقي ظلاً من الشكوك على صدقية اعلان الجيش ان هدفه هو القضاء على حزب اوجلان. وفي هذا الخصوص ترى اوساط عربية ان العملية التركية تبطن ضغطاً سياسياً وعسكرياً على سورية اولاً، والموقف العربي بشكل عام ثانياً. فيما تعتقد اوساط معنية بالشأن التركي ان الهدف الأساسي للعملية التركية هو ايران، وان السر وراء تخصيص انقرة كل هذا الاهتمام بعمليتها العسكرية ليس إلا تصفية حسابات داخلية وتوفير مبررات تساعدها على حسم صراعات الجيش مع حزب الرفاه الحاكم والدينيين "المدعومين من ايران". وعلى رغم ان كل تلك التوقعات تعتبر صحيحة، الا ان الهدف الرئيسي وراء عملية الهجوم التركي على شمال العراق يبقى متمثلاً في رغبة انقرة تحقيق هدفها احياء مشروعها القديم المتعلق باقامة شريط حدودي عازل مشابه للشريط الحدودي الاسرائيلي في جنوبلبنان، وتحويل المنطقة الكردية العراقية شمال خط العرض 36 الى منطقة مقفلة على نفوذها. وكانت تركيا اعلنت العام الماضي، وبالتحديد خلال عمليتها العسكرية التي عرفت ب "الفولاذ"، انها تعتزم اقامة شريط حدودي عازل داخل كردستان العراق بعمق عشرين كيلومتراً بهدف منع مقاتلي حزب العمال من اقامة قواعدهم في تلك المناطق والتسلل منها الى داخل تركيا. لكن الاعتراضات الدولية والعربية التي واجهها المشروع، وافتقار الجيش التركي الى معدات الكترونية ذات تقنية عالية تضمن مراقبة دقيقة للتحركات البشرية عبر الحدود، اضافة الى الصراعات الدموية التي كانت محتدمة في تلك الفترة بين حزبي جلال طالباني ومسعود بارزاني، أجبرت انقرة على تأجيل تنفيذ مشروعها. وفي ما بعد، وبالذات في نهاية آب اغسطس الماضي، حدث الاجتياح العراقي لمناطق الأكراد، خصوصاً مدينة اربيل التي استعادتها القوات العراقية من يد طالباني وسلمتها الى غريمه بارزاني. واللافت ان الاجتياح العراقي لم يلق في وقتها ادانة من حزب اوجلان ولم تستنكره دمشق. بل على العكس مارس الطرفان ضغوطاً على الأكراد، خصوصاً طالباني الذي كان يتمتع بدعم ايران، للانضمام الى عملية الحوار مع بغداد. فيما لاحت في الافق دلائل تشير الى تقارب عراقي - سوري. ووصل مسؤولون من حزب اوجلان الى بغداد لاقناع الرئيس العراقي الذي كان بسط سيطرته على المناطق الكردية، للتعاون معهم ضد تركيا. ووجد الاتراك ان مصلحتهم لم تعد في المطالبة بعودة سلطات بغداد المركزية الى المناطق الحدودية. بل الاجدى هو ادامة التبادل التجاري، خصوصاً النفطي مع العراق شرط ان يعني ذلك تحديد حريتهم في اتخاذ موقف سياسي مغاير من احداث العراق الداخلية. لذلك سارعت انقرة الى التجاوب مع دعوات مساعد وزير الخارجية الاميركي السابق روبرت بيلليترو الذي زار العاصمة التركية بعد الاجتياح العراقي مباشرة وطالبها بالتخلي عن تشجيع الاحزاب الكردية على الذهاب الى بغداد، والتوجه، بدلاً من ذلك، لانتهاج سياسة جديدة مؤداها ترغيب الحزبين الكرديين العراقيين بالانقطاع عن بغدادوطهران والالتفاف حول دور تركي فاعل في المنطقة. وما زاد من حظوظ الدور التركي ان بارزاني وطالباني ابديا استعداداً مطلقاً للتعاون مع انقرة. وزارا انقرة كل على انفراد واجتمعا مع نائبة رئيس الوزراء وزيرة الخارجية تانسو تشيلر. لكنهما ابديا مخاوفهما من الذهاب مع الحكومة التركية الى أبعد من وساطتها المتعلقة بوقف القتال الداخلي التركي بسبب خشيتهما من عمليات انتقامية ضدهما تشنها بغداد او طهران او كلتاهما معاً. وكانت تلك الذريعة الاساس الأول لمطالبة كردية لاحقة بعودة المنظمات غير الحكومية الاميركية الى المناطق الكردية التي كانت واشنطن قد سحبتها بعد الاجتياح مباشرة، ونقلت عامليها الأكراد الى جزيرة غوام. اضافة الى المطالبة بعودة المقر المركزي لقوات التحالف الى زاخو، واستخدام مطاري اربيل وبامرني في اعمال الحماية الجوية المتعلقة بعملية "اليقظة الدائمة". والواضح ان واشنطن رفضت الموافقة على كل ذلك نظراً الى اعتبارات عدة، لكنها أيدت فكرة تولي تركيا مهمة الاشراف على السلام الكردي بين الحزبين الكرديين، وما يمكن ان تجر هذه المهمة من التزامات تركية مدعومة من واشنطن لردع الانتقام الموجه الى الأكراد او الى سلامهم من اي جهة كانت. ويبدو ان انقرة أبدت استعداداً كبيراً لاداء المهمة اذا ما وافقت قيادتا الحزبين على حماية الحدود التركية من هجمات حزب العمال، والتزمتا رفع نسبة التمثيل التركماني في الادارة الذاتية الكردية الى الثلث، اضافة الى موافقتهما على العودة الى المرجعية التركية في حل المشكلات والصراعات بدل الذهاب الى ايران او العراق. وكان طبيعياً ان تسارع تركيا للموافقة على تولي الملف الكردي العراقي. فمنافع مثل هذا الأمر بالنسبة اليها لا تقتصر على امتداد نفوذها الى المناطق الشمالية من العراق، ولا على بروز الاثنية التركمانية المتعاطفة مع انقرة على مسرح السياسة العراقية. بل تشمل ايضاً تقوية قبضتها في وجه حزب العمال الكردستاني وتصفية قواعده العسكرية في جبال كردستان، اضافة الى ما يمكن ان يتهيأ في يدها من وسائل جديدة لممارسة الضغط على كل من عدوتيها التقليديتين طهرانودمشق. والأهم من ذلك ان واشنطن اعلنت استعدادها لدعم الدور التركي في كردستان العراق. ووافقت لجنة الاعتمادات المالية في الكونغرس على تخصيص حوالى ثلاثة ملايين دولار لأنقرة على شكل معدات ووسائط نقل وأجهزة تسهل مهمة اشرافها على المنطقة الكردية، وأربعة ملايين دولار اخرى كموازنة للانفاق على المهمة. كما وافقت اسرائيل التي كانت وقعت اتفاقية للتعاون العسكري مع انقرة على تزويد الجيش التركي بمعدات الكترونية خاصة بمراقبة الحدود، اضافة الى التعاون معها في مجال تبادل المعلومات والخبرات الامنية وتقاسم المصادر والوسائل المتعلقة بمكافحة الارهاب. ونتيجة كل ذلك اقدم الجيش التركي على ارسال 400 من عناصره الى شمال العراق للمساعدة في تثبيت وقف اطلاق النار بين قوات طالباني وبارزاني. كما ان لجنة عليا لمراقبة الموضوع تشكلت في تركيا برئاسة ممثل عن هيئة الاركان التركية العميد الركن حسن قبلان. لكن ذلك لم يكن في حد ذاته كافياً للوفاء بالغرض، فمثل ذلك الوجود العسكري والسياسي الباهت يمكن ان يؤدي الى مشاكل ليس اقلها تدخلات عراقية وايرانية لعرقلة الدور التركي بين الاكراد. كما ان الاحزاب الكردية نفسها اخذت تبدي تحفظات عن الانقطاع عن بغدادوطهران في ظل غياب قوة تحالفية مؤثرة على الارض تضمن ردع الدولتين عن التدخل في الشؤون الكردية العراقية. لكل ذلك، لم تتردد انقرة في اطلاق عمليتها الواسعة الأخيرة، بعدما ضمنت دعماً محلياً كردياً في العراق، خصوصاً من حزب بارزاني الذي وجد ان الدخول التركي الى المناطق الشمالية العراقية يمكن ان يضمن له جسر الانتقال من جبهة الرئيس صدام حسين الى جبهة التحالف الغربي بقيادة اميركا، اضافة الى ضمانه موافقة انقرة على حقه في استيفاء الضرائب من التجارة العراقية - التركية عبر الحدود. ان الهدف السياسي المباشر للحملة التركية الراهنة هو تصفية النفوذين العراقيوالايراني بين الأكراد، وما يؤدي اليه ذلك من اضعاف مقومات بقاء حزب اوجلان في المنطقة خصوصاً بعد الضربات التي الحقتها به القوات التركية في الأسبوعين الماضيين. اما هدفها العسكري الخاص فهو تنفيذ مشروع المنطقة العازلة بشقيها: الحدودي الى عمق عشرين كيلومتراً على طول المنطقة الحدودية، يضم 65 نقطة مراقبة يتولى بعضها قوات تركية وبعضها الآخر قوات كردية في حال استتباب السلام بينهما، وقوات حزب بارزاني في حال استمرار وضع اللاحرب واللاسلم. والعام الذي يشمل تحويل كل المنطقة الكردية العراقية الى منطقة نفوذ تركي تحظى بدعم اميركا واسرائيل. وفي الحالين تكون انقرة حققت اهدافاً عدة من خلال الورقة الكردية العراقية: وقف حزب اوجلان من استخدام الأراضي الواقعة شمال خط العرض 36 في العراق قاعدة خلفية للتسلل الى تركيا، والضغط على ايران وسورية لاغراض تركية واميركية واسرائيلية، وضمان دورها في العراق، خصوصاً اذا ما انتهت السياسة الاميركية الى احداث تغيير في بنية النظام الحاكم.