اعتاد سكان مدينة القدس على العيش منذ أمدٍ طويل في سلسلة من العوالم المتوازية. لكن حياة الناس في كل واحد من تلك العوالم ظلت مختلفة عن الأخرى على رغم انها كانت مجاورة لبعضها الآخر. فالفاصل الأساسي في العصر الحديث هو ذلك الذي يفصل بين العرب واليهود. لكن هناك العديد من عوامل الفصل والتجزئة الأخرى التي مكّنت الأرمن والأقباط والمسيحيين واليهود بفئاتهم ومذاهبهم المختلفة من العيش عبر القرون في المدينة نفسها من دون أن يأبه أحد، في غالب الأحيان، بما إذا كان جيرانه عبر تلك الفواصل أو عبر الشارع أو حتى في المنزل المجاور من هذه الفئة أو تلك. لكن انتفاضة الأقصى أضافت الآن أبعاداً مزعجة للحياة بين سكان المدينة. فهي أبعاد صاغتها ميادين المعارك التي وقعت في أجزاء معينة من المدينة مما أحال حياة أهاليها الى جحيم. من بين هؤلاء اليهود الذين يعيشون في مستوطنة غيلو احدى ضواحي القدس. فقد بنيت هذه المستوطنة التي يقطنها حوالي 30 ألفاً من اليهود خلال السنوات التي تلت حرب 1967 على أراض عربية يملكها أهالي مدينة بيت جالا المجاورة التي تطل الآن على حدود المستوطنة الجنوبية، عبر واد يصل عرضه الى حوالي 400 متر. ومنذ أسابيع والمسلحون الفلسطينيون يطلقون رشاشات كلاشينكوف من حين الى آخر عبر ذلك الوادي على مباني غيلو الواقعة في شارع حنفي على طرف المستوطنة. صحيح أن رصاص الكلاشينكوف لا يلحق الكثير من الضرر بعمارات غيلو الحجرية المبنية من أفضل أنواع حجارة البناء، لكن هذه الحقيقة لا تجدي شيئاً في مواساة سكان تلك العمارات الذين هجروا منازلهم وفروا خوفاً من القتل. أما على سفح الجبل وعلى مبعدة عن طرف المستوطنة الجنوبي، يواصل الأطفال الذهاب الى المدرسة بعدما أقيم حولها جدار من الاسمنت المسلح على علو مترين. لكن معظم أولئك الأطفال يحملون في حقائبهم الآن هواتف جوالة زودهم بها آباؤهم وأمهاتهم بسبب مشاعر القلق والخوف التي تنتابهم الآن. فحين تعرضت المستوطنة لاطلاق النيران للمرة الأولى تحولت المدرسة الى أشبه ما يكون بمحطة للهاتف الالكتروني عندما أمطرها الآباء والأمهات بمكالماتهم معلنين أنهم يعتزمون نقل أطفالهم منها. ومع أن رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك يخشى من تحويل المستوطنة الى مركز عسكري متقدم محصن، لما ينطوي عليه ذلك من آثار نفسية سلبية، فإن الجيش الاسرائيلي أصبح يتمركز الآن بأسلحته المختلفة في الحقول الواقعة تحت المدرسة مباشرة. صحيح أنه لا توجد نقاط تفتيش لتحديد المناطق التي يمكن لنيران الفلسطينيين ان تصل اليها، لكن سكان غيلو يجدون من الصعب عليهم أن يتظاهروا بأنهم لا يشاهدون المدافع والدبابات الاسرائيلية، وفي بعض الأحيان الطائرات العمودية المقاتلة، وهي تمطر قذائفها على منازل سكان بيت جالا. ذلك لأن سكان غيلو يرفضون منذ بداية الانتفاضة استخدام القوة العسكرية لأن استخدامها فيه تذكير لهم بأن مستوطنتهم أقيمت على أرض عربية محتلة - وهي حقيقة ظل الضمير الاسرائيلي يتجاهلها ويتغاضى عنها الى أن بدأ الرصاص يلعلع أخيراً. كذلك تتعرض مستوطنة هار حوما التي بنيت على جبل أبو غنيم، وأصبحت الآن أشبه بمدينة أطلانطا الضائعة للنيران من حين لآخر، مع أنه لا يعيش أحد في أي من شققها التي يزيد عددها على 1700 شقة تم بيع معظمها. ولا شك في أن الاسرائيليين الذين اشتروا تلك الشقق ما كانوا يتخيلون اطلاقاً أن بيوتهم ستصبح في الخط الأمامي، وفي قلب منطقة متنازع عليها. لكن انتفاضة الأقصى أدت الآن الى تأجيل موعد المناقصة لبناء "المرحلة الثانية" من المستوطنة. أما بلدة كفر عقاب، قرب رام الله، فقد أعلنت اسرائيل ضمها الى مدينة القدس فور انتهاء حرب العام 1967. وتقع البلدة على مقربة من موقع سميراميس العسكري. لكن اسرائيل بدأت تفقد سيطرتها المحكمة على هذا "الجزء من مدينة القدس" بعد الطفرة التي شهدتها السنوات الأخيرة في بناء البيوت والعمارات من دون ترخيص رسمي. وقد أجبرت الانتفاضة رئيس بلدية القدس ايهود أولمرت في الآونة الأخيرة على اصدار الأوامر بالتوقف عن جمع النفايات أو صيانة الشوارع هناك. وأصبح سكان هذه المنطقة أشبه بالأيتام، لأن اسرائيل تخلت عنهم ولم تعد راغبة في الاعتناء بهم. كما أنهم أصبحوا معزولين عن مدينة رام الله بعدما قطعت نقاط التفتيش والحواجز العسكرية الاسرائيلية طرق اتصالهم بالمدينة. كذلك أصبحت رحلة سكان كفر عقاب الى القدس محفوفة بالمخاطر، لأنه لا بد لهم من المرور عبر مخيم قلندية حيث تقع المواجهات يومياً بين الفلسطينيين والجيش الاسرائيلي. ومع هذا فإن النساء والأطفال لا يكترثون بالمخاطر ويغامرون بالرحلة التي صارت تستغرق الآن ساعتين بدلاً من عشر دقائق قبل الانتفاضة. وأضحت الحجارة والرصاص بالنسبة اليهم روتيناً تلقائياً. لكن كفار عقاب لا تستطيع الهروب من موقعها الجغرافي، فعلى بعد بضعة كيلومترات تستمر الاشتباكات والمواجهات اليومية بين سكان مدينة البيرة ومستوطنة باغوت. ومنذ بداية انتفاضة الأقصى ظهرت آثارها الأخرى. فقد اختفى السياح. كما أصبحت الفنادق خالية من النزلاء، وصار سائقو سيارات الأجرة يشعرون بيأس لانعدام الزبائن ما عدا الصحافيين الذين يعتبرون دفع 25 دولاراً أميركياً للساعة ثمناً زهيداً جداً. وفي الوقت نفسه يتحدث العاملون في المصارف والمؤسسات المالية عن انكماش اقتصادي، شديد بينما يستطيع أي شخص يمر من شارع صلاح الدين وهو الشارع التجاري الرئيسي في القدسالشرقية مشاهدة المحلات التجارية المغلقة كلياً أو تلك التي يغلقها أصحابها في وقت مبكر من اليوم. وفي هذا الجو الذي تسوده مشاعر القلق وعدم اليقين يبدو وكأن أحداً لا يبيع أو يشتري. وعلى الجهة الأخرى من المدينة بدأ شارع "كانيون" التجاري الواقع بين غرب المدينة وغيلو يعاني هو أيضاً من الكساد كما توقف الفلسطينيون الذين اعتادوا التسوق فيه عن التوجه اليه. ومع ان سوق الفواكه والخضار المفتوحة في "محنا يهودا" فريدة في ما تعرضه من أصناف منوعة وطازجة وممتازة، فإن العاملين في السوق من يهود وعرب والزبائن اليهود الذين يتوجهون اليه يضعون في حسبانهم دائماً احتمال حدوث الانفجارات مثلما حدث أخيراً. ولا شك في أن استبسال سكان المدن في محاولة العيش حياة عادية في ظل ظروف استثنائية وغير طبيعية أمر مألوف كما تشهد على ذلك مدن أخرى من بيروت الى سراييفو. لكن الحياة في القدس، على أسوأ حالاتها، لم تصل الى ذلك المستوى. ولهذا فإن المقاهي والمطاعم بما تقدمه من مشروبات ووجبات تتيح لروادها الاسرائيليين الفرصة للهروب الموقت من الواقع الحقيقي للمعارك المستمرة التي تشهدها المدينة