عندما وصف الفلسطينيون ضمانات الرئيس جورج بوش الابن لرئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون بضم الكتل الاستيطانية الكبيرة شمال الضفة الغربية وشطب قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين في مقابل الانسحاب من غزة، بوعد بلفور الثاني، كان شارون نفسه قد انتهى من وضع اللمسات الاخيرة على مشروع الكانتونات الذي أعده للاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 لتحديد مصير الضفة تحت غطاء الانسحاب من قطاع غزة، لتصبح بانتوستات معازل مفصولة ومعزولة عن بعضها البعض. وفي قلب الضفة، في القدسالمحتلة، انجزت الحكومة الاسرائيلية نحو 70 في المئة من الجدار العازل الذي يلف المدينة بطول 130 كيلومترا في ما يسمى اسرائيليا ب"حاضن القدس"، لتتضح خلال اقل من عام خطوط اعادة ترسيم حدود الدولة العبرية ومعها الضفة او ما تبقى منها في يد الفلسطينيين، وايضا مصير المقدسيين في مدينة تريد لها اسرائيل ان تكون عاصمتها الابدية وان تكون ذات غالبية يهودية ساحقة. وتشمل مكونات المخطط الاسرائيلي المتكامل الجدار والاستيطان ومصادرة الارض. ولان القدس تتوسط الضفة، وهي الممر الطبيعي الوحيد الذي يربط شمال الضفة بجنوبها، فان الجدار الذي تقيمه اسرائيل حول المدينة بحدودها الموسعة حسب المخطط الاسرائيلي ل"القدس الكبرى"، عزَل مدينة بيت لحم ومن ورائها القطاع الجنوبي للضفة، عن القدس اولا وعن مدينة رام الله ومن ورائها شمال الضفة. وينتظر تنفيذ مشروع"اي واحد"شرق الضفة من خلال وصل مستوطنة"معاليه ادوميم"التي تتجاوز مساحة نفوذها مساحة تل ابيب بالقدس بما يشمل ضم 12 الف دونم من اراضي الضفة الى حدود البلدية المصطنعة. غور الاردن والتوسع الاستيطاني شرقا يتجاوز"معاليه ادوميم"باتجاه غور الاردن حيث كشف اخيرا قرار حكومي اتخذ الشهر الماضي تموز 2005 يقضي بتعزيز الاستيطان في غور الاردن وتوسيع مشروع تشجيع الازواج الشابة للسكن في مستوطنات الغور حيث خصص نحو 20 مليون دولار لتنفيذ هذه القرارات ما بين الاعوام 2005- 2006. جنوبالقدس: وفي جنوبالقدس، انجزت السلطات الاسرائيلية بناء معظم مسار الجدار الذي ابقى مدينتي بيت لحم وبيت جالا قابعتين خلف جدار ارتفاعه 11 مترا واقتطع آلاف الدونمات من اراضي الفلسطينيين، وخلق جيبا فلسطينيا معزولا ما بين الجدار والمستوطنات المقامة بين بيت لحم والقدسالشرقية، فتحولت مدينة مهد المسيح الى مدينة اشباح، فلا سياحة ولا اقتصاد ولا تواصل مع اهالي القدس نفسها. واكد ممثل القرى المتضررة من الجدار الاسرائيلي المحامي محمد دحلة انه فيما تتجه الانظار نحو قطاع غزة حيث بدأت ساعة الصفر للانسحاب، تقوم اسرائيل ببناء مستوطنة جديدة على اراضي قرية بيت جالا قرب مستوطنة"هار غيلو". واوضح ان اسرائيل صادرت اخيرا 5000 دونم من اراضي بيت لحم وبيت جالا بموجب قانون أملاك الغائبين الاسرائيلي بحجة ان هذه الاراضي تقع داخل حدود نفوذ بلدية القدس التي لا تعتبرها اسرائيل جزءا من الضفة، فيما اصحابها يعيشون في الضفة، وبالتالي فهم في نظر الحكومة الاسرائيلية غائبون عن وطن لم يغادروه. وباتت حدود نفوذ بلدية القدس الاسرائيلية تقع على مشارف مدينة بيت لحم بعد ان ضم الجدار الى داخله مسجد بلال بن رباح الذي يقع على مدخل بيت لحم الشمالي والذي حولته اسرائيل الى كنيس قبة راحيل. ويعني عزل بيت لحم بالضرورة عزل بقية المدن والقرى الفلسطينية الواقعة جنوب الضفة، بما فيها مدينة الخليل، ثاني اكبر مدن الضفة والبلدات المجاورة. ولم يعد بامكان الفلسطينيين الذين يقطنون شمال الضفة الوصول الى هذا الجزء من الضفة الا عبر طريق التفافي طويل وضع الجيش الاسرائيلي في منتصفه حاجزا عسكريا حاجز الكونتينر يغلقه متى يشاء، وحين يفتحه تتحول تجربة عبوره الى جحيم. وتشمل القيود الاسرائيلية على هذا الحاجز منع الفلسطينيين المقدسيين اهل القدس حملة الهوية الاسرائيلية من اجتيازه، فيما يتوجب على اصحاب السيارات الخاصة من بين بقية الفلسطينيين الضفاويين حمل تصاريح خاصة لسياراتهم للسماح لهم بالمرور. شمال وشمال غرب القدس وفي شمال القدس وعلى الطريق التاريخي الواصل بين المدينة المقدسة ومدينة رام الله، كان مرور عام واحد كفيلا بتغيير معالم هذه المنطقة لتصبح غريبة عن اصحابها. فهناك يترامى جدار مصنوع من المكعبات الاسمنتية بارتفاع 11 مترا لا يستطيع المرء الذي يراه الا ان يتذكر جدار برلين. هذا الجدار قسم الاحياء الفلسطينية الى قسمين، احدهما غربا وراء الجدار الذي سيصبح بحسب المشروع الاسرائيلي جزءا من اسرائيل، والثاني شرقا ومعه اكثر من 100 الف مقدسي سيصبحون جزءا من الضفة. وهناك في منتصف الطريق على مفترق الرام-بير نبالا، اختفت الحياة التي كانت تضج بالباعة والاسواق ومكاتب الخدمات المختلفة وتحولت الى صمت يحاكي صمت القبور قرب محال اغلقت ابوابها بعد ان حجب الجدار ناسها وشمسها، ولم يعد يكسر هذا الصمت سوى حركة سيارات قليلة ما زالت تعمل على هذا الطريق بسبب وجود ثغرة في هذا الجدار بوابتها قيد الانشاء. وعلى طرفي نهاية الطريق حاجزان عسكريان احدهما الاقرب الى مدينة رام الله انتهت اسرائيل من انشائه لتحويله الى معبر حدودي وضعت موعدا نهائيا لفتحه مع بداية ايلول سبتمبر، وهو الموعد ذاته الذي ضربته لاخلاء قواتها من غزة. كما وضعت اسرائيل مكعبات اسمنتية ضخمة ايذانا بنصب حاجز عسكري بمحاذاة مطار قلنديا الصغير، وذلك للمرة الاولى بعد اتفاقات اوسلو. ولم يستوعب الفلسطينيون في حينها هذا الجدار او عمله لان مكانه يخالف مخططات اسرائيل المعلنة في حينه في شأن منطقة نفوذ بلدية القدس الكبرى والتي على اساسها انتقل عدد كبير من المقدسيين للعيش في عمق شمال القدس بعد ان تقطعت بهم سبل الحصول على شقق سكنية او البناء على ارض لهم بسبب القيود الصارمة المفروضة على الحصول على تراخيص بناء. والان ولتفادي الخطر الديموغرافي الفلسطيني على يهودية القدس، باتوا خلف الجدار من الجهة الفلسطينية، بينما الجزء الاكبر من عائلاتهم في الجزء الذي سيصبح اسرائيليا. حاجز قلنديا، والذي سيتحول بعد ايام الى معبر قلنديا الحدودي ما بين اسرائيل وشمال الضفة، فان اجتيازه يعطي المرء تصورا عن يوم الحشر، كما يقول الفلسطينيون انفسهم. النسوة والاطفال والرجال والشيوخ تغبر ملابسهم ورؤوسهم وهم يهرولون الخطى باتجاه منطقة ملامحها تشبه ملامح معبر حدودي لدولة فقيرة في العالم الرابع، وما يلبثوا ان يتسمروا في اماكنهم بانتظار اشارة من جندي او جندية للتقدم في طابور طويل في نهايته حاجز حديد يشبه ذلك الذي يستخدم في مسالخ الدجاج بحيث لا يسمح الا لشخص واحد بالمرور في كل مرة، لتبدأ عمليات التفتيش التي تطورت من التفتيش اليدوي، بما في ذلك خلع الملابس او رفعها، الى آلات كهربائية يعقبها تفتيش بطاقة الهوية. هذه الاجراءات التي يخضع لها الفلسطينيون لا تعني بأي حال من الاحوال السماح لهم باجتياز الحاجز المقام على الجانب الاخر من الشارع باتجاه القدس الا لمن يحمل هوية القدس او تصريحا اسرائيليا بدخولها. مهمة الجدار لا تنتهي عند هذا الحد، فهو بمساره الذي يوشك على الانتهاء، يعزل القرى الواقعة شمال غرب المدينة المقدسة قرى الجيب وبيت سوريك وبدو وبيت دقو داخل"بانتوستات"محاط بالجدران من الجهات الاربع ستقوم اسرائيل بوصله مع العالم الخارجي عبر شوارع او انفاق تحت الشوارع المخصصة للاسرائيليين والتي ستكون شوارع سريعة مقابل انفاق وشوارع للفلسطينيين من تحتهم. في قرية بدو وامام عتبة منزل الحاجة فاطمة ابو عيد، تعمل الجرافات الاسرائيلية انيابها في ارض كانت يوما خضراء تزينها دوالي العنب واشجار التين والزيتون، وبات المشهد من باب منزل فاطمة وكأنه يشرف على صحراء قاحلة. وقالت فاطمة دامعة وفي صوتها حرقة:"انظري ما فعلوا بأرضي، اقتلعوا الاشجار وباتت ارضنا جرداء وحاصرونا في منزلنا ... اصبحنا معزولين تماما ... لن تشاهدي سيارة تاكسي تمر من المنطقة لان الجنود سيوقفونها ... اضطر الى المشي مسافة طويلة لكي اصل الى بيتي ... اولادي الشباب ... ينظرون بحسرة الى ما يجري تحت نافذة غرف نومهم ولا نستطيع فعل شيء". على سطح المنزل، يتجسد المشهد بكل تفاصيله ... مسار الجدار على شكل طرق واسعة شقت وسط اراض زراعية تتلوى مثل الافعى حول القرى الفلسطينية وتحيط بالمستوطنات المترامية الاطراف على الهضاب الفلسطينية والمخطط واضح: الجدار الذي سيكون على شكل شوارع واسعة محاطة بأسلاك شائكة ومرتفعة، سيصل شبكة المستوطنات المقامة في محيط مدينة القدس ويربطها بقلب المدينة لتشكل حدود دولة اسرائيل في هذه المنطقة ومعها حدود الدولة الفلسطينية العتيدة. واشار المحامي دحلة الى ان الجدار الذي يلف المدينة المقدسة بطول 130 كيلومترا سيضم الى داخله نحو 20 مستوطنة، بما فيها مستوطنات كبيرة اقيمت على اراضي الضفة من"غفعات زئيف"غربا الى"معاليه ادوميم"شرقا ويعزل بداخله 250 ألف مقدسي عن محيطهم الجغرافي والديموغرافي الفلسطيني. واضاف:"في نهاية المطاف اسرائيل تعمل على تحويل القدس الى احياء فقيرة الاحياء الفلسطينية تعيش ضمن عاصمة اسرائيلية ذات غالبية يهودية مطلقة وتحول السكان الاصليين الى سكان هامشيين تماما كما يعيش الافارقة الاميركيين في مدن نيويورك وغيرها حيث لا تشعرين بهم خلال زيارتك للمدينة ... كما تحاول تحويل الفلسطينيين داخل اسرائيل في المدن المختلطة مثل يافا وحيفا الى مجتمع مليء بالسموم والمخدرات ومنظمات الاجرام. كما تكرس اسرائيل نظام ابرتهايد ذكيا جدا بنته بقناع قانوني واوامر عسكرية وقوانين اسرائيلية، فيما اتاحت للفلسطينيين التوجه الى محاكمها من اجل اعطاء شرعية قانونية لما تفرضه على ارض الواقع. القدس، كما تخطط اسرائيل، لن يتجاوز عدد سكانها المقدسيين اكثر من 20 في المئة من مجموع السكان بعد ضم هذه الكتل الاستيطانية الكبيرة بسكانها الى حدود نفوذها". ويتواصل مشهد التهويد ليطاول قلب القدسالشرقية وداخل اسوار البلدة القديمة حيث التوسع الاستيطاني الحثيث يقوم على مستويين، الحكومي الرسمي وخصخصة الاستيطان، كما وصفه المحامي دحلة، من خلال الجمعيات الاستيطانية والشركات والجماعات الدينية التي شجعتها الحكومة على بناء بؤر استيطانية في قلب القدس. وآخر ما كشفت عنه صحيفة"يورشالايم"الاسرائيلية هو قرار حكومي اتخذ الثلثاء الماضي التاسع من آب 2005 بتخصيص 60 مليون شيكل اسرائيلي 15 مليون دولار تقريبا لدعم مخطط يشرف على تنفيذه مكتب رئيس الوزراء ووزارة المال بالتعاون مع بلدية القدس الاسرائيلية. ويتضمن المخطط انشاء مشاريع في القدسالشرقية بهدف منع العرب من ايجاد امتداد سكني بحسب الصحيفة، ويشتمل على بناء متنزه وبؤر سياحية حول البلدة القديمة، بما في ذلك مركز سياحي على سفح جبل الزيتون وتحويل منطقة مغارة سليمان التي اقام فيها المستوطنون بؤرة استيطانية الى قاعة مسرح وتخصيص موازنة اولية لبدء العمل في شارع سيمر شمال شعفاط ويربط بين القدس الغربية وما يعرف ب"الطوق الشرقي"باتجاه مستوطنة"معاليه ادوميم". واعلنت اسرائيل قبل ذلك بأسبوعين نيتها اقامة بؤرة استيطانية في قلب باب الزاهرة داخل اسوار البلدة القديمة، واقامة كنيس تعلوه قبة ذهبية تحاكي قبة الصخرة المشرفة في ما يرى فيه الفلسطينيون محاولة لتهويد المدينة ليس جغرافيا وديموغرافيا فقط، بل وثقافيا وحضاريا ايضا. وبلغ عدد الستوطنين داخل البلدة القديمة اكثر من 4000 مستوطن بينما يعيش في المستوطنات التي اقيمت خارج اسوار المدينة وفي محيطها نحو ربع مليون اسرائيلي اعلن شارون انه ينوي رفع عددهم الى مليون بحلول العام 2010. ويقول الخبير في شؤون الاستيطان خليل تفكجي ان ما تفعله اسرائيل يؤدي الى وأد الحلم الفلسطيني باقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، مضيفا ان مساحة القدس الكبرى الممتدة من مشارف رام الله شمالا وحتى مشارف بيت لحم جنوبا وحتى الخان الاحمر شرقا، ستستولي في داخلها على ما نسبته 10 في المئة من مساحة الضفة وتعزل شمالها عن جنوبها وتتخلص من اكبر عدد من المقدسيين من خلال الجدار. ولم تعلن اسرائيل حتى الان مخططها التفصيلي لما يعرف ب"الجدار الشرقي"الذي اشارت الى نيتها اقامته شرق الضفة بعد استكمال بناء الجدار الغربي وسط الضفة. وبناء على المخططات قيد التنفيذ فقط، فان خريطة الضفة ستكون كالتالي: تستولي اسرائيل على ما نسبته 15 -18 في المئة من اراضي الضفة، بما فيها القدس، وتصبح جميعا داخل الجدار الذي يرسم حدودها من جديد، فيما تقسم المدن والتجمعات السكنية الفلسطينية المحصورة في مساحات البناء السكني الى ثلاثة كانتونات مفصولة عن بعضها البعض، بينما تتحكم وتحدد سبل الاتصال بين هذه الدويلات عبر شبكات طرق التفافية وانفاق وبوابات تعزل القدس نهائيا عن بقية الضفة.