هل سيكتب للصحافة التونسية أن تستعيد حيويتها بعدما تدهور أمرها خلال السنوات الثماني الأخيرة وهي التي تعتز بماضٍ قديم وتقاليد راسخة؟ تميزت الصحافة التونسية على مدى أكثر من قرن بالحيوية، واكتسبت فضاءات مهمة من الحرية بفضل الرجال القائمين عليها الذين كانوا في الغالب يجمعون بين الحرفية والنضالية لالتصاق العمل الصحفي بالعمل السياسي. ولكن منذ ما يقارب 8 سنوات، انحدرت الصحافة التونسية بشكل كبير، وتبودلت الإتهامات بين سلطة تتهم الصحافيين والناشرين بالإقلال من ممارسة الرقابة الذاتية وعدم الإلتصاق بمشاغل الناس، وبين الناشرين والصحافيين والأحزاب السياسية المعارضة ومكونات المجتمع المدني الذين يتهمون السلطة "بتضييق الخناق وكبت الحريات الصحافية في إطار كبت الحريات العامة". وفي هذا الجو كان رئيس الدولة يسعى الى تجاوز هذا الوضع، وذلك باتخاذ قرارات جريئة وبالاجتماع بعدد من كبار الصحافيين والناشرين وممثلي القطاع عبر جمعياتهم. وكان آخر تلك اللقاءات بين رئيس الدولة ورؤساء المؤسسات الصحافية الخاصة واتخاذ جملة من القرارات لدفع الصحافة. غير أن الإرادة الرئاسية لم تحرك كثيرا من السواكن. ويبدو واضحا أن الصحف القليلة التي حاولت الخروج من القوقعة والتحدث بشيء من الحرية والجرأة مثل صحيفة "الصباح" - أعرق الصحف اليومية المستقلة - و"حقائق" الأسبوعية قد شهدت انخفاضاً كبيراً في إيراداتها من الإعلان الحكومي، الذي ما زال يمثل عصب الحياة للصحافة الوطنية ولم يعد خافياً انه يستعمل منذ سنوات لمعاقبة الصحف طبقاً للتوجيهات. وعادت تلك الصحف كغيرها لاستعمال ما يسمى هنا "اللسان الخشبي" أي اللغة المتجمدة التي لا تعبر عن واقع المجتمع وتتسم بقلة الجرأة. ولعله من الغريب أن تكون الصحافة التونسية التي قطعت شوطاً كبيراً في طريق الحرية في نهاية السبعينات شهدت تراجعاً منذ مطلع التسعينات على رغم حصول التغيير السياسي الذي يتمثل في وصول الرئيس زين العابدين بن علي للحكم في 1987. وبدل الحيوية التي اتسمت بكثرة التحاليل وجرأة المقالات وانتشار النقد تراجعت الصحافة في البلاد إلى مستوى نشر البلاغات الحكومية والإفتقار إلى الإضافات الإبداعية للصحافيين والكتاب بصورة عامة. وانكمش الجامعيون والمثقفون وكفوا عن مد الصحف بمساهماتهم. وبات الناس في البلاد يبحثون عن الأخبار الفعلية في شبكات التلفزة الفضائية والصحف الخارجية التي بات تداولها كبيراً من خلال الفاكس، فيما استمر منع توزيعها لمناسبة ومن دون مناسبة. وباتت الإشاعة بكل مبالغاتها وقلة دقتها هي سيدة الأخبار. وعلى رغم ان قانون الصحافة لسنة 1975 عدل مرتين في 1988 و1993 لتخليصه من الشوائب وإلغاء الجوانب الزَّجْرِيّة الشديدة فيه، فقد بدا أن القضية تتمثل أساساً في الممارسة. ويجري حاليا العمل على إدخال تعديلات ثالثة وعميقة على ذلك القانون الذي يسمى في تونس ب"مجلة الصحافة" لإدخال شيء من التحرر فيه. ويبدو أن هذا القانون الذي أذن بتعديله الرئيس بن علي سيتم النظر فيه في مجلس النواب قريباً جداً، ويؤمل البعض أن يسهم ذلك في إعادة إحياء الصحافة التونسية من مواتها ودفع الألف صحافي الموجودين في البلاد على طريق الإبداع بعدما كادت أقلامهم أن تجف.