صرّح الرئيس بيل كلينتون ان الاتفاق السوري - الاسرائيلي أنجز بنسبة 90 في المئة. وجاء كلامه في معرض الطمأنة بعدما تأكد ان الجولة الثالثة من المفاوضات لن تعقد في موعدها وفي ظل أجواء تفيد انها قد تكون مؤجلة الى موعد غير محدد. وتعمد مسؤولون أميركيون آخرون التقليل من أهمية التأجيل مركزين على ان الرغبة في التسوية لدى الطرفين قوية. لا بل أعربت واشنطن عن تفهمها للاستياء السوري من اقدام إيهود باراك على تسريب مسودة الاتفاق التي وضعتها واعتبرت ان من حق دمشق ان تغضب. فهذه المسودة توحي ان سورية أعطت الكثير من غير أن تحصل على التزام قاطع مقابل بالانسحاب الاسرائيلي الى ما وراء خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967 . ولم يستغرب المراقبون هذا السلوك الاميركي. ولم ينسبوه، فقط، الى رغبة أميركا في تحقيق "إنجاز". فمن المنطقي القول ان المفاوضات لم تنته بعد كل الجهد الذي بذله المعنيون لإيصالها الى حيث وصلت. ومن المنطقي، كذلك، الاعتقاد ان الموافقة على عقد جولتين على مستوى رفيع لن تصطدم، بهذه السرعة، بحائط مسدود. فالمراقبون يعتبرون ان الاستثمار السوري والاسرائيلي والاميركي في هذه المسيرة كبير الى حد ان أحداً لن يكون مهتماً بتبديد ما جرى. لقد قطعت دمشق شوطاً في الموافقة على ما ستقدمه في مقابل الأرض. ودفع باراك ثمناً سياسياً بدلاً من كلامه الغامض عن الانسحاب وصل الى ذروته في التظاهرة التي استقبلته عند عودته من واشنطن. وكلينتون نفسه أكثر من التورط الشخصي في شيبردزتاون التي زارها خمس مرات في حين داومت وزيرة خارجيته مادلين أولبرايت فيها. ومع ذلك لم يجرؤ أحد على استبعاد احتمال الانهيار. ولعل النجاح الديبلوماسي السوري الابرز يتمثل في كسب التأييد للفكرة القائلة بأن لا مجال لأي اتفاق ما لم تتعهد اسرائيل رسمياً الانسحاب الكامل من الجولان. فلقد أعلن وزير الخارجية السوري فاروق الشرع انه غير عائد الى طاولة المفاوضات لأن باراك تلاعب باجتماعات اللجان وأرجأ اجتماع تلك المعنية بترسيم الحدود الى اليوم الأخير. والواضح ان سورية وافقت على ملء الفراغ بين جولتين بمحادثات يجريها وفد من الخبراء مع الادارة الاميركية في مقابل وصول وفد اسرائيلي الى واشنطن من أجل الغاية نفسها. وبما ان الهدف من ذلك مناقشة تعديلات الطرفين على المسودة الاميركية فإن الادارة اكتفت بذلك مؤقتاً طالما انه يسمح لها بالقول ان الحبل لم ينقطع تماماً. غير ان الوفدين لم يصلا. وتبين ان الادارة نفسها حاولت القيام بلعبة في هذا المجال تخدم باراك: فلقد أوحت أن الوفد السوري سيصل أولاً، علماً أن توافقاً حصل على الوصول المتزامن. والأهم من ذلك ان الادارة سرّبت ان اجتماعين سيعقدان يخصص الاول منهما للبحث في الترتيبات الامنية وعلاقات السلام العادية، والثاني منهما للبحث في كيفية ترسيم الحدود. ومع انه يمكن القول ان هذه التفاصيل غير خطيرة فإن السوريين اعتبروا ان الامر تكرار لما سبق وتقديم للأجندة الاسرائيلية على تلك التي يقترحونها. ولذلك اعترضوا مطالبين، كما فعلوا في المرة السابقة، بإعطاء الاسبقية لقضية الحدود. حاول باراك ان يبدو مرتاحاً وهو داخل في لعبة عض الأصابع هذه. رد ببرودة على خبر تأجيل المفاوضات. وترك لبعض معاونيه ان يؤكدوا الموقف المعلن سابقاً. وأضاف الى ذلك الاكثار من الاجتماعات بياسر عرفات والتظاهر بأنه يملك بديلاً من المسار السوري يتمثل بتحريك المسار الفلسطيني سواء في شقه المتعلق بتنفيذ ما تبقى من قضايا المرحلة الانتقالية أو بالدخول في مفاوضات ماراتونية لحسم مواضيع الحل النهائي. وأرفق سلوكه هذا بتصريحات عن انه مهتم بالمسارات كلها وأنه لا يريد ان يلعب واحداً منها ضد الآخر. غير أن الحظ لم يخدمه. فلقد حصل، في هذا الوقت، ان نشرت "مؤسسة جيمس بيكر" نص دراسة كان قدمها اليها الجنرال أوري ساغي رئيس الوفد المفاوض مع سورية. ويعترف ساغي في هذه الدراسة، وفي غير موقع، ان القادة الاسرائيليين يتلاعبون بالمسارات ويختارون التقدم عبر ذلك الذي يعتبرونه الافضل. ومن أجل استكمال الصورة شرعت صحف اسرائيلية تلمح الى ان عرفات، الذي عاد خائباً من واشنطن، عرض على كلينتون معالم الحل النهائي كما يراه وهي معالم تغري الاسرائيليين بترك كل ما عدا ذلك من اجل التقاط "الهدية" المقدمة اليهم. سورية، من جهتها، تصرفت بهدوء. احتفظت بوتيرة نقدها للموقف الاسرائيلي في سياق تأكيد قرارها بالسلام. وكسبت تأييد الرئيس حسني مبارك لذلك. وحسمت في انها لن تتخلى عن ورقة المقاومة في لبنان. وأوضحت أنها معنية بمفاوضات جدية وليس بإنشاء مؤسسة جديدة اسمها "مؤسسة المفاوضات". في هذا الوقت كانت الايام تمر وضغط الروزنامة يزداد. وجاءت الانتخابات الفرعية في ايوا، لا التي ستتبعها مواجهة نيو هامبشير المهمة، لتذكر الجميع بأن أسابيع قليلة تفصل عن موعد دخول الولاياتالمتحدة حمأة حملة رئاسية يبدو انها ستكون صاخبة. وبما ان حماوة المعركة تتزامن مع الموعد الذي ضربه باراك للانسحاب من لبنان فإن المراقبين مالوا الى القول بأن شهري شباط فبراير وآذار مارس حاسمان. فمن المعروف ان الحكومة الاسرائيلية ستجري استفتاء على اي اتفاق. والمدة الفاصلة بين التوقيع واجراء الاستفتاء هي شهر كامل ولذا فإن نيسان أبريل قد يكون وقتاً نموذجياً للاتفاق وبشكل يصادف الاستفتاء، اسرائيلياً، شهر أيار مايو الذي تكثر فيه الاحتفالات على أنواعها. وإذا حصل ذلك بالترتيب يمكن التحكم بموضوع الخروج من لبنان وترك الأميركيين ينصرفون الى انتخاباتهم من أجل الاستفراد بالفلسطينيين والضغط عليهم بالاستفادة من أنهم موضوعون تحت سيف ضرورة التوصل الى "شيء ما" في أواسط أيلول سبتمبر. ان المفاوضات السورية - الاسرائيلية هي من النوع الذي لا يتقدم الا اذا كان على حافة الهاوية. وهي، اليوم، عند هذه الحافة. غير أن المشكلة هي ان احتمال الوقوع في الهاوية يبقى موجوداً. ولقد سبق لهذه المفاوضات ان وقعت فيها ذات مرة