كانت أول خطوة لجأ صنّاع القرار في اسرائيل الى تقويمها بعد عودة رئيس الوزراء ايهود باراك من مفاوضات واشنطن، المعركة الإعلامية التي خاضها السوريون والاسرائيليون. ومن دون معارضة تذكر أجمع الطاقم الاعلامي لباراك على ان الرئيس حافظ الأسد، الذي رفعت بلاده شعار التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل قبل انعقاد مؤتمر مدريد للسلام قبل 8 سنوات، لم يجد صعوبة في طرح شعارات تؤكد ان السلام خيار استراتيجي أيضاً لسورية. ودفعت لافتات في شوارع دمشق ووزعت صورها وكالات الأنباء، مثل "قاتلنا بشرف وتفاوضنا بشرف وسنصنع السلام بشرف"، مراسل الشؤون العربية في صحيفة "معاريف" الاسرائيلية للاقرار بتفوق سورية في المعركة الاعلامية، والقول ان الرئيس الأسد تفوق على باراك، وان تصريحات المتحدثين باسم الحكومة تؤكد ان دمشق مصرة على أن تفعل كل ما تستطيع لإنجاح المفاوضات مع اسرائيل، وانها لن تضع عقبة أمام المحادثات تعيق تتويجها باتفاق سلام، وان كان هناك من ينظر الى هذه السياسة الاعلامية السورية باعتبارها مناورة بارعة تضمن في حال بروز عقبات امام التوصل الى سلام، ان سورية ليست مسؤولة عن تلك العقبات. ومع ذلك يبرر طاقم باراك الاعلامي توجهاته الحالية وسياسته في مخاطبة الرأي العام الاسرائيلي انطلاقاً من ان الجو الهادئ يميل لمصلحة باراك، فيما تساعد إثارة المشاعر في شأن الانسحاب من الجولان خصومه، اضافة الى انه يعرف ان معركته ليست مع الكنيست بل مع الرأي العام الذي يحرص على الابقاء على تأييده له. ويقول خبراء في السياسة الاسرائيلية ان فكرة تنشيط المسار السوري هي "طفل" باراك الخاص، مثلما كان السلام مع مصر "طفل" مناحيم بيغن، والسلام مع "الأردن" طفل رابين، وهو لهذه الغاية لن يسمح لأحد بالتدخل في حياة هذا "الطفل"، ويبرر مناوراته مع كل الأجهزة الاسرائيلية المختلفة وابعاده كل سياسي اسرائيلي ينادي باعطاء أفضلية للتسوية مع الفلسطينيين مثل شمعون بيريز ويوسي بيلين وشلومو بن عامي وحاييم رامون، وتقريبه بدلاً من ذلك كلاً من وزير الخارجية ديفيد ليفي وأوري ساغي رئيس الوفد الاسرائيلي للتفاوض مع سورية اضافة الى داني ياتوم وتسفي شتاوبر المسؤولين عن الجناح السياسي في ديوان باراك. ويضيف الخبراء ان باراك وساغي يتابعان الخطوات التي توقفت عندما وضع رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق رابين توصياتهما جانباً واختار السير في طريق بيريز التي أدت الى توقيع اتفاق أوسلو. فقد كان باراك في السنة الأولى من عهد رابين قائداً للأركان، وكان ساغي رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية، ولم تتبدل رؤيتهما الاستراتيجية منذ ذلك الوقت ولم يطرأ عليها أي تغيير، وهي تستند الى ثلاث قواعد: 1- على صعيد عملية السلام: الفلسطينيون هم المشكلة، لكن سورية هي الحل، انطلاقاً من القناعة المترسخة لديهم بأن السلام مع سورية سيلغي الى الأبد خطر اندلاع الحرب. 2- في مجال التهديدات: يعتبر باراك وساغي ان العراق مصدر الخطر على اسرائيل، وليست ايران. وهما على قناعة بأن أي استفزاز من جانب اسرائيل لطهران سيكون ضاراً وغير مبرر. 3- في بناء الجيش: يعتبران الوسائل الحديثة والتكنولوجيا المتطورة ضماناً مؤكداً لحسم سريع لأي معركة وبالحد الأدنى من الخسائر. وتكاد تكون النقطة الأخيرة مدار جدل ساخن في المؤسسة العسكرية الاسرائيلية وحتى خارجها، بعد أن بدأ الخبراء يحاولون تقدير الكلفة المتوقعة لانسحاب عسكري اسرائيلي من الجولان. وتقول بعض التقديرات الأولية انه قد يصل الى 20 مليار دولار، تخصص عشرة مليارات منها لاخلاء القواعد وإعادة الانتشار في الجليل والنقب، وعشرة مليارات أخرى لبناء جيش السلام، وتمويل الانسحاب من لبنان. ومع ان اسرائيل تعتمد على الولاياتالمتحدة في تمويل الاخلاء وغيرها كتعويض الجيش الاسرائيلي عما سيتكبده من أموال تصرف لاحقاً، فإن من الواضح انه حتى الانسحاب الذي يكرر باراك انه سيتم من جنوبلبنان قبل حلول تموز يوليو 2000 لم تخصص له موازنة، الأمر الذي دفع ضابطاً اسرائيلياً كبيراً الى القول انه لم يسمع بعد أن وزارة المال اقترحت تمويل الاخلاء من لبنان، وان كان هناك من يدعو الى الاستفادة من الفائض المالي نتيجة الانسحاب لتمويل إعادة الانتشار على الحدود. ويعود خوف المؤسسة العسكرية الاسرائيلية من غياب الموازنة المناسبة لتنفيذ الاتفاقات وما يترتب عنها الى الخشية من تطورات كالتي شهدتها الأيام الأولى من تشكيل باراك لحكومته، بعد أن سربت وزارة المال معلومات عن عزمها تقليص أكثر من مليار شاقل من موازنة الدفاع العام المقبل، الأمر الذي دفع رئيس هيئة الأركان شاؤول موفاز الى التحذير من الأضرار المؤكدة، مما ولّد انطباعاً بأن باراك يتفهم الأمر، الى أن صادقت الحكومة على تقليص 957 مليون شاقل من موازنة الدفاع، وهو مبلغ يتجاوز ما كان المسؤولون في وزارة المال يطمحون الى تخفيفه. ويتسلح باراك ووفده المفاوض بالدعم الذي يقدمه اليهم سكان الجليل الأعلى ومستوطناته، وفي النداءات التي تنطلق من الجليل الى مستوطني هضبة الجولان السورية المحتلة ما يختصر بقول أحدهم: "نحن نقف أمام معادلة بسيطة لها حل واحد، السلام مع سورية وحده هو الذي سيضع حداً للحروب والضحايا وصواريخ الكاتيوشا، والنزول من الجولان هو وحده الذي سيفتح بوابات السلام. ولا خيار غير ذلك". والواضح ان رئيس وزراء اسرائيل يستعمل بذكاء مطالبة 200 ألف اسرائيلي في الجليل بأن يشاركوا في اقناع 17 ألف مستوطن في الجولان بالانسحاب، ولا يتردد سكان الجليل في استدرار عطف مستوطني الجولان بالقول ان 60 ألف طفل يعيشون تحت رحمة صواريخ الكاتيوشا بحاجة الى السلام، ويحضونكم على النزول والسكن في أرض لا نزاع على حق اسرائيل في الاحتفاظ بها. فلا تعتبروا الانسحاب ضربة أو كارثة بل تحدياً. ويبدو أن مستوطني الجولان باتوا يدركون ان من الطبيعي ان يأتي هذا الحسم الشرعي لمستقبلهم ليس من سكان الجولان وحسب، بل من سكان اسرائيل كلهم، لذلك تزداد رغبة بعض مستوطني الجولان في التوجه الى الرأي العام اليهودي في العالم للتحذير من مخاطر الانسحاب وهدم المستوطنات، الأمر الذي واجهته سورية بذكاء عندما تصدى الشرع للرد على محاولة الاستقطاب في واشنطن - قبل استئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية - ليؤكد ان هذا المنطق يتجاهل بشكل مطلق أكثر من نصف مليون مواطن سوري تم طردهم من عشرات القرى في الجولان التي عاشوا فيها مع آبائهم وأجدادهم منذ آلاف السنوات وقراهم التي مسحت عن وجه الأرض. وكان مثل هذا الكلام للوزير السوري كافياً لإعادة الاطار الفكري والمقاييس الصحيحة الى هذه القضية التي أراد مستوطنو الجولان اثارتها. ومن أتيحت له فرصة الاستماع الى تعليقات وردت في واشنطن اثناء الاجتماعات الأخيرة في واشنطن بين المسؤولين الاسرائيليين والسوريين، كملاحظة الوزير الشرع حين قال "سمعت ان البورصة في تل أبيب ارتفعت الى عنان السماء منذ ان أعلن الرئيس كلينتون استئناف المفاوضات"، ورد المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية الياكيم روبنشتاين عليه متسائلاً: "هل تريد أن تستثمر في بورصتنا؟"، واستطراد الشرع قائلاً: "ليس الآن إلا أنني استثمر في السلام". وقوله في مناسبة أخرى وهو ينظر للاسرائيليين المصابين بالزكام وهم يسعلون ويمسحون أنوفهم "إذا عدنا الى دمشق بالزكام، فسيكون ذلك بسبب الوفد الاسرائيلي"، دفع باراك الى القول مازحاً: "توجد هنا هيكلية تدريجية من الزكام المرتفع تبدأ بالرئيس كلينتون المصاب بالزكام هو الآخر". اضافة الى تأكيدات الشرع بأنه "ليست لدينا أي نيات في التنازل عن أي شبر من الأرض. نحن مستعدون للتعاطي مع كل ما يتعلق بالأمن والسلام. سورية لن تستطيع وضع حد لهذا الصراع طالما كانت أراضيها تحت سيطرة دولة أخرى"، ونسب باراك قوله لوزير الخارجية السوري: "لن نغفل ما تم التوصل اليه مع الحكومات السابقة. في عهد رابين وبيريز ونتانياهو كانت هناك اتصالات لا نية لدينا لشطبها، ولكن من الناحية الأخرى لن نتنازل عن أي مطلب أمني، لأنه لا نية لدي لتعريض أمن اسرائيل للخطر. السلام معكم مهم بالنسبة إلينا". وإثر عودته لتل أبيب، كرر باراك أمام أركان حكومته القول انه أوضح للسوريين ان اسرائيل مستعدة للانسحاب من الجولان، وان كل ما تبقى هو الاتفاق على التفاصيل النهائية الأخيرة التي تدور حول بضع مئات من الأمتار بجوار بحيرة طبريا. وفي ما يتعلق بالحمة، ينوي رئيس وزراء اسرائيل التوجه الى لجنة التحكيم الدولية. وتدل المؤشرات على أنها ستصدر حكماً لمصلحة سورية واستمرار سيادتها عليها. كل الذين التقوا رئيس وزراء اسرائيل من اعضاء الكنيست ومسؤولين غربيين لاحظوا حديثه عن "اتفاق اللب" بدل مصطلح "اعلان مبادئ"، وعزوا تمسكه بهذه التسمية الجديدة الى شغفه بالمصطلحات الجديدة التي تتيح له ترك بصمات ليس على التاريخ وانما في حقل الإعلام. وذكر ديبلوماسي غربي في تقرير رفعه الى وزارة الخارجية في بلاده "ان باراك يأمل بأن يتم التوصل الى اتفاق اللب في جولة المحادثات المقبلة التي ستستغرق عشرة أيام مكثفة، وان لم يتم ذلك، فبعدها بفترة قصيرة". ويكره باراك قراءة آلاف الصفحات من التقارير والنصوص والملاحظات، ويصر أمام مساعديه ومستشاريه على القول انه يؤمن باجراء المفاوضات على مستوى عال، وبسرعة وبشدة وبشكل مباشر وجوهري، اذ ان مسودات الاتفاق، على حد قوله، جاهزة والعمل الذي جرى في فترة بيريز موجود ويمكن استخدامه أساساً للتوصل الى اتفاق جديد. ويستند جوهر الاتفاق الجديد مع سورية الى انسحاب اسرائيل من الجولان، وتبرير ذلك بأن الجيش الاسرائيلي الآن قوة عسكرية كبيرة وشاملة، وقدرات تكنولوجية ونظرية لم تكن له في السابق، وقد أخذت تتبلور قبل سنوات بشكل يتيح لاسرائيل الرد على أي انتهاك مستقبلي للترتيبات الأمنية التي تحدد قبل أن يعرض أمن قرى الجليل للخطر. ويسرب المسؤولون العسكريون معلومات حول التحول التكنولوجي الهادئ ل"جيش الدفاع الاسرائيلي" بهدف تأكيد أن مهمات الجيش الاسرائيلي المقبلة واسلوب عمله تبدلت بشكل يبرر الانسحاب من الجولان ويدفع الى إعادة النظر في الأخطار المترتبة والمطالبة بترتيبات أمنية تتضمن عناصر عدة منها: - حظر وجود قوات مدفعية وسلاح مشاة جاهز وصواريخ مضادة للطائرات من أي نوع كان، وبطاريات صواريخ أرض - أرض، كذلك حظر الاحتفاظ بوحدات اقتحام هندسية. - الحديث عن منطقة تقع بين الحدود التي يتفق عليها وحتى عمق 80-100 كلم شرقي هذه الحدود تكون منزوعة عملياً من السلاح والمعدات الثقيلة. - عدم هدم العوائق التي أقيمت في الجولان ضد الدبابات طوال فترة عشر سنوات. - تبعد سورية صواريخ أرض - أرض من نوع "فروغ" و"اس.اس 21" والكاتيوشا الثقيلة 240 ملم مسافة بعيدة عن الحدود. - التفاهم في شأن محطات انذار مبكر. - نشر قوة رقابة دولية تبلغ مباشرة الدول الموقعة على الاتفاق والدول الراعية بيسر تنفيذ الاتفاق. - انسحاب الجيش الاسرائيلي الى خط الحدود الجديد على مراحل ويستكمل بعد اخلاء كل المستوطنات. - ترتيبات مماثلة مع الاختلاف في التفاصيل في شأن لبنان والانسحاب من جنوبه. ولا يوجد ما يضمن ان سورية ستسلم بأي شيء تطلبه اسرائيل ويضمن تفوقاً استراتيجياً، الأمر الذي يدفع الى الاعتقاد بأن عدم تحقيق باراك لاتفاق جيد بالمفهوم الاسرائيلي قد يطرح اسئلة حول مستقبل رئيس الوزراء الاسرائيلي السياسي، ومن هنا فإن في اسرائيل من يدعو الى التوصل الى ما يعرف باسم "الاتفاق الجيد" الذي لا تكون لأي طرف من الطرفين المصلحة في خرقه. ويؤكد المحلل العسكري الاسرائيلي المعروف زئيف شيف "ان الترتيبات الأمنية الجيدة أهم من رفع علم اسرائيلي في دمشق أو من عدة صفقات اقتصادية، خصوصاً أن واشنطن شريك المتفاوضين، وسيؤثر دورها على قدرة الردع الاسرائيلية في المستقبل وعلى مكانتها في المنطقة". كما ستطرح اسئلة من نوع آخر، كالحديث عن حلف دفاعي بين الولاياتالمتحدة واسرائيل والتركيز على أن تقتصر المساعدات الأميركية لسورية على الجانب الاقتصادي. وبانتظار ما ستسفر عنه مفاوضات الاسبوع الأول من الألفية الثالثة في واشنطن بين اسرائيل وسورية حين تعقد الجولة الثانية من المفاوضات، يبقى من الصعب التكهن بما إذا كان باراك سينجح في طرح اتفاقه مع سورية في الفترة الواقعة ما بين آب اغسطس وأيلول سبتمبر أو تشرين الأول اكتوبر كحد أقصى على الاستفتاء، والى جانبه رزمة اغراءات ضخمة كالتطبيع واتفاق سلام مع بقية الدول العربية، ومشروع تحلية المياه والاستثمارات الدولية وتوطيد التحالف مع أميركا الى جانب الخروج من لبنان.