سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مسؤول أميركي ل"الوسط": مبادرة "ايغاد" قادرة على استيعاب مطامح شمال السودان . أربعة شروط أميركية لتحسين العلاقات مع الخرطوم وفيتو على الوساطة العربية للمصالحة السودانية
ليس في الأفق ما يبشر بتحسن قريب في العلاقات بين الادارة الأميركية والحكومة السودانية. تتعدد التصريحات الرسمية التي تنتقى ألفاظها بعناية وقدر كبير من الديبلوماسية، في الخرطوموواشنطن، في شأن سبل تحسين تلك العلاقات. غير أن الحقيقة التي لا جدال فيها أن ربط واشنطن ذلك التحسن بشروط لا بد من تلبيتها يجعل الخرطوم أشد تمسكاً بسياسة "عدم الركوع إلا لله" على حد تعبير الرئيس عمر البشير في الاحتفال الذي أقيم على البحر الأحمر أخيراً في مناسبة تصدير أول شحنة من النفط السوداني. وعلى رغم أن واشنطنوالخرطوم تدركان أن الديبلوماسية هي، في نهاية المطاف، سياسة مصالح وتوازنات سياسية، الأمر الذي يعني - ضمنياً - امكان التوصل الى حل وسط يتيح استئناف التمثيل الديبلوماسي على مستوى السفراء، فإن ثمة هوة عميقة من عدم الثقة الذي يشعر به كل طرف حيال الآخر. وكان تدهور العلاقات الثنائية قد بلغ ذروته باعلان وزارة الخارجية الأميركية ضم السودان الى لائحة الدول التي تتهمها بدعم الارهاب. وما لبثت ان أغلقت بعثتها الديبلوماسية في العاصمة السودانية لتهيئ لها مقراً في نيروبي. ولم ينجح قيام الخرطوم بابعاد اسامة بن لادن وتسليم الفنزويلي ايلييش راميريز سانشيز الشهير ب"كارلوس" الى فرنسا في إزالة مخاوف واشنطن من الصلة المزعومة بين النظام السوداني والارهاب، وهي اتهامات دأبت الخرطوم على نفيها. وواصلت، من جانبها، اتهام واشنطن بالعمل على اطاحة النظام بتحريض الدول المجاورة وتعزيزها عسكرياً لتدعم بدورها قوات المعارضة السودانية. وبدا أن انعدام الثقة بين الجانبين وصل نقطة اللاعودة - من جانب الخرطوم على الأقل - بعدما التقت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين اولبرايت قادة "التجمع الوطني الديموقراطي" السوداني المعارض في العاصمة اليوغندية كمبالا، وبحثت معهم في سبل التعجيل باسقاط الحكومة السودانية. وقد اعتبرت الخرطوم ان "البنود الخفية" الأميركية اكتمل سفورها عند منابع نهر النيل، وخلصت الى أن واشنطن لن ترضى شيئاً دون سقوط النظام أو استسلامه الكامل لشروطها. وقضت الغارة الأميركية التي دمرت مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم بحري، في آب اغسطس 1998، على ما بقي من ثقة بين الطرفين، وهو أمر لم تنجح وساطات عدة قام بها الرئيس السابق جيمي كارتر والسفير السابق دونالد باترسون في تغييره. سألت "الوسط" مسؤولاً أميركياً معنياً بالملف السوداني عن طبيعة تلك العلاقات وتصنيفها حالياً، فقال ان العلاقات الديبلوماسية لم تقطع، وبعد ضرب مصنع الشفاء للأدوية سحبت الخرطوم ديبلوماسييها من واشنطن، "وأبلغتنا بعدم ترحيبها بأي زيارة منا للخرطوم". ويكشف المسؤول "ان القناة الوحيدة للاتصال بين مكتبينا في الخرطومونيروبي تتمثل في الهاتف"! وأوضح ان السفارة الأميركية في العاصمة السودانية اغلقت مطلع 1996 "لأسباب أمنية". وذكر ان تلك اشارة الى تهديدات لحياة الديبلوماسيين الأميركيين الذين نقلوا الى نيروبي. وأشار الى حادثة اطلاق النار من رشاش على مبنى السفارة الأميركية في الخرطوم في آذار مارس 1999، واعتبرها تأكيداً لتلك المخاوف. وكانت الحكومة السودانية قد رفضت مبررات قرار ترحيل السفارة الأميركية، وأشارت الصحف الموالية لها الى ان السفير الأميركي دأب على ممارسة الركض يومياً في شوارع الخرطوم، وتساءلت: ماذا يقصد الأميركيون بتلك التهديدات؟ وقد حملت "الوسط" التساؤل نفسه للمسؤول الأميركي فرد: "انها مخاوف تتعلق بسلامة الديبلوماسيين". وأضاف: "نود عدم الخوض في التفاصيل". غير أن نبرة التشدد التي تتسم بها تصريحات كل من الجانبين لم تمنع أياً منهما من انتهاز فرص اللقاءات غير المقصودة في مسعى لاضفاء حيوية على الحوار الميت بين البلدين. اذ التقى وزير الخارجية السوداني مصطفى اسماعيل عثمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية توماس بيكرينغ أثناء حضورهما أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك نهاية أيلول سبتمبر 1998. وكتبت صحف سودانية عدة ان بيكرينغ يعد الأكثر اعتدالاً بين كبار مسؤولي وزارة الخارجية في ادارة الرئيس بيل كلينتون. وأوردت ان وزير الخارجية السوداني التقى أيضاً بالرئيس كلينتون، وأبلغه استعداد بلاده لتحسين العلاقات الثنائية. لكن المسؤول الأميركي الذي تحدث الى "الوسط" أوضح ان الرئيس الأميركي التقى الوزير السوداني "أثناء جلسة لالتقاط صورة تذكارية، لكن لم يحصل اجتماع، والخرطوم ضخّمت الأمر". ورأى المسؤول انه على رغم المواقف العدائية ف"ان الاتصالات مستمرة ومخاوفنا مستمرة أيضاً". وأعرب عن اقتناعه بأن "الحوار هو الوسيلة الوحيدة لازالة المشكلات العالقة. وقد أبلغناهم السودانيين بأننا نرحب بعودة ديبلوماسييهم الى واشنطن ونأمل ان نتمكن ديبلوماسيونا من استئناف زياراتنا للخرطوم". وأضاف: "نحن مندهشون حقاً لأنهم السودانيون يطالبون بالحوار ويسحبون الديبلوماسيين في الوقت نفسه ويرفضون السماح لنا بزيارة السودان". وكشف أن واشنطن رشحت سفيراً جديداً لدى السودان لكن حكومة الخرطوم رفضت اعتماده. إذاً هل تبقى العقوبات وحدها الوسيلة القوية بيد واشنطن؟ يجيب المسؤول الأميركي: "اعتقد بأن العقوبات أدت غرضها، وينبغي أن يكون مفهوماً أن الهدف منها ليس ازالة الحكومة السودانية، بل الضغط عليها" . وذكر أن واشنطن لديها أربعة محاور رئيسية يتوقف عليها تحسن علاقاتها مع الحكومة السودانية، وهي: - ضرورة تخلي الخرطوم عن دعم الارهاب. - تحسين أوضاع حقوق الانسان في البلاد. - وقف الحرب الأهلية والكف عن اضطهاد المواطنين والامتناع عن ممارسة الرق وسياسة التجويع. - الكف عن تهديد حكومات البلدان المجاورة. وأكد المسؤول الأميركي "ان العلاقات لن تتحسن حتى يحدث شيء ملموس في تلك البنود الأربعة". ومضى قائلاً: "سنعمل على عزل الحكومة السودانية ديبلوماسياً ودولياً، خصوصاً ان دولاً عدة تنظر اليها باعتبارها دولة منبوذة Pariah State. وهناك العقوبات التي فرضتها عليها الاممالمتحدة وقامت الولاياتالمتحدة بدور كبير في اقرارها وسنواصل ضمان عزل الحكومة السودانية وديبلوماسييها ولن نعطيها أي رساميل". واعتبر ان الخرطوم اضطرت الى انتهاج بضع "خطوات ايجابية" نتيجة السياسة الأميركية الهادفة الى عزل النظام السوداني. وذكر ان من تلك الخطوات انضمام السودان الى معاهدة منع انتشار الأسلحة الكيماوية نهاية أيار مايو 1999، "وهي خطوة نعتبرها ايجابية. كذلك اعلن السودانيون موافقتهم على توقيع الاتفاقية العربية لمكافحة الارهاب وهي خطوة ايجابية أيضاً. كذلك سمحوا للمرة الأولى لفريق تابع للامم المتحدة بزيارة منطقة جبال النوبة غرب السودان وهو ما لم يكن ليحدث لولا ضغوطنا والضغوط التي مارسها المجتمع الدولي. لكن التوقيع على ورقة أمر يختلف عن الأفعال والوفاء بالالتزامات". وأعلنت الحكومة السودانية، من جانبها، انها لا تمارس تجارة الرقيق، ولا تستخدم الجوع سلاحاً في الحرب الأهلية الدائرة في البلاد، وسمحت للمقرر الخاص لحقوق الانسان في السودان التابع للأمم المتحدة بزيارة الخرطوم ومدن سودانية للوقوف بنفسه على أوضاع حقوق الانسان في البلاد. واعتبرت ان صدور دستور العام 1998 يمثل أكبر ضمانة للحقوق الاساسية للمواطنين. وعززت ذلك بصدور قانون "تنظيم التوالي السياسي" الذي تقول انه يتيح تعددية حزبية منضبطة. نقلت "الوسط" ذلك الى المسؤول الأميركي فعلّق قائلاً: "هذا القانون يقول صراحة ان الأحزاب التي تشارك في العنف ضد الحكومة ليس مسموحاً لها بممارسة نشاطها، وهذا شيء مضحك. إذاً المسألة ليست صدور قانون وانما ما يحصل فعلياً على الأرض. وهذا هو الفارق بيننا وبينهم". يا لها من معضلة أو طريق مسدود. تسأل "الوسط" المسؤول الأميركي: ما الخطوة المقبلة؟ فيجيب: "سنواصل الضغط على الخرطوم لكننا سنواصل، في الوقت نفسه، تقديم المعونات الانسانية الى منكوبي الحرب الأهلية". وذكر ان الولاياتالمتحدة تبرعت بأكثر من مليار دولار منذ العام 1989 معونات انسانية للسودان. وأوضح انها قدمت الى السودان العام الماضي 150 مليون دولار. وستصل جملة مساعداتها الانسانية للسودان بحلول نهاية هذا العام الى نحو 130 مليون دولار. وأشار الى ان مساعي واشنطن لحل المشكلة السودانية مستمرة، وقال ان آخر خطواتها في هذا الشأن تعيين مبعوث رئاسي خاص للسودان، وهو عضو الكونغرس السابق هاري جونستون. وشرح ل"الوسط" طبيعة مهمة جونستون فحددها على النحو الآتي: - تعزيز مساندة الولاياتالمتحدة لمبادرة منظمة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف ايغاد الرامية الى إحلال السلام في السودان. - التركيز على وضع حقوق الانسان في السودان. - التركيز على الوضع الانساني لممارسة ضغوط تتيح تسهيلات أكبر للوصول الى منكوبي الحرب السودانية. وكان عدد من الفرقاء السودانيين قد أعربوا عن تحفظاتهم حيال مبادرة "ايغاد" باعتبارها تنحصر في سبل حل مشكلة جنوب السودان، وتتجاهل تماماً الأزمة السياسية بين الحكومة وخصومها في شمال البلاد. وربما لهذا قبلت المعارضة والحكومة المبادرة الليبية - المصرية لإحلال وفاق وطني في البلاد. لكن مراقبين رأوا ان واشنطن لن تسمح بتجاوز مبادرة "ايغاد" التي كلفت مبعوثاً رئاسياً العمل على دعمها وتعزيزها حتى تحقق غرضها المنشود. نقلت "الوسط" الى المسؤول الأميركي تحفظات المعارضين في شمال السودان على تلك الوساطة الاقليمية التي تحظى بدعم الغرب، فقال: "بكل أسف ان مصر وغيرها من الأطراف يعتقدون بان مبادرة "ايغاد" مكرسة كلها لحل مشكلة الجنوب. ونحن نعتقد بأن اعلان المبادئ الذي أصدرته "ايغاد" في 1994 يخاطب كل المشكلات وصولاً الى تسوية شاملة للمسألة السودانية". وأضاف: "لقد حصل الجيش الشعبي لتحرير السودان على تفويض من المعارضة الشمالية السودانية للمضي في هذه المهمة". وأشارت "الوسط" الى عدم وجود مرونة في ما يتعلق بتوسيع نطاق عضوية "ايغاد" لتضم دولاً في المنطقة تعنيها تسوية المشكلة السودانية كمصر مثلاً. فرد المسؤول الأميركي الذي اشترط عدم ذكر اسمه: "توسيع نطاق عضوية المنظمة أمر متروك ل"ايغاد" نفسها. لا موقف لنا في هذا الشأن. نحن فقط نساند ان تكون هناك عملية سلام واحدة Single Process ونعمل على تعزيزها". غير ان المساعي المصرية للانضمام الى "ايغاد"، والمشاركة في حل المشكلة السودانية، تثير تكهنات بعدم رضاء واشنطن عن المبادرة المصرية - الليبية التي اصطدمت اخيراً برفض ثوار الجيش الشعبي لتحرير السودان. ومن هنا يأتي الإلحاح على المسؤول الاميركي ليفصح عن موقف واشنطن الحقيقي من المفاوضات المرتقبة بين الفرقاء السودانيين في القاهرة وطرابس. يرد المسؤول الاميركي: "قلت اننا نساند مبادرة "ايغاد" باعتبارها عملية فردية موحدة Single Unified Process وهي افضل سبيل للتوصل الى حل شامل. ان مصر حليف وثيق الصلة بنا وهي عضو في مجموعة شركاء "ايغاد" وشاركت في الاجتماع الذي عقد في اوسلو في آذار مارس 1999 لتعزيز عملية "ايغاد". وقد ساندنا ادخال مصر كمراقب في "ايغاد" لأن لديها مخاوف امنية مشروعة وقد لعبت دوراً بهذه الصفة". ورفض المسؤول التحدث عن اوضاع فصائل المعارضة السودانية، لكنه قال ان الولاياتالمتحدة تساند "الأهداف السياسية للتجمع الوطني الديموقراطي التي تتمثل في اقامة سودان ديموقراطي علماني موحد. وما يهمنا ان يتم التوصل الى تسوية سلمية عادلة". واتصلت "الوسط" بمسؤول آخر يحتل منصباً مرموقاً في وزارة الخارجية الاميركية وسألته عن رأيه في ما تعتبره السلطات السودانية عداءً اميركياً ل "المشروع الحضاري الاسلامي" الذي تنفذه "ثورة الانقاذ الوطني" التي تحكم البلاد منذ العام 1989، فردّ بأن المسألة بالنسبة الى اميركا لا علاقة لها بالاسلام، "وانما هي مسألة حقوق الانسان، وليس من العدل ان تصف الخرطوم سوزان رايس مساعدة الوزيرة للشؤون الافريقية او غيرها من المسؤولين الاميركيين بمعاداة الاسلام او الشعب السوداني". وأضاف: "نحن نريد اقامة علاقات ايجابية وبناءة بين بلدينا، ونريد عملية سياسية تحترم وحدة السودان وتراعي حقوق جميع مواطنيه". وقال المسؤول الاميركي: "إن سجل حقوق الانسان في السودان معروف كما تعلم، فهناك 4 ملايين لاجئ سوداني ونحو مليوني قتيل راحوا ضحية الحرب. نحن نريد وقف هذا الدمار والحرب والارهاب". وزاد: "لقد احتفلنا بعيد المسلمين في البيت الابيض وأصدرنا تصريحات عدة تؤكد احترامنا للاسلام"