من المتوقع ان تصل وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت الى المنطقة يوم الخميس المقبل 2 أيلول/ سبتمبر بعد تأجيل زيارتها مدة شهر بناء على اقتراح ايهود باراك. ولقد برر رئيس وزراء اسرائيل اقتراحه بالقول ان الاستعجال سيحبط المساعي الهادفة الى تليين موقف ياسر عرفات بحيث يقبل التوقيع على مذكرة تفاهم جديدة قبل وصول اولبرايت. اي المذكرة التي تلغي تطبيق اتفاق "واي ريفر" وتؤسس لتنفيذ الوضع النهائي. ولكن لقاء "حاجز اريز" اثبت ان باراك ليس ذلك الساحر السياسي الذي يستطيع اقناع عرفات بصحة مواقفه. علماً بانه استخدم كل الحجج ووسائل الاقناع المتاحة، خصوصاً عندما بادره رئيس السلطة الفلسطينية بتقديم بيان ختامي يطالبه فيه بضرورة تطبيق اتفاق "واي ريفر" وكل الملاحق الاخرى التي تباطأت اسرائيل في تنفيذها. وابلغه باراك استعداده لبلورة مذكرة تفاهم تخضع لتعديلات متفق عليها، وذكّره بتراجعه مرتين امام الضغوط التي مارسها عليه اسحق رابين عندما طالبه بتغيير الجدول الزمني لتطبيق اتفاقات اوسلو. ولما اصرّ عرفات على استشارة الوسيط الاميركي قبل اتخاذ خطوة التراجع، اخبره باراك بأنه اطلع الرئيس كلينتون على مقترحاته وطلب منه اعفاء الاميركيين من دورهم المركزي في المفاوضات. عندئذ فقط ادرك ابو عمار عمق التغيير الذي طرأ على العلاقات الاسرائيلية - الاميركية عقب سقوط نتانياهو ونجاح باراك. ولما اتصل بالرئيس الاميركي طالباً منه التدخل لحسم المواضيع العالقة، شعر من اجوبته المتحفظة بأن رئيس وزراء اسرائيل سرق منه الاوراق الاميركية التي جمعها في عهد نتانياهو. لذلك استنجد بالرئيس حسني مبارك ودول الاتحاد الاوروبي لمساعدته على ملء الفراغ الذي احدثه تعاطف الادارة الاميركية مع طروحات زعيم "حزب العمل" الاسرائيلي. وهي طروحات مقلقة تستهدف تهميش دور واشنطن وابقاء العلاقات الخاصة الاميركية - الاسرائيلية خارج العلاقات المعقدة بين السلطة الفلسطينية واسرائيل. وهذا لا يعني بالطبع ان كلينتون سيتخلى عن التزاماته نحو مسيرة السلام… وانما يعني ان شكاوى عرفات لن تنال نصيبها من الاهتمام الذي نالته في عهد نتانياهو. خصوصاً وان هيلاري يهمها كثيراً ان يُقال في منطقتها الانتخابية ان زوجها يضغط على السلطة الفلسطينية للتجاوب مع الحكومة الاسرائيلية. ويبدو ان اولبرايت ليست موافقة على هذا التهميش بدليل انها دعت ابو مازن الى لقاء تحضيري في واشنطن لاقتناعها بأن المصلحة الاميركية تتطلب استمرار العلاقات الوثيقة مع العرب والفلسطينيين. ولقد لعب عرفات طوال هذا الشهر على وتر المصلحة الاميركية، وذلك عن طريق افتعال ازمة كانت ضمانته الوحيدة لعودة اولبرايت الى المنطقة. وهو يتوخى من وراء افتعال هذه الازمة ورفض تبني خطة باراك، ابقاء قناة التعاون مفتوحة مع البيت الابيض، باعتبارها التعويض الوحيد الذي كسبه اثناء جمود المسار الفلسطيني في ايام نتانياهو. كما يتوخى ايضاً تذكير الرئيس الاميركي برسالة الالتزام التي قدمها له في 26 نيسان ابريل الماضي، مع وعد باحراز التسوية الدائمة الاسرائيلية - الفلسطينية نهاية عام 1999. وتقول مصادر البيت الابيض ان كلينتون استهوته خطة باراك على اعتبار ان تنفيذها في نهاية عهده، قد يضمن له الحصول على جائزة نوبل للسلام، الأمر الذي سيوازن ما يكتب عنه في تاريخ رؤساء اميركا مقابل فضيحة مونيكا. وكان رئيس وزراء اسرائيل قد سلمه وثيقة مؤلفة من صفحتين اقترح فيها خطة للانسحاب المبرمج. وهي خطة مؤلفة من ست نقاط تتعلق بالاتفاق الانتقالي والتسوية الدائمة والتعاون الأمني والاقتصادي. ومع ان اولبرايت ستحاول الظهور بمظهر الوسيط النزيه، إلا ان الصحف الاسرائيلية تؤكد ان ادارة كلينتون تبنت خطة باراك، ولكنها ارسلت اولبرايت الى المنطقة لكي تسوقها كاقتراح اميركي يرضى به الفلسطينيون! بعد الانفراجات التي حدثت على المسار الفلسطيني، بقيت قضية الاسرى عالقة من دون حل. ولقد توقع صائب عريقات تغيير تعريف "الأسير الامني"… إلا ان المحامي جلعاد شير اصرّ على انشاء لجنة مشتركة تقوم بزيارة السجون لمراجعة كل مشكلة على حدة بهدف التمييز بين الجرائم الجنائية والجرائم المدنية والجرائم المتعلقة بأمن الدولة. وقال في دفاعه عن موقفه ان نتانياهو حدد الرقم ب 750 اسيراً، كثمن للافراج عن الجاسوس الاميركي اليهودي جوناثان بولارد، من دون ان يهتم بفرز المساجين "الملطخة ايديهم بالدماء". ولما رفض كلينتون تلبية رغبته في الافراج عن بولارد، لم تعد قضية الاسرى موضوعاً ملزماً لنتانياهو ولإسرائيل. وفي هذا الاطار طرح "شير" مسألة الاسرى وكأنها صفقة غير مربحة خسرها نتانياهو وخسر معها الانتخابات. وعليه قرر المجلس الوزاري المصغر في اسرائيل وضع معايير معينة للاسرى تمنع الافراج عن المساجين الذين تسببوا في قتل اسرائيليين. كما قرر ايضاً عدم الافراج عن معتقلين ينتمون الى حركتي "حماس" و"الجهاد الاسلامي" من اولئك الذين اعتقلوا بعد التوقيع على اتفاق اوسلو خريف 1993. وادعى "شير" ان الافراج عن الاسرى بصورة جماعية يعطي السلطة الفلسطينية اعترافاً اسرائيلياً بشرعية اعمال قتل اليهود في اطار حرب التحرير والجهاد. واعترض صائب عريقات على هذا التفسير وقال لمحاوره "شير" بأن اتفاق اوسلو سمح بالتحاق مقاتلي "فتح" في صفوف الشرطة الفلسطينية، علماً بأن معظمهم نفذ عمليات ضد اسرائيل. وفي ضوء ما اتفق عليه مع القيادة الفلسطينية التي كانت تصنف "ارهابية"، طالب عريقات بالافراج عن 650 أسيراً كجزء من اتفاق "واي ريفر" سبق وافرج نتانياهو عن فريق منهم. ايهود باراك فسّر إلحاح عرفات على تنفيذ وعد الحكومة السابقة، بأنه "خبطة" سياسية يريد من ورائها كسب الشارع الفلسطيني وتطمين المعارضة التي منحته فرصة كافية للتفاوض. ولقد تدخلت واشنطن بهدف تحسين صورته لدى المعارضة، وطلبت من وزير العدل يوسي بيلين اعادة النظر في قاعدة العفو ومعايير الجرائم. واعرب عن استعداد الحكومة الاسرائيلية للافراج عن 250 اسيراً على دفعتين: الاولى في آخر ايلول سبتمبر المقبل، شرط دخول الاتفاق حيّز التنفيذ. والدفعة الثانية في 8 تشرين الاول اكتوبر بمناسبة يوم الأسير الفلسطيني. ولكنه اعترف بوجود 120 اسيراً تعتبرهم وزارة الداخلية من المنتمين الى جماعة لا يشملها العفو. اضافة الى موضوع الاسرى وتشعباته، ستحاول اولبرايت ادخال تعديلات طفيفة على خطة باراك بطريقة لا توحي بأن عرفات قد تراجع عن موقفه السابق، او ان رئيس الحكومة الاسرائيلية قد تنازل امام الضغط الاميركي. قبل وصول الوزيرة الاميركية الى المنطقة، حمل وزير الخارجية النروجي كنوث فولبيك الى اسرائيل شروط احياء المفاوضات على المسار السوري، والتي اختصرها الوزير فاروق الشرع بعبارة مقتضبة: "اعلان الموافقة على الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، واستئناف المفاوضات من حيث توقفت". ومع ان الادارة الاميركية تعير المسار السوري اهمية خاصة، الا انها اوصت اولبرايت بالتزام الحذر، وعدم الافراط في التفاؤل، مثلما فعل باراك ووزير خارجيته ديفيد ليفي. ذلك ان الاثنين انجرفا مع موجة التفاؤل، وراحا يفسران استعداد الرئيس حافظ الاسد لاستئناف مفاوضات السلام، بأنه تغيير جذري في موقف سورية من مشروع السلام. ويبدو ان الصحف الاسرائيلية قد ساهمت في انعاش حملة التفاؤل بحيث تخيل بعضها ان الرئيس كلينتون سيسعى الى تأمين المصافحة بين الاسد وباراك اثناء المشاركة في جنازة الملك الحسن الثاني. وقد يكون لدى الرئيس الاسد سبب آخر منعه من حضور الجنازة، الا ان الرئيس كلينتون اعلن عن انزعاجه من ضياع فرصة اللقاء الخاطف، واتهم الصحف الاسرائيلية بتعطيل المناسبة. وعلقت دمشق على هذه الحادثة بالقول ان الاسد يتحاشى المظاهر الاستعراضية، ويفضل عليها اللقاءات التي تأتي ثمرة نجاح عملية السلام. وعلى رغم تبديد موجة التفاؤل المفرط عبر تكرار الثوابت السورية، الا ان باراك مؤمن بأن الاسد عاقد العزم على التقدم في مجال السلام مع اسرائيل. ولهذا السبب اطلق سلسلة تصاريح مفادها ان اجتماعه في غرفة مغلقة مع الرئيس السوري سيلغي كل العراقيل المزروعة في طريق التسوية. وهو يعترف بأنه اقتبس هذا المنطق من شمعون بيريز الذي يرى ان التفاوض المباشر مع الاسد، يوفر عليه الوقت الطويل الذي اضاعه مثلاً كريستوفر في رحلاته المكوكية ال 27 بين دمشق والقدس. وروى بيريز ان الوزير السابق كريستوفر شكا له مرة من بطء المفاوضات، وطلب منه تغيير اسلوب المباحثات لأنه لم يعد يحتمل مشقة السفر، والجلوس ساعات طويلة من اجل تغيير عبارة واحدة. وتسلح بيريز بهذه الشكوى ليبعث الى الرئيس الأسد باقتراح يقضي برفع مستوى التمثيل وتسريع وتيرة المفاوضات. وقال له في الرسالة الشفهية ان الطيار مثلك يفضل دائماً ان يطير بسرعة وعلى مستوى مرتفع، لأن ذلك أسلم وأقل خطراً من الطيران ببطء وعلى علو منخفض. وفهم الرئيس السوري ان بيريز يطالب برفع مستوى التمثيل قبل نهاية 1996، لذلك اعتذر عن لقائه بحجة ان عناصر التسوية لم تتوافر، وان الانسحابات من الجولان لم تنفذ. نائب وزير الخارجية الاسرائيلي نواف مصالحة يعتقد بأن الخلاف السوري - الاسرائيلي يتمحور حول بضعة كيلومترات محاذية لحدود ما قبل الرابع من حزيران 1967. وفي رأيه ان اسرائيل ستعرض حلاً يتمثل في اعتبار هذه المساحة منطقة منزوعة السلاح سوف تقام عليها مشاريع صناعية وتجارية مشتركة. ومن المؤكد ان دمشق سترفض هذا الحل لأنها بذلك تكون قد سلمت بشرعية حدود الانتداب عام 1923، وبأنه من حق اسرائيل استعادة الحمة والضفة الشرقية لبحيرة طبريا وكل ما يقع في حدود 1948 وليس في حدود 1967، كما ينص القرار 242. وبما ان باراك اعلن ان المفاوضات مع سورية ترتكز على القرارين 242 و338… وانه على استعداد لاستئناف المباحثات من النقطة التي توقفت عندها في شباط فبراير 1996، فإن كل حل لا يتضمن هذين الشرطين، سيمهد لاطلاق رحلات مكوكية تعاني من متاعبها اولبرايت اكثر مما عانى سلفها كريستوفر… * كاتب وصحافي لبناني.