في عالم المعسكرين كانت الدول الصغرى أو المتوسطة تدفع احياناً ثمن وقوعها على خط التماس وتتقاضى في الوقت نفسه ثمن الانضواء تحت هذه المظلة أو تلك. وكان عالم القطبين يترك للدول هامشاً ما. تحتمي من معسكر بالانتماء الى آخر وتحصل في المقابل على دعم سياسي وعسكري واقتصادي يتناسب وموقعها وأهميتها والدور الموكول اليها. وفي ذلك العالم حصلت بعض الدول على دور الوكيل بمعنى ان تنوب عن الحليف الكبير في دعم هذا الجار أو زعزعة استقرار ذاك. وكان من الصعب على الدول المتوسطة ان تتحول الى دول كبرى محلية ذلك ان شدة الاستقطاب لم تكن تسمح بمثل هذه الأدوار. لكن بعض الدول نجح في ادارة سياسته الخارجية بواقعية جنبته التحول الى تابع فاحتفظ لنفسه بالقدرة على المناورة دفاعاً عن مصالحه. وكان باستطاعة هذا النوع من الدول ان يرفض السياسة الاميركية وان ينتظر في موسكو فرصة تحسن الشروط لمفاوضة واشنطن أو العكس. لم يعد عالم المعسكرين موجوداً ولم تعد اللعبة القديمة ممكنة. وصار على الدول ان تراهن قبل كل شيء على رسوخ استقرارها وصحة اقتصادها وسلامة المناخ السياسي فيها. سقط مشهد دولي كامل وقام على أنقاضه مشهد آخر لا بد من التعامل معه بمفردات جديدة مأخوذة من قاموس الواقع الجديد. لا قدرة لدى الدول الصغرى على اطاحة المشهد الدولي. فدروس القرن تفيد ان التغيير في كامل ذلك المشهد يحتاج الى حرب عالمية كبرى أو الى انهيار شبيه بانهيار الاتحاد السوفياتي وهو ما يعادل حرباً عالمية ثالثة. اكثر ما تستطيع دولة متوسطة ان تفعله هو ترتيب بيتها الداخلي وإرساء معالم سياسة واقعية تتيح فرصة التعايش مع الوضع الدولي الجديد اذا كانت ترفض الانخراط الكامل فيه وفق شروطه ومعاييره، مع الالتفات طبعاً الى ان عالم القطب الواحد جديد وان الامبراطورية الوحيدة المهيمنة اليوم تختلف عن الامبراطوريات السابقة في بعض اسباب انتصارها، خصوصاً لجهة السبق التكنولوجي الصارخ ونجاح نموذجها الاقتصادي فضلاً عن آلة عسكرية لم يعرف العالم لها مثيلاً من قبل، وهي آلة موضوعة في تصرف نظام ديموقراطي يمتلك اسباب المناعة ويمتلك نقاط ضعف. إننا في العصر الاميركي. وعلى كل الدول ان تجيب عن سؤال إلزامي يتناول موقفها من اميركا وقيادتها للنظام الدولي الجديد. ومثل هذا الجواب مطلوب من جيبوتي كما هو مطلوب من الصين. الولاياتالمتحدة ليست بعيدة. ففي عالم اليوم تقيم كل الدول على خط التماس مع القوة العظمى الوحيدة. فأميركا حاضرة في الجو ان غابت عن المياه وحاضرة عبر سفيرها في العاصمة. وحاضرة كممر إلزامي لإطفاء الحرائق الاقليمية ميدانياً أو عبر مجلس الأمن. ولا بد من المعبر الاميركي في الطريق الى البنك الدولي اذ لا بد منه للحصول على شهادة حسن سلوك دولية. لا نكتب هذا الكلام لنستنتج ان ليس أمام الدول الصغيرة أو المتوسطة إلا خيار وحيد هو الاستسلام. فللانخراط في النظام الدولي الجديد مراحل ودرجات تتعلق بقدرة كل دولة وبالواقع القائم فيها سياسياً واقتصادياً وثقافياً ايضاً. لكن السنوات الأخيرة اظهرت ان خيار الصدام الكامل مع النظام الدولي الجديد هو خيار انتحاري. هكذا تقول تجربة الرئيس اليوغوسلافي. وهكذا تؤكد تجربة الرئيس العراقي. لكن بين خيار الصدام الكامل وخيار الاستسلام الكامل مكان للدول القادرة على قراءة دقيقة للمشهد الدولي والقادرة أيضاً على اعادة ترتيب بيتها اقتصادياً وسياسياً. وعلى سبيل المثال لا تستطيع الولاياتالمتحدة انكار ان ايران دولة اساسية في محيطها وان موافقة ايران ضرورية لإرساء قواعد استقرار طويل الأمد. لكن ايران لا تستطيع انكار حقائق العصر الاميركي. الاصطدام يحولها جزيرة محاصرة والاستسلام غير وارد، ولا يبقى بعد ذلك الا خيار نجاح خاتمي في السياسة والاقتصاد لتتمكن ايران من التعايش مع النظام الدولي الجديد