هكذا أكدت الامبراطورية الأميركية سطوتها الطاغية على المحيط الكوني في جولة زمنية جديدة حين طوقت ضلعين من أضلاع محور الشر على اختلاف الوضعية الدولية لكل منهما، لتنفرد بآخر أضلاعه وقد خلت ساحتها وحشدت قواها العسكرية وكتائبها الثقافية ومراكز ابحاثها ودراساتها نحو التوجه إلى النقطة المركزية لمحاصرتها بالعديد من الحيل والأساليب والوسائل حتى تتاح إبادتها لتخوض الامبراطورية باحثة عن صياغة نظرية معاصرة لمحور أخر للشر تسعي نحو محوه باعتبارها الامبراطورية المقدسة ماضيا وحاضرا ومستقبلا، والمعتمدة في تألقها الاسطوري على مبادئ جوهرية هي الأمن المطلق للولايات المتحدة والحدود التكنولوجية والمعني بها تلك الفروق الحضارية المقاسة بقرون بالنسبة للدول المتقدمة والنامية على السواء، ذلك إضافة إلى مبدأ استراتيجي اخر هو ثنائية الاخيار والاشرار وهو المبدا الذي يسمح بالتصنيف السياسي طبقا لكثير من المحكات التي تقضيها ظروف اللحظة. ولقد تأجج الصراع الراجع إلى نحو ثلاثة عقود مضت ذلك على اثر الدعم الشيعي الفعال بالعراق ومضت الإمبراطورية محذرة من مغبة التدخل الخلاق واصفة إيران بأنها قوة تزعزع الاستقرار، بل دولة تثير قلق بالغا لذلك الدور غير البناء والذي سوف يكلفها عاجلا ثمنا باهظا اذا استمرت في الأداء المتميز لذلك الدور. ولعل ما اثار حفيظة الامبراطورية الأميركية هو انه اذا كانت المؤشرات تشير نحو ضرورة الانسحاب الأميركي بل واصبح المشكل هو البحث عن طريقة خاصة للخروج وتلك هزيمة فوق الهزيمة ذاتها، فان إيران تعمل وبإرادة فولاذية على بلوغها الحضيض الأسفل بترسيخ وإلصاق كل معاني الهزيمة والانسحاق فضلا عن قطع كل سبل الخروج والانطلاق والتحرر لتظل الإمبراطورية في أتون المعركة حتى تتداعي تلقائيا. وعلى كل ذلك أو بعضه طرحت الامبرطورية في استراتيجيتها مجددا أبعادا ومحاور وبدائل وتنويعات وسكوك يعتصم بها الضعفاء من مخاطر المعصية والاحتجاج والتمرد استكمالا لحلقات الاستقطاب ودورات الولاء السياسي. فمن اجل بلوغ تلك النقطة المركزية التي هي ايران كغاية منشودة تجلت ملامح تلك الاستراتيجية في ايجاد ضرورة ما نحو تقسيم المنطقة العربية إلى معسكرين أحدهما معاد لايران والاخر منطقيا حليف موال لأميركا، فباعتبارها الدولة المارقة بدأت الامبراطورية محاولاتها الجوفاء لتكريس فكرة السيادة الاقليمية لايران استعداء لدول المنطقة علىها بعد بروز قبضتها الممتدة من العراق إلى لبنان مرور بسورية، ووفقا لذلك يكون المنطقي والحتمي هو طلب الغوث الأميركي للدولة الرافضة الانضواء تحت النفوذ الايراني من ثم يكون الإعلان عن صفقات التسلح هو دعوة صداقة وحميمية اتقاء ودرءاً لخطورة الزحف الإيراني وفي ذات الآن يكون هناك تفعيل نحو قطع جسور التواصل السياسي إحداثا للعزلة الإيرانية بعد استقرار جذور الأحقاد والكراهية، ولا يمثل ذلك المغزى الحقيقي لبؤرة محاور الاستراتيجية الأميركية إذ أنها تستهدف وفي المقام الأول إرغام وجبر إيران على الدخول في سباق التسلح ضمانا لتفوقها النوعي على مثيلاتها وخشية التواجه الوشيك مع القوات الأميركية، من ثم تنطلق نحو مضاعفة إنفاقها على التسلح وهو بالضرورة ما يدعم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخلها بحيث تصبح مهيأة بذاتها للتراجع والاستسلام وهي النظرية نفسها التي طبقتها الامبراطورية وبحذافيرها حين جرت الاتحاد السوفياتي إلى ما أطلق عليه آنذاك حرب الفضاء فانزلق نحو إنتاج الأسلحة الباليستية، وهو ما أدى إلى دخوله معترك أزمة اقتصادية طاحنة قوضت صولجانه وحركت الثورة التي أتت على البقية منه ودفعت نحو تغيير الخريطة القطبية فبلغنا مستوى متعاليا من الاستثنائية العسكرية والسياسية والاقتصادية التي فرزت مفهوم الأحادية القطبية الذي يعاني العالم سوءاته. ولعل هذا المشهد الأخير في تاريخ الصراع الأميركي - الإيراني يثير مجموعة من التساؤلات هي: كيف تسني للإدارة الأميركية الدعوة لمؤتمر السلام في الخريف المقبل بينما هي تتأهب لخوض حرب جديدة لاحت نذورها في تفعيل آليات برنامج التسلح لبعض الدول الجوار في المنطقة العربية؟ وما الضمانات المأمولة التي يقدمها المؤتمر لإقرار السلام وإقامة الدولة الفلسطينية باعتبارها لا زالت رهن وعد أميركي قديم؟ وإلى أي مدى تتغلغل في أصلاب الامبراطورية الأميركية الممثلة لمفهوم الأحادية القطبية مفهوم أحادية الرؤية في الاستراتيجية الأميركية؟ وهل تمثل طبيعة الفكر المؤسسي للإمبراطوريات تناقضية خاصة مع طبيعة الفكر الأحادي؟ وهل تتشدق الاستراتيجية الأميركية بمفردات أحادية الفكر السياسي من إطلاقية وتمامية وإقصائية أي التشبث بموقف دوغمائي؟ وكيف للإمبراطورية أن تطرح صيغة استراتيجية جديدة لشن الحرب على إيران بينما بوابة الجحيم في العراق تستنزفها بنحو أكثر من سبعة بلايين دولار شهريا أو ما يعادل نحو عشرة ملايين دولار في الساعة الواحدة على حد قول المنظر الاستراتيجي وخبير الشرق الأوسط وليام بولك؟ وما سر إنسحاب المنظر الاستراتيجي للبيت الأبيض كارل روف لا سيما وقد استحكم المأزق الأميركي واستحال إلى كارثة؟ ولماذا تحرص إيران الآن على ممارسة البرمجة المباشرة لمشروع التمدد الإيراني في الشرق الأوسط بإقامة منظومة تحالفات عدة مع بعض دول منطقة المغرب العربي؟ وما الرسائل الضمنية التي تسعى إيران لإبلاغها من وراء ذلك المشروع؟ وما النهاية المنتظرة لحرب التصريحات الإيرانية الساخنة التي تتأرجح بين الحكمة والعشوائية من منطق لمنطق آخر؟ وبالطبع ليست هناك إمكانية للإجابة على تلك التساؤلات إلا بالإجابة عن تساؤل محوري آخر هو هل تملك الإمبراطورية طاقة هائلة للصمود أمام الورقة الاستراتيجية الإيرانية التي تمثل بذاتها صفعة كبرى بإغلاق مضيق هرمز وهو ما يعني أن تتكلف الإمبراطورية نحو سبعة في المئة شهرياً من إجمالي الناتج القومي؟... ذلك هو السؤال. * كاتب مصري.