باستطاعة الايرانيين الابحار في الذاكرة لاسترجاع ما حصل قبل عشرين عاماً. وباستطاعة اهل المنطقة العودة الى شريط الذكريات. كانت المشاهد غير عادية. من قماشة الاحداث التي تسبق المخيلات والتحليلات والسيناريوهات. ولم يكن ممكناً الاحتكام الى سوابق لضبط التوقعات. بدا شاه ايران محاصراً في قصره. سبقته الاحداث وتضاعف عجزه عن الاستماع الى ما يدور فعلاً داخل الشارع والمجتمع. ذهب الناس ولم يبق غير الجيش. وحين يذهب الناس يصعب على الجيش ان يبقى طويلاً. حتى الوحدات التي صنعت للساعات العصيبة اهتزت قناعاتها وتخلخلت عصبيتها. وفي مثل هذه الحال لا يبقى من ضمانات الحليف الاميركي غير السعي الى ضمان طائرة المغادرة وضمان العثور على بلد يقبل استضافة الزائر الصعب. مشهد آخر من تلك المشاهد الاستثنائية في تلك الايام الاستثنائية باحداثها واهميتها وخطورتها. الامام الخميني يغادر نوفل لوشاتو في فرنسا وتهبط طائرته في مطار مهرآباد ليجد ملايين الايرانيين في استقباله. ولن يبقى امام شهبور بختيار غير الفرار ولم يتأخر. لم يكن انتصار الثورة الاسلامية في ايران حدثاً عادياً يمكن التعامل معه بالاسلوب الذي يعتمد في التعامل مع انهيار نظام هنا وهناك. كان الحدث اهم وأخطر. كان على الولاياتالمتحدة ان تعيد حساباتها في ضوء خسارتها حليفاً موثوقاً وموقعاً ثابتاً على خط التماس مع الاتحاد السوفياتي. وكان على موسكو التي دفعها بريجنيف الى الوحل الافغاني ان تتبصر بعواقب هذا التغيير واصدائه المحتملة في جمهورياتها الآسيوية. وكان على دول المنطقة ان تراقب باهتمام انفجارات البركان الايراني وما يمكن ان ينجبه من اوهام داخل ايران وخارجها. شريط المشاهد طويل. فهل نسي العالم كيف تحول الديبلوماسيون الاميركيون رهائن في سفارة بلادهم في طهران؟ وكيف بدا ان الثورة تبحث عن اصطدام مباشر بپ"الشيطان الاكبر" لترسخ في ضوء شرارات خط التماس هويتها وحدودها ولغتها واستقلاليتها. وهل نسي العالم قصة الرهائن الغربيين في لبنان وبيانات منظمة المستضعفين وكيف اقتيدت دول كبرى الى اقفاص صغيرة تغل يديها وتضغط على سياساتها. ولم ينس العالم بالتأكيد صورة الرئيس صدام حسين يمزق اتفاق الجزائر، وصورة الجيش العراقي يجتاز الحدود الدولية مع ايران، وصورة المقاتلين الايرانيين لاحقاً على الارض العراقية، وحديث الامام الخميني عن تجرع السم في معرض الموافقة على وقف اطلاق النار. لم ينس العالم كل هذه المشاهد لكن اقامتها في الذاكرة لن تطول وستحال بالتأكيد الى محكمة التاريخ وكتب التاريخ. وربما كان من المبكر الدخول في جردة حساب لكن من الممكن تسجيل بعض ملاحظات. كانت انفجارات البركان الايراني مدوية لكن آثارها، على اهميتها، جاءت اقل خطورة مما تخوف منه كثيرون. ففي المرحلة الاولى، وهي في الثورات مرحلة الاحلام والاوهام والمبالغات، خيل الى كثيرين ان الثورة الايرانية هي الرصاصة الاولى في تغيير كبير سيشهده العالم الاسلامي. وكان في هذا الرهان خطأ اساسي يتناسى طبيعة ايران نفسها وعدم قدرتها على اعطاء لونها لتغييرات كبيرة في هذا العالم. واعتقد كثيرون بأن ايران ستقدم على الاقل نموذجاً جاذباً يثير حماسة كثيرين للاقتداء به. ورأى آخرون ان طهران ستكون للحركات الثورية الاسلامية ما كانته موسكو لحركات التحرر الوطني. وبعد عشرين عاماً اتضح حجم المبالغة في الرهانات، طبعاً من دون انكار اصداء الثورة الايرانية. تحتفل اليوم ايران بالذكرى العشرين للثورة محاولة ان تغطي عبر استعادة حرارة الايام الاولى حال التجاذب المتصاعد بين ورثة الثورة. وايران التي نجحت في تأكيد استقلاليتها وضرب حضور "الاستكبار" على اراضيها تجد اليوم نفسها امام حقائق باردة وقاسية. لقد انتهى عالم المعسكرين اللذين ولدت الثورة في ظل وجودهما وراحت تبحث لنفسها عن مكان خارجهما. وانتهى ذلك العالم لمصلحة عالم انتزعت الولاياتالمتحدة، بوصفها القوة العظمى الوحيدة، "حق" ادارته. انها الولاياتالمتحدة نفسها التي اعتُقلت في سفارتها في طهران. وهي الولاياتالمتحدة التي لا بد لايران الحالية من الحصول على تأشيرة منها للعودة الكاملة الى الاسرة الدولية. فضلاً عن ان شهادة حسن السلوك الاميركية ضرورية للحصول على التكنولوجيا والقروض ولعب ادوار طبيعية في المجتمع الدولي. وربما فاقت هذه الشهادة في اهميتها ما تستطيع روسيا توفيره للترسانة الايرانية. يضاف الى ذلك اختلاف المقاييس والمعايير. فقوة الدول تقاس اليوم بمدى صحة اقتصادها لا بحجم ترسانتها او قدرتها على زعزعة استقرار الآخرين وامتلاك اوراق داخل حدودهم. وواضح ان الحرب العراقية - الايرانية لم تمكّن ايران الثورة من تقديم نموذج اقتصادي ناجح وان انهيار اسعار النفط حالياً يضاعف الصعوبات. يبقى ان ايران تحتفل بذكرى الثورة من دون امتلاك جواب عن اسئلة ملايين الذين ولدوا بعد الثورة او عشية اندلاعها. ولعلها تملك مشروع جواب يتمثل في الرئيس محمد خاتمي الذي يبدو وكأنه الفرصة الاخيرة لانقاذ الثورة. انقاذها بمصالحتها مع الحقائق الداخلية وكذلك مع الحقائق الاقليمية والدولية. اي اخراج الثورة من شرعية الثورة الى شرعية الدولة ومؤسساتها وبناء المجتمع المدني. ومصالحة منطق الثورة مع الارقام والخروج من زمن الخطباء الى زمن الخبراء. ووحدها هذه المصالحة تضمن للثورة الانتقال الى القرن المقبل بدلاً من ان تظل مجرد انفجار يقيم في دفاتر القرن الماضي.