مع مرور الذكرى ال25 لاجتياح تركيا الجزء الشمالي من قبرص في 20 تموز يوليو 1974 بدت ملامح الحل الذي تقترحه الأممالمتحدة لتوحيد الجزيرة أبعد منالاً من ذي قبل، مع اصرار القبارصة الأتراك ومعهم انقرة أكثر من أي وقت مضى على الحصول على اعتراف دولي بالأمر الواقع، بينما يعول القبارصة اليونانيون على استحقاق الانضمام الى الاتحاد الأوروبي لتغيير الوضع بشكل يضمن الحقوق والأمن والازدهار للمجموعتين. وفي القطاع التركي من نيقوسيا شارك في الذكرى حشد كبير من المسؤولين الأتراك، في مقدمهم رئيس الوزراء بولند أجاويد، جاؤوا لتأكيد التزامهم الوقوف الى جانب رئيس "جمهورية شمال قبرص التركية" رؤوف دنكطاش التي لا تعترف بها سوى انقرة منذ اعلانها سنة 1983 على 37 في المئة من مساحة الجزيرة حيث يرابط 35 الف جندي تركي. اما القبارصة اليونانيون فقد بدأت "الذكرى الأليمة" لديهم منذ 15 تموز يوليو يوم اطاح انقلاب عسكري نظمته حكومة اليونان العسكرية مع منظمة "ايوكا/ ب" الرئيس القبرصي الاسقف مكاريوس. وبعد خمسة ايام من الاقتتال الداخلي ذهب ضحيته 200 شخص تذرعت تركيا بزعامة اجاويد آنذاك بحجة حماية الاقلية التركية عملاً بمعاهدة ضمان استقلال الجزيرة من قبل تركيا واليونان وبريطانيا، لتبدأ عملية اجتياح الجزيرة التي استمرت حتى 16 آب اغسطس. وفيما يعول رئيس الجمهورية القبرصية المعترف بها دولياً غلافكوس كليريدس على قرار مجلس الأمن الدولي الأخير حول قبرص والداعي الى "عودة المفاوضات إلى مستوى زعيمي المجموعتين للبحث عن حل في اطار القرارات الدولية السابقة يضمن توحيد الجزيرة ضمن دولة واحدة ذات مجموعتين ومنطقتين"، يصر دنكطاش ومعه انقرة على عدم المشاركة في أي لقاء قبل الاعتراف ب"جمهورية" الشمال وذلك ضمن طرح حل كونفيديرالي بين دولتين مستقلتين. ويقول كليريديس ان "جميع المراجع الدولية افهمت دنكطاش ان لا مجال لاعتباره رئيس دولة قبل الذهاب الى طاولة المفاوضات، لكنه يحاول الحصول على اكبر قدر ممكن من الاعتراف بوضعه الحالي" لتحسين موقعه التفاوضي وتكريس الأمر الواقع. وكانت قمة رؤساء مجموعة ال18 اعلنت في حزيران يونيو دعمها قيام الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان بجمع الزعيمين القبرصيين في الخريف المقبل، وصدر قرار من مجلس الأمن يدعو الى عودة المفاوضات المتوقفة عملياً منذ سنتين. ويضيف كليريدس انه "اذا ترك انان وحده ولم تمارس واشنطن وأوروبا ما تملكان من تأثير على انقرة، فإن مسعاه لن يأتي بنتيجة، وسيصدر بيان يؤيد فيه مجلس الأمن مواصلة مساعي انان وتبقى الأمور على حالها". ويعتبر كليريدس ان "الوضع دقيق" وان لا شيء محدداً "سيظهر قبل تشرين الثاني نوفمبر" اي بعد تبلور نتائج زيارة اجاويد لواشنطن في مطلع الخريف. ويقول كليريدس ان "اجاويد لا يعترف بوجود مشكلة قبرصية ويعتبر انه حلها على الأرض سنة 1974 ويطلب اليوم من العالم الاعتراف بما فعله". من جهته يعتبر وزير الخارجية القبرصي يناكيس كاسوليدس ان أي تقدم "رهن بممارسة واشنطن ضغطاً على انقرة وان يقال لها نحن بحاجة اليك وأنت ايضاً بحاجة الينا، لكننا نريد حلاً هذه المرة، وعندئذ سنتقدم نحو الحل". ويضيف كاسوليدس ل"الوسط": "أنا متفائل ولا استبعد حسن النية عند الطرف الآخر، ولا شيء يحول دون مجيء دنكطاش بروح ايجابية اذا اتضح له انه لا يستطيع المضي في سياسته الرافضة لإطار المفاوضات الذي حددته الأممالمتحدة". ويقول كاسوليدس ان بدء مفاوضات قبرص مع الاتحاد الأوروبي التي يتوقع ان تنتهي العام 2001 "ستجبر الجميع على ايجاد مخرج للأمر الواقع الحالي". ومعلوم ان دنكطاش وأنقرة يعارضان المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي ولا يعترفان بحق حكومة كليريدس في التكلم باسم الجزيرة كلها. ويؤكد مستشار دنكطاش السياسي اركون اولغون ان "اساس المشكلة هو في اعتراف المجموعة الدولية بالادارة القبرصية اليونانية جمهورية قبرص كممثل شرعي وحيد للجزيرة بينما هذه الحكومة لا تمثل احدى المجموعتين التي تألفت منها عند استقلال" الجزيرة سنة 1960. ويضيف اولغون: "لقد ذقنا طعم الحرية طيلة 25 سنة وأصبح لدينا علم وسلطة وشخصية معنوية مميزة ولن نقبل بعد الآن بأقل من اعتراف بهذا التميز من خلال دولة ذات سيادة مستقلة". وفيما تنبئ هذه المواقف المتباعدة ببقاء الوضع الى ما لا نهاية يقول ديبلوماسي أوروبي في نيقوسيا ان الأمور "لا بد وأن تتحسن مع استحقاق نهاية مفاوضات الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. فمع الرغبة والاصرار والمحاولات المتكررة لجعل القبارصة الأتراك ينضمون الى هذه المفاوضات، فان لا احد يقبل في ان تمارس تركيا حق النقض على قرارات توسيع الاتحاد الذي استبعدت هي منه حالياً". ويضيف الديبلوماسي انه "بعد اتمام جمهورية قبرص مسيرة التأقلم مع قوانين الاتحاد الأوروبي سيصعب ابقاء القبارصة اليونان خارج الاتحاد ومعاقبتهم بسبب رفض دنكطاش وأنقرة، اضافة الى استعمال اليونان حق الفيتو ضد انضمام المرشحين الخمسة الآخرين اذا استبعدت قبرص... وعندئذ سيجري البحث عن وسائل بديلة تجعل القبارصة الأتراك يستفيدون من انضمام الجزيرة من دون الاعتراف الدولي بجمهورية دنكطاش". ويؤكد القبارصة اليونانيون ان انضمام الجزيرة الى الاتحاد يحقق هدفاً معنوياً وسياسياً هو دخول الأسرة الأوروبية التي ينتمون اليها "تاريخياً وثقافياً مثل مواطنينا القبارصة الأتراك". ويعترفون بأن الثمن الاقتصادي الذي سيدفعونه يقدر بمليارات الدولارات لتكييف قوانينهم مع أوروبا، لكن المردود السياسي والأمني اهم في نظرهم "لتأمين المستقبل من دون استمرار الخوف" من مطامع انقرة في هذه الجزيرة الاستراتيجية التي تتحكم بشرق البحر المتوسط. وقد حاولوا مراراً، منذ 1992، ومعهم مسؤولون اوروبيون، اقناع القبارصة الأتراك 18 في المئة من السكان الاصليين بأهمية الانضمام الى الاتحاد كونه "يزيل مخاوف احدى المجموعتين على مصيرها من سيطرة الاخرى ويؤمن الحقوق السياسية والتكامل الاقتصادي للجميع". ويقول دنكطاش وأجاويد انه "لا توجد مشكلة قبرصية وان تقسيم الجزيرة" الذي طالما طالبا به منذ الخمسينات افاد القبارصة اليونانيين الذين يتمتعون باقتصاد من بين الاقوى في المنطقة". ويرفض سفير اوروبي هذا القول "حتى لو اعتبرنا الاستقرار مصدر رخاء، خصوصاً ان هذا الازدهار لم يفد القبارصة الأتراك الذين يبقيهم انغلاقهم تابعين لتمويل انقرة الموجودة في الجزيرة لأغراض استراتيجية لا علاقة بها بحماية القبارصة الأتراك". وهو ما يؤكده المبعوثون الأميركيون والأوروبيون الذين يطالبون القبارصة اليونانيين بأخذ هذا البعد في حساباتهم، كما يلفتون الى التغيير السكاني الحاصل في الشمال حيث نصف السكان هم من المستوطنين الذين أتوا من الاناضول منذ 1974 وأصبحوا مواطنين وبينهم وزراء ونواب. وفيما يبلغ الناتج المحلي للفرد في القسم الجنوبي للجزيرة 14 الف دولار سنوياً، لا يتعدى 4100 دولار في الشمال حيث موازنة "الدولة" والمشاريع الانشائية ممولة في قسمها الأكبر من تركيا. كما ان الجنوب يستقبل 2.22 مليون سائح في السنة بينما لا يؤم الشمال سوى 400 الف زائر 80 في المئة منهم أتراك. لقد سعت الأممالمتحدة في العامين 1992 و1993 الى حل وضعه الامين العام للأمم المتحدة يومها بطرس غالي يعطي الأتراك كامل السلطة السياسية والادارية على منطقتهم ضمن دولة فيديرالية واحدة مع اعادة قسم من الأرض الى القبارصة اليونانيين لتأمين عودة ثلث ال200 الف مهجر، لكن دنكطاش رفض ذلك كما رفض تدابير اعادة الثقة كإعادة مدينة فاروشا للقبارصة اليونانيين في مقابل اعادة فتح مطار نيقوسيا المغلق منذ 1974 لتسهيل السياحة والتجارة باتجاه الشمال. وفي الحالتين كان الإصرار على الاعتراف بسيادة "جمهورية" الشمال تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى رفض عدة مشاريع حيوية بملايين الدولارات يعرضها الاتحاد الأوروبي على قبرص شرط أن تستفيد منها المجموعتان. ويقول سفير الاتحاد الأوروبي في نيقوسيا دوناتو كياريني: "هناك طرحان، واحد كلاسيكي وهو ان السياسة تعلو كل شيء، وآخر هو الذي تمارسه أوروبا منذ الخمسينات. ويقول لنعمل ونتاجر ونتبادل سوية وسيسهل بعد ذلك حل مشاكل سياسية كانت تبدو مستعصية قبلاً، فالتعقيدات السياسية كثيرة في أوروبا مثلاً لكن حلها يصبح أسهل عندما تكون هناك مبادلات اقتصادية وثقافية واتصالات بين الشعوب. وأما الأمن الذي يشكل صلب المخاوف السياسية، فيعطى كهبة ويأتي نتيجة طبيعية عندما نتأمن هذه الشروط، خصوصاً احترام حقوق الإنسان وعدم التمييز". ويختم كياريني بالقول: "إذا كانت هناك مؤسسة تؤمن اليوم لكل المجموعات الثقافية مهما كان حجمها العددي حرية التعبير والعيش والتصرف كما تشاء فهذه المؤسسة هي البيت الأوروبي". وبانتظار تحديد حظوظ النجاح للمسعى الجديد الذي سيقوم به أنان في الخريف المقبل بدعم من مجموعة ال8 خصوصاً واشنطن، يقول كاسوليدس إن "الوضع يملي الحذر لأن هناك مخاطر ومطبات يجب عدم الوقوع فيها". ويعتبر سفير غربي في نيقوسيا "اننا ربما كنا على عتبة مبادرة جديدة بعد كوسوفو، لأن واشنطن تبدو جادة وأوروبا تبحث عن نفسها في ظل النظام الدولي الجديد الذي تقوده واشنطن، وقد تثمر هذه المعطيات حلاً وإن لم يعجب كثيرين". ويضيف انه على رغم "الدور المهيمن الواضح لواشنطن والعلاقة المميزة بينها وبين أنقرة، إلا أن المبادرة لن تكون أميركية فحسب، لأن الدول الأوروبية وبينها بريطانيا والدولة المتوسطية ليست غائبة عن الملف القبرصي. فللاتحاد الأوروبي 4 أعضاء في مجموعة ال8 وعضوان دائمان في مجلس الأمن وعضوان بين الدول الضامنة لاستقلال قبرص". وبين المخاوف التي زادت أخيراً من انطباق الكماشة التركية - الإسرائيلية على شرق المتوسط والمخاطر الأخرى التي قد ترتد على قبرص في حال وقوع أي نزاع يوناني - تركي بسبب الخلافات المزمنة بينهما، خصوصاً في بحر ايجه، يحاول المسؤولون في نيقوسيا التقليل من هذه المخاوف، متكلين في ذلك على رغبة الغرب، خصوصاً واشنطن، في تفادي أي تدهور جدي بين اثيناوانقرة العضوين في حلف شمال الأطلسي. وقد أكد ذلك وزير الدفاع الأميركي وليام كوهين أخيراً. ويقول كاسوليدس إن "اليونان وتركيا أظهرتا أنهما لا تريدان الدخول في صراع لأنه سيرتد عليهما وبالاً ويؤخر نموهما الاقتصادي لعقود عدة". وقد استبشر خيراً من عودة الحوار بينهما من خلال وزيري الخارجية التركي اسماعيل جيم واليوناني جورج باباندريو. ويضيف الوزير القبرصي انه "لا يعقل أن يعمل العالم كله وفي مقدمته أوروبا وواشنطن على ارساء الاستقرار في البلقان وتنشيط عملية السلام في الشرق الأوسط بعد مجيء حكومة ايهود باراك وان يترك نقطة سوداء بين هاتين المنطقتين، مثل ابقاء وضع قابل للانفجار بين تركيا واليونان وقبرص"