"كل ما نقع عليه اليوم من تعميمات، على مستوى التعامل مع النتاج الروائي، ليس إلا تعبيراً عن قصور في الوعي النقدي، ووهن في الأدوات النظريّة"، هكذا يردّ فواز حداد على منتقديه، معتبراً أن "حالة كسل وعقم استبدت بمعظم المشتغلين في مجال النقدالأدبي في سوريّة". ويلاحظ الروائي السوري الذي منعت روايته الجديدة في سوريّة بسبب "سوء فهمها" كما يقول، أن نظرة العرب الاختزاليّة إلى الأدب تأتي متأخرة عن الرواية المعاصرة قرابة خمسين سنة. من هو صاحب "صورة الروائي" الذي يعتبر أن مهمّته "اغضاب القارئ لا ارضاؤه"؟ كيف يكتب، وما خلفيّات رؤيته الابداعيّة؟ في العام 1991 أصدر فواز حداد روايته الاولى "موزاييك" التي تتحدث عن حب مستحيل أواخر الثلاثينات. في هذه الرواية يبرز المكان كبطل ملحمي يضم في جنباته شخصيات تتصارع مع نفسها، وتتداعى في تفاصيله. وبعد سنوات أصدر "تياترو 49" وهي رواية شخصيات بامتياز، تقوم على تقنية المستويات المتقاطعة: فرقة فنية تحاول انجاز عمل مسرحي يعبّر عن المرحلة، فتُفاجأ بمسرحية حقيقية بطلها حسني الزعيم الذي انقلب على النظام الديموقراطي العام 1949. وأخيراً أصدر فواز حداد "صورة الروائي" التي منعت في سورية، وفيها يتحدث عن انهيار المكان من خلال لعبة تعدد مستويات السرد. ونكتشف كلما تقدمنا في القراءة أن الرواة يجسّدون، في المحصلة الأخيرة، تعبيرات مختلفة للصوت نفسه. الوسط التقت الأديب السوري، وكان هذا الحوار حول تجربته: تنتمي روايتك الجديدة إلى اتجاه ساد في سوريّة خلال العقد الأخير. هل هي رواية تاريخية، أم تاريخ يكتب بأسلوب روائي، أم غير ذلك؟ - حين تصنّف الأعمال التي تشير إليها في خانة "الرواية التاريخية"، فإن ذلك يكون في معرض الذم، أو من باب التعبير عن التأفف والضجر. هذا التصنيف يقصد غالباً استثناءها من الرواية وإلحاقها بالتاريخ، حتى ان بعضهم يتساءل: هل تحتوي على خط روائي؟ وكأنها رواية محيرة الجنس ومشكوك في نسبتها. وهذه النظرة سائدة بين فقهاء الرواية الملولين والمستريحين الى المدارس والتصفيات. حين يقترب النصّ الابداعي من التاريخ، فإن الأمر يكون برأيهم من باب الهروب نحو الماضي. أنا براء من "تقنية الهروب" هذه، كما أن تلك النظرة الاختزاليّة إلى الأدب تأتي متأخرة عن الرواية المعاصرة قرابة خمسين سنة، وهي سنوات حاسمة في حركة تطور الرواية العالمية. كأن الرواية العربيّة منقطعة عن التطور في العالم، ولا يحق لها أن تكتب كما هو الأمر في العالم كله! وقد ساعدت موضة المسلسلات التلفزيونية التاريخية في طغيان تلك التنظيرات الجاهزة، فكأننا نكتب انطلاقاً من تنسيق مسبق، نال الاجماع، مع مخرجي الشاشة الصغيرة وجمهورها! المسلسلات التلفزيونية أساءت إلى الذوق العام. كما ان الرواية لا تكتسب أهميّة وجودها، ولا مزاياها أو عيوبها، من انتمائها الى مدرسة أدبية بعينها، ولا من التصنيفات المحددة والتعميمات القاطعة. فكل ما نقع عليه اليوم من تعميمات، على مستوى التعامل مع النتاج الروائي في الخطاب السائد، ليس إلا تعبيراً عن قصور في الوعي النقدي، ووهن في الأدوات النظريّة، وهما تعبير عن حالة كسل وعقم استبدت بمعظم المشتغلين في مجال النقدالأدبي في سوريّة. رواية متنوّعة بتنوّع كتابها لم تجب عن سؤال العلاقة بين رواية التسعينات والتاريخ... - الرواية التي كتبت خلال العقد المنصرم عندنا، لا تتعامل مع التاريخ وكأنه استأجرها او استعارها كي يتمظهر في حلة روائية. بل تكتب بوعي نابع من ضرورة ومن حاجة، وتكتب بأساليب متنوعة بتنوّع الروائيين الذين يعملون عليها. فالانسان فيها لا يتصدر المشهد الروائي فحسب، وانما هو محوره أيضاً، ومن خلاله يتدخّل التاريخ لتقميش الأحداث وتأطير الصراعات. إنسان اليوم حاضر في صلب التجربة الروائية السوريّة الراهنة، سواء كان البطل او الضحية. بؤرته الطبيعية في رواية تتعاطى مع التاريخ بمرونة لا تغفر للمؤرخ على الاطلاق، وتضع التاريخ في حساباتها من دون ان تقع في اسره، تكشف الصلة بين الحاضر والماضي في استمرارية تتناقض مع القطيعة الظاهريّة، توغل في تلك الذاكرة التي طمسها الانكار والتنكر. الرواية هذه فعل احياء للذاكرة، بقدر ما هي تعبير عن الرجاء والأمل، في فضاء شاسع لا يهمل الزمان والمكان. إنّها رواية ذات ارض وذاكرة وحاضر وآفاق. ما العلاقة بين تلك الرواية والتاريخ؟ - لا يقوم المشروع الابداعي الذي نتحدّث عنه، على صياغة للتاريخ بأسلوب أدبي، او اعادة كتابته من جديد... فهناك العديد من المؤرخين الذين يعملون عليه ولم ينتهوا بعد. هذه الرواية تقارب التاريخ، وتشتغل على العواطف والطبائع، ولا تخلو من نظرات اخلاقية ومفارقات كوميدية مع حس تهذيبي وتطلعات تربوية، وتضج بالخيال وتفيض بالأحلام. لماذا يتمّ حصرها إذاً في خانة التاريخ؟ من نافل القول إن روايتنا اذا صنفت في يوم ما، فلن توضع قطعاً في ثبت المراجع التاريخية. إنّها ستحاكم على أساس حصيلة الجهد الروائي الذي تنتمي إليه أولا واخيراً. ومهما كان البند الذي تدرج ضمنه، فهي رواية تُسهم في إثراء جنسها. ما هي المسافة بين الشخصيات التاريخية والشخصيات الروائية؟ وهل لشخصيات مثل حسن فكرت وعزوز في "تياترو"، او الصولاني وحسن حكمت في "موزاييك" اصل في الواقع؟ - ليس هناك، بالتأكيد، مسافة مثالية بين هؤلاء وأولئك. الروائي بطبيعته منتحل شخصيات، وكل ما يحمّله لشخصياته من أكاذيب وخيانات وبطولات وعذابات... يعكس بشكل واع أو لاواع، مباشر أو غير مباشر، مشاغله هو، وتساؤلاته هو. إنّه يكتب عن نفسه فيما هو يكتب عن تلك الشخصيات، وما يشفع له انه من فرط اندماجه في اللعبة يفقد أي حسّ بالمسافة بين الواقعي والمتخيّل، فيختفي ذلك الحاجز بين الكاتب وكائناته، انه لا يشفق عليها بقدر ما يتبصرها في دخيلته. حسني الزعيم، شكري القوتلي، فارس الخوري، وغيرهم، لا يجوز ابداً اللعب بشخصياتهم ولا مواقفهم او اقوالهم. انهم شخصيات متشكلة في الواقع وفي الحياة، ولا يمكن سوى تفهم أدوارهم وأبعادهم الحقيقية. اما الشخصيات الاخرى المتخيلة، فبعضها له اصل في الواقع، مثل صولاني في "موزاييك"، أو عزوز في "تياترو". هذا الأخير مستوحى من شخص كان أجيراً في حارتنا، وأغراه أحدهم بالعمل في المسرح، فأخذ يظهر كل ليلة في ملابس شرطي على الخشبة أقلّ من دقيقة يصفع اللص صفعة مدوية، ثم يقتاده الى الخارج. هذه الصفعة ورّطته بالمشاركة في تمويل مسرحية، تبيّن بعد شهر من العرض المتواصل انها خاسرة. نعم حسن فكرت، حبيب رزق الله، كسّوب، لهم اشباههم في الواقع. العلاقة بين الحقيقي والمتخيل علاقة معقدة جداً تتمّ في عمق المؤلف ولاوعيه، وكل شخصية تكاد تكون المؤلف نفسه. الروائي قد يقود شخصياته بصرامة وبقبضة من حديد، لكنّ تلك الشخصيات تسيطر عليه كما يسيطر عليها. واذا كانت قبضته في البداية قوية، فمع المضي في العمل تصبح مرتعشة ومتوترة الى اقصى حد، ويدخل الطرفان في صراع لا ينجوان منه. ان ميول المؤلف التسلطية تواجهها شخصيات اصبح لها كينونتها ومبرراتها. وأنا شخصياً لا محل في أدبي للشخصيات الجاهزة والنمطية. الشخصية تتشكل في أتون العمل الروائي، اما من يبحث عن مطابقة ما فلن يجد سوى تشويه أو نقصان أو حشو زائد. المكان في "موازييك" يبدو أكثر من رقعة تتحرك فوقها الشخصيات. إنه مكان حقيقي، يلعب دوراً في الرواية... - في "موازييك" المكان هو بطل الرواية. عندما تكون مشبعاً بالمكان، المكان نفسه يكافئك ويهدي إليك تفاصيله وأسراره، ويطلعك على روحه الخفية ومخزوناته، بل يوظف نفسه في خدمة رؤيتك. وفي الرواية المذكورة لم يختصر المكان إلى الخلفية، بل احتل الصدارة، وساعدني في ملاحقة معالم وخطوط خشيت ان تفلت مني. كشف لي أشياء تعتمل في داخلي، ومكنونات حياتي التي عشتها وتلك التي لم اعشها، ذكرياتي والذكريات التي لم تكن لي. المكان زاحمني وسرقني : في بعض الاحيان يُخيل لي انني لم افعل في "موازييك" سوى اطلاق سراحه من داخلي. الأمر مختلف في روايتك الثانية... - في "تياترو" هناك شخصيات تلعب على اكثر من مسرح، مسرح الواقع والماضي، مسرح التمثيل والغناء، ومسرح السياسة. يطغى المسرح السياسي، في روايتي الثانية، على المسارح الاخرى، ويغتصبها. هذا المسرح كانت له قوانينه وتجاوزاته ومساوماته، وقد هيمن حتى على الهوى والحلم. الروائي لا يختار ادواته مسبقاً، وانما يستعملها حسب حاجته، وحين لا يجدها فلا بد من أن يخترعها. كيف ترى علاقة الرواية بالسياسة؟ - ربما كان عدم التمييز بين الأحداث السياسية والايديولوجيا، من نتائج مرحلة ازدهرت فيها الروايات الدعائية والنضالية التي تتمحور حول البطل الإيجابي. ومن جرّاء تلك المرحلة، عمّ الذعر من كل ما يمت بصلة الى السياسة، وصار الاقتراب منها مخاطرة... والتعالي عنها فضيلة! الأسلوب التعليمي، أثقل الرواية العربيّة لدى الجيل السابق، وكان ردّ الفعل طبيعياً، من أجل الحفاظ على اناقة العمل الأدبي، وحمايته من أعباء السياسة التي لم تعد تعني سوى مقتل الرواية. أما أنا فأعتقد أن الحظر المسبق للجانب السياسي لا معنى له. على الروائي أن يتناول ما طاب له، تصريحاً أو تلميحاً، شرط التقيّد بما تمليه عليه الضرورة الفنيّة. وليس هناك من مبرر لاستبدال محظورات بمحظورات أخرى! السياسة مادة خام في "صورة الروائي" نشهد انتقالاً بين الخاص والعام، بين السياسي والهاجس الروائي... - "صورة الروائي" فيها أكثر من رواية. المحور الرئيسي رواية ذاتية محضة، بل وشخصية، عن عالم الكتابة وهواجسها. وهناك رواية اخرى تقبع في الخلفية وتفرض نفسها على عالم الروائي، ومن خلالها احتل الحدث السياسي شقاً واسعاً وضاغطاً. كان الارضية التي تدور عليها الاحداث، والفضاء الذي تحلق فيه الشخصيات، والهاوية التي تتحطم فيها الاحلام. هل اتخلى عن السياسي ام الذاتي؟ لقد كتبتهما معاً. لم يفهمني بعض النقاد، إذ أخذوا علي طغيان الحدث السياسي. لكنّ الحدث هنا مجرد مادة خام عملت عليها أسوة بأي عنصر آخر. صوّرت المشهد من جانبيه، كما يعيش "الروائي" الحلم والأمل في ظل انهيار المكان ونهاية الزمان. هل هذا ما عقّد العلاقة مع الرقابة؟ - "صورة الروائي" تأخر صدورها ثلاثة اعوام، لأنها لم تفهم بشقيها المتلازمين. الرقيب الذي منعها فرض عليها تفسيراً مجتزأً. والرقابة تأتي، عموماً، من خارج العمل الأدبي، ولا علاقة لها به. إنّها تفرض على العمل قراءة أحاديّة، تصادر حقّ القارئ وعمل المؤلف. هل تجد صعوبة في دخول مشروع روائي جديد؟ - بداية اي عمل عسيرة جدا، ومن عمل الى عمل تصبح اصعب وأشد وطأة. لكل رواية فترة مخاض لا تطاق، تبدأ بالتطهّر من التجربة السابقة وتأثيراتها. العمل المنجز يشكل اغراء سهلاً، وجاذبيته من الصعوبة مقاومتها. بقيت واقعاً تحت تأثير "موازييك" لمدة سنة على الأقلّ، إلى أن بدأت أجواء "تياترو" وشخصياتها وتركيبتها بالاستيلاء علي. وكان من الممكن ان اكتب على شاكلة العمل السابق وأرضي القراء الذين احبوه. ولكن مهمّتي ليست ارضاء القراء بل اغضابهم! أعتقد ان اي روائي لا يستطيع كتابة عمل جيد، اذا لم يشكل هذا العمل حدثاً في حياته. والا كيف ستشكل الرواية حدثاً ما في نفس القارئ؟