إلى أواخر ستينات القرن الماضي، يعود وعيي المبكر بمبنى"التياترو الكبير". دأبتُ، شأنَ تلامذة المدارس الحكوميّة عشيّة افتتاح الموسم الدراسي، على فرش كتبي المستعملة على رصيف مجمع اللعازاريّة، الموازي للتياترو، وبيعها بسعر يمكّنني من مساعدة أبي في شراء كتب سنتي الدراسيّة المقبلة. بدلاً من أن يحضّني المال على تقدير نعمة العمل، اعتبرته قيمة تنعُّمٍ بمزيدٍ من متعة السينما. ارتدت كل صالات"البلد"باستثناء"التياترو الكبير". كنت مأخوذاً، أكثر، برثاثة هذه الصالة في مظهرها المتهالك. على واجهتها، إعلان مرسوم بألوان فاقعة ومخطط باليد لعرض متواصل من أفلام تجارية متعددة الجنسيات بين أبطالها نجمات إغراء من تركيا. خارج بوابتها، انتشرت بسطات السلع الرخيصة، نثر بائعٌ فوق إحداها طبعات مهترئة من مجلات"الكاميرا"و"ألف ليلة"و"حواء"، وروايات حاتم خوري وبيار روفايل، وقصص إباحية، رديئة التنضيد مكتوبة بالعربية من دون ذكرٍ لاسم مؤلّف أو دار نشر، على أغلفتها صور خلاعية باهتة منحولة من مجلات أجنبية. هكذا عرفت سينما"التياترو الكبير"في انحطاطها، جزءاً من انحطاط أشمل عمّ"البلد"وأحاله عالماً يخاصم ماضيه، لا يستعيده إلاّ في لمْحَتيْ عين وذاكرة. في زمن انهيار صالات السينما في وسط متراجع لمدينة راحت تفتح صفحة جديدة في شارع الحمرا، بدت"التياترو الكبير"صالة ساقطة سيّئة السمعة، أشبه حالاً بسينما"فينوس"المتحوّلة آنذاك وكراً للمطلوبين وهدفاً لحملات دهم مفاجئة تتولاها شرطة الآداب وتنتهي بختم الصالة بالشمع الأحمر. لا أدري إن كانت نظرتي إلى"التياترو الكبير"ستتغيّر لو أنني قصدتها قبل الحرب. أحسبُ أنها من الداخل لم تكن أقلّ بؤساً من منظرها الخارجي. ربما أثارني بؤس مآلها أكثر من بريق ماضيها. بين 1975 و1977، شهدت"حرب السنتين"خطف المئات على الحواجز الطيارة. كنت أحد المخطوفين، لكن إلى قلب"التياترو الكبير"المفتوح لعرض الأفلام في عتمة القصف المتبادل بين شرق بيروت وغربها. بعد 1977، لم يتوقّف إطلاق النار. توقفت كل الدور إلاّ"التياترو الكبير". وقعت في قبضة مقاتلي الأحياء الإسلاميّة المجاورة. شغلّوها أو تغاضوا عن تشغيلها بفرض الأتاوات. نسفوا جداراً كان يفصل بوابتها الخلفيّة عن شارع ضيّق تحوّل بعد إزالة الجدار وتحصينه بأكياس الرمل معبراً آمناً لروادها. تحت القصف ونيران القناصة، سعينا إلى ملاذنا الدافئ وحرارته المنبعثة من شاشة بالية ومكبّرات صوت ممزقّة تبثّ أشرطة بورنو مهرّبة من اليونان وهولندا إلى وسط بيروت. خارج التياترو، أقفرت الشوارع. داخل التياترو، غصّت القاعة بالمسلّحين والطلاب والعجزة. في العام 1983، عدت إليها مساعد مخرج لجوسلين صعب في أوّل أفلامها الروائيّة"حياة معلّقة". صوّرنا مشهداً في خرائبها. من التأمل في بقايا ستائرها ومقاعدها وأعمدتها الشاهقة وردهاتها الرحبة، لمست أنّ لها تاريخاً لا أعرفه. أخبرني معمّرون أفنوا حياتهم في السينما والمسرح قصصاً مشوّقة عن مسرحيات أحيتها فرقة"الكوميدي فرانسيز"وحفلات لأم كلثوم وعبد الوهاب. وحين عكفت على وضع كتاب عن صالات ساحة البرج، التقيت عدداً من مؤسسي دور السينما ومحرّكي آلات العرض وقدامى مدمني الأفلام. سمعت منهم روايات متناقضة عن أصل التياترو وفصلها. نعم جاءت أم كلثوم إلى بيروت، قالوا، غير أنها لم تغن في التياترو. وعبد الوهاب؟ نعم ولا. حتّى أصحاب الصالة اختلفت الآراء حولهم. المهم في حكاية"التياترو الكبير"ليس التباس الأسماء وإنما صعوبة التحقّق من شخصياتها وأحداثها. وفي محصلة الأحاديث التي جمعتها من محرّكي آلات العرض آنذاك، أخفقت في تبديد الإحساس أن تاريخ"التياترو الكبير"كان أطول وألهب خيالاً في خبريات الناس منه في تاريخ الصالة وعمرها المديد. حاولت العثور على بقايا ما خلف كواليس المسرح. لم أجد أثراً لعبد الوهاب ولا لأم كلثوم. لا شيء أكثر من منشورات لعرض تحييه الفنانة نادية شمعون. وإذ خرجت من المبنى لفتتني عبارة محفورة بالفرنسيّة عند المدخل وفي أعلى بابه الحديد:"ألف ليلة وليلة". يزيّن لي أن التياترو عاش مجده الأعظم في فترة الانتداب الفرنسي. ومع ندرة السجلات المحليّة وعدم توافر الإمكانات المادية للبحث والتنقيب في المصادر، أرى أن الذاكرة المتخيّلة والمبالغ في سحرها تظلّ أجمل من الذاكرة الموثقة والمصنفة في اعتبارها تأريخاً لا يقبل التأويل ولا التشكيك في دقة وقائعه. عندما طرحت عليّ المساهمة في ملف يتناول"التياترو الكبير"، قيل لي إن"سوليدير"تزمع إنشاء فندق محل المسرح وتروّج لفعلتها هذه بالادعاء أن المبنى كان يحوي فندقاً في الأصل. قبل ذلك، شيّدت"سوليدير"أحدث مجمعاتها التجارية وروجت له أيضاً بحملة دعائية تفيد عن قيامه محلّ سوقي الطويلة وأيّاس وبركة العنتبلي. لا أفهم لماذا تستبق"سوليدير"معارضيها بمصادرة انتقاداتهم وحججهم وكأنها ترد عن نفسها ذنباً لا يغتفر. فلتفعل ما شاءت فعله. الأرض أرضها، والمال مالها. ما نفع اللعب على وتر ليموناضة العنتبلي وقشطليته؟ الكلّ ينظر إلى التاريخ بعين ما يحب."سوليدير"ترى التياترو فندقاً لأنها ببساطة، تحب أن يكون فندقاً. أما أنا فلا أحبه في عروض ال"كوميدي فرانسيز"ولا في حفلات عبدالوهاب. أحبه في انحطاطه.