تثير رواية الكاتب السوري فواز حداد الجديدة "الضغينة والهوى" منشورات دار كنعان - دمشق، مسألة العلاقة بين الرواية كجنس أدبي وبين الوثيقة، فهذا الكاتب الشغوف بأحداث التاريخ السوري عموماً، وتاريخ الوقائع السياسية في دمشق خصوصاً، يقدم في هذه الرواية الجديدة، إضاءات لموضوعة كبرى، شغلت الحياة السياسية في منطقتنا في فترة عصيبة ومهمة من تاريخنا: إنها مسألة العلاقة مع الغرب، ومبعوثيه وديبلوماسييه، بل وجواسيسه، إذ هي تتصدى لإعادة رسم حركة الغرب الخفية وغير المعلنة، والتي كثيراً ما تموهت خلف يافطات ديبلوماسية أو تجارية، وكانت وراء أحداث كبرى، عاشتها منطقتنا ذات يوم، ولا تزال آثارها باقية في الواقع الراهن. "الضغينة والهوى" تختار مسرحها في بيروتودمشق على السواء، بل هي تكاد تحصر هذا المسرح في أماكن قليلة يجتمع فيها الجواسيس، أو من يفترض أنهم جواسيس، يبحثون في الخفاء عن أسرار المشرق العربي، وعن ثرواته الدفينة. شخصيات هذه الرواية لا يهم أن تكون حقيقية أو مفترضة، لأنها في الحالين شديدة الإلتصاق بالوقائع التاريخية التي جرت هنا ذات يوم، والكاتب يرى حركة هؤلاء الأشخاص مقرونة بالحركة السياسية في أوساط النخبة السياسية الحاكمة في دمشق في تلك الأيام، والكاتب يقدم أحداث روايته على ألسنة هذه الشخصيات، التي تتناوب على رسم أجزاء من لوحة واقعية، تزدحم في تفاصيلها رؤى ووجهات نظر، تماماً مثلما تزدحم أهواء وطبائع. وقارئ رواية فواز حداد سوف يتوقف بالتأكيد عند سؤال مهم وضروري، تطرحه عليه الرواية: هل تكفي الوقائع التاريخية لخلق عمل روائي بكل ما تحمله كلمة الرواية من معانٍ، وبكل ما تشترطه من مواصفات فنية وأدبية؟ نقول ذلك ونحن نلحظ أن السمة الأبرز في "الضغينة والهوى"، أنها رواية أحداث ووقائع، أكثر منها رواية شخصيات، لا بل ان الشخصيات - بما فيها بالتأكيد الشخصيات الرئيسية - تكاد تكون هامشية، ولا تمثل إلا وجوداً ثانوياً إذا قيست بالأحداث ذاتها، فالكاتب على مدار الرواية كلها، لا يبدو مهموماً بتقديم عوالم داخلية لأبطاله، قدر إنشغاله بحركتهم في مساراتهم السياسية، تلك المسارات التي تحمل طابع السرّية والغموض اللذين توحي بهما وتحرّض الذهن على استحضارهما أجواء التجسس، وما تحمله من ملامح بوليسية. فخلال أحداث الرواية كلها تبدو الخلفيات الاجتماعية والنفسية الخاصة بكل واحدة من هذه الشخصيات في مقام ثانوي، لا يكاد يؤثر في طبيعة هذه الشخصية ولا يسهم من ثمّ في تحديد حركتها أو أشكال تصرّفها في الحياة، وإن وجد ما يناقض هذا القول فهو في حدود ضئيلة، لا تكاد تكفي لخلق صورة شاملة يمكن وصفها بأنها صورة حياة، كما هو مأمول من الرواية عادة، خصوصاً أن أبطال الرواية الأساسيين هم من الأجانب المقيمين في بلادنا، والذين هم بحكم هذه الصفة يقعون خارج الإطار الاجتماعي، ما يفترض بالضرورة تركيز ضوء مضاعف على حيواتهم وما خلفها من ماضٍ يمكن ان يسهم في تحديد رؤاهم وكيفيات نظرهم إلى العالم والحياة. أعتقد ان جذر هذه المسألة يكمن بالضبط في ركون الكاتب إلى فكرة كتابة رواية من الوثائق السياسية، أو إذا شئنا الدقة أكثر، تحويل الوثائق السياسية إلى عمل روائي، وهي فكرة مشروعة، بل ومطلوبة إذا تمكن الكاتب من زج ووقائع الوثيقة السياسية في نبض الحياة اليومية، وإذا تمكن بالذات من رسم ملامح شخصيات من لحم ودم، وهو قد فعل ذلك في روايتين سابقتين "موزاييك دمشق" و"التياترو"، بقدر ما رأينا في الروايتين من دقة في رسم الشخصيات وتقديم عوالمها الخاصة. نقول ذلك، ولا نقصد بالتأكيد التقليل من أهمية هذا العمل الروائي، الذي وإن شابته هذه النقيصة، ظل يحمل إلى جانبها سردية مشوّقة، جاءت أقرب الى روح الرواية البوليسية، التي تشغلها الأحداث السريعة، بما فيها من حركة وتغيرات، أكثر من انشغالها بعوالم خاصة لأبطالها. "الضغينة والهوى" لفواز حداد، رواية مسكونة بالبحث عن صورة الآخر، في تاريخنا وفي حياتنا على حدٍ سواء، وهي في هذا الجانب بالذات نجحت في إلقاء ضوء على الآخر بوصفه نماذج متعددة ومتنوعة المواقف، وليست نموذجاً واحداً معادياً بالضرورة، وهي تمكنت في الوقت ذاته من استعادة أزمان كانت المقدمة الأساس في علاقة الغرب ببلادنا، وفي علاقتنا الشائكة بالغرب.