تعرض رفيق الحريري رئيس الحكومة في السنوات الست الأخيرة من عهد الرئيس الياس الهراوي منذ انتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية وحتى اليوم، لسلسلة اجراءات ومواقف وقرارات تمس شخصه وسمعته وتضر بوضعه ودوره السياسيين. وقد ظهر ذلك من خلال المعطيات الآتية: 1- تعمُّد القريبين من الرئيس لحود خلال الفترة الواقعة بين انتخابه وبين تسلمه سلطاته الدستورية اعطاء الرأي العام انطباعاً بأن العلاقة بين الرئيس لحود والرئيس الحريري ليست جيدة، وان الاول يعيش مناخاً غير مؤات للثاني وان ما سيفعله هو نوع من البحث عن الاخطاء التي ارتكبها الحريري وفريقه في السلطة، واعداد مضبطة اتهام بها تمهيداً لاستعمالها في الوقت المناسب. وكان الاعلام اللبناني الوسيلة التي اعتمدت لتعميم هذا الانطباع. 2- تعمد الفريق المحسوب على الرئيس الجديد للجمهورية مباشرة ومداورة تعميم مواقف ملتبسة دستورياً تتعلق بالاستشارات النيابية التي يفترض ان يجريها بعد تسلمه سلطاته الدستورية، من أجل تكليف شخصية سياسية تأليف الحكومة الاولى للعهد من شأنها حشر الرئيس الحريري المرجح يومها من الجميع في الداخل والخارج، ليكون على رأس الحكومة. وأبرز هذه المواقف امكان ترك من يشاء من النواب حرية اختيار الرئيس العتيد للحكومة لرئيس الجمهورية، الأمر الذي يجعل تكليف الحريري تأليف هذه الحكومة رهنا باكثرية نيابية غير كبيرة او غير ساحقة وبقرار من رئيس الجمهورية، والذي يجعله ايضاً مديناً ببقائه في الرئاسة الثالثة للرئاسة الاولى ومضطراً ثانيا للتجاوب مع سياساتها ومواقفها. لكن المطلعين يختلفون هنا على الهدف من تعمد الفريق المحسوب على الرئيس لحود تعميم هذه المواقف الملتبسة دستورياً، فبعضهم يرجح ان يكون تقليص حجم الحريري الذي فاق حجم الدولة بكل اركانها في العهد الماضي واستعمال طاقاته وامكاناته في الحكومة الجديدة في المواقع التي ترى رئاسة الدولة وحلفاؤها في الداخل والخارج أنها مفيدة ومنعه من توظيف كل ذلك لتنفيذ سياسات أو مشاريع تفيده أو تفيد جهات معينة، ولا تكون في مصلحة جهات أخرى محلية أو في مصلحة الدولة كما يراها رعاتها الاقليميون وحلفاؤهم. وبعضهم الآخر يرجح ان يكون الهدف من كل ذلك إبعاد الحريري عن السلطة انطلاقاً من نظرية سادت فترة طويلة لدى أوساط لبنانية واقليمية نافذة في لبنان تفيد ان استمراره في السلطة يسهل تنفيذ مشاريع محلية واقليمية مؤذية للبنان ولراعي اوضاعه اقليمياً. وأياً كان على حق في ترجيحاته فإن النتيجة واحدة، إذ غادر الحريري السلطة سواء مختاراً او بعد وقوعه في فخ منصوب له بإحكام وبذلك افسح المجال للعهد الجديد للتحرك بعيداً من المخاطر الحريرية. 3- تعمد الحكومة الأولى للعهد الجديد والعهد نفسه فكفكة الدولة التي اقامها الحريري في معظم المواقع الادارية المهمة وذلك في محاولتها غير الكاملة لإصلاح الادارة. 4- اقدام الحكومة على احالة تقرير لديوان المحاسبة عما سماه وزير الداخلية ميشال المر "فضيحة" البلديات. واقدام هذا الديوان على اصدار تقرير في الموضوع "يجرم" الحريري والوزراء السابقين فؤاد السنيورة وباسم السبع وآغوب دمرجيان، واحالة مجلس الوزراء هذا التقرير الى النيابة العامة التمييزية الأمر الذي يعني فتح الباب امام التحقيق مع هؤلاء واحتمال ملاحقتهم قضائياً. ما هو الهدف من هذا الكلام الآن؟ ليس الهدف طبعاً الجزم بوجود خطة مبرمجة للنيل من الحريري او للقضاء عليه سياسياً، علماً انها قد تكون موجودة عند بعض المخططين الاساسيين. وليس طبعاً اقناع الرأي العام بأنه يتعرض للاضطهاد من الحكم والحكومة الحاليين ومن راعيهما الاقليمي من دون ان يرتكب ذنباً سياسياً كبيراً أو هفوة داخلية. علماً أن الاجتزاء في المحاسبة يثير انطباعاً بوجود شيء من الاضطهاد، خصوصاً في ظل معرفة اللبنانيين بأن عناوين الفساد في لبنان كثيرة وكبيرة وان معظمها صحيح وقد يبقى محمياً لاعتبارات متنوعة. بل الهدف هو الاشارة الى ان ما جرى يجب ان ألا يفاجئ اللبنانيين سواء كانوا مؤيدين للحريري أو معارضين. ويجب ان لا يفاجئ تحديداً الرئيس الحريري. لأن تاريخ العلاقة بينه وبين الرئيس لحود عندما كان قائداً للجيش وبين المطبخ السياسي - العسكري له لم يكن ايجابياً على الاطلاق في محصلته، وللدلالة على ذلك تمكن الاشارة الى معركة رئاسة الجمهورية العام 1995 التي خاضها الحريري بكل "أسلحته" لمنع وصول العماد لحود قائد الجيش والرئيس الحالي الى سدة الرئاسة الاولى، ولو أدى ذلك الى تمديد ولاية الرئيس الهراوي التي كان لها أسوأ الأثر على الوضع اللبناني. وتمكن الاشارة ايضاً الى المعركة التي خاضتها المؤسسة العسكرية بواسطة مطبخها السياسي - العسكري ضد الحريري ورمت إلى تشويه صورته وإلى تحميله وغيره مسؤولية التردي في الاوضاع الداخلية المتنوعة، وحتى الى التشكيك في دوافعه الوطنية والسياسية والى اعتباره اداة لأعداء لبنان وسورية مهمتها التمهيد ميدانياً لتنفيذ مشاريعهم التي لا تلاقي استحساناً لدى أوساط محلية واقليمية معنية بلبنان. وتمكن الاشارة أيضاً الى معركة "الترقيات" التي خسرها الحريري بعد ذلك. ويمكن الاشارة ثالثاً إلى معركة "انتخابات الاتحاد العمالي العام التي أدت الى انقسامه، علماً ان هذا الانقسام لم يطل كثيراً لأسباب معروفة. وتمكن الاشارة أخيراً إلى الاتهامات المتبادلة وان في صورة غير مباشرة في تلك المرحلة بين الحريري والمؤسسة العسكرية. فالاول اتهم الثانية بانها تحاول عسكرة البلد واقامة نظام مخابراتي فيه. والثانية اتهمت الاول بالعمل لاستيعاب المؤسسة العسكرية أو للسيطرة عليها بعد نجاحه في السيطرة على رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء ورئاسة الجمهورية في ذلك الوقت. طبعاً حاول الحريري منذ منتصف السنة الماضية وقبل الانتخابات الرئاسية ببضعة اشهر تطبيع علاقاته مع المؤسسة العسكرية وقائدها، خصوصاً عندما علم من الجهات المعنية في الداخل والخارج ان حظوظ قائدها في الوصول الى رئاسة الجمهورية قوية جداً. فالتقاه وأوحى ان تطبيعاً حصل بينهما ولم يمانع العماد لحود بذلك. لا بل انه جاراه في لعبة التطبيع. لكن الذي في القلب بقي في القلب، وهذا ما قد يكون غفل عنه الحريري الامر الذي تسبب له بصدمات متلاحقة، لم يكن يتصور ان الامور قد تبلغ حد التعرض له شخصياً ومحاولة ازالته من المعادلة السياسية اللبنانية ليس بالسياسة، بل بوسائل اخرى تمس كرامته وسمعته. هل ان ما يتعرض له الرئيس الحريري هو جزء من سياسة اصلاحية هدفها القضاء على الفساد الذي يعتبره كثيرون مسؤولاً عنه او هو سياسة انتقاميه منه؟ لا أحد يستطيع ان ينكر ان الحريري كان يريد بناء دولة عصرية لكنه عجز عن ذلك لأسباب محلية وخارجية. لكنه بدلاً من ان يتخلى عن السلطة أو عن العمل السياسي ريثما تتوافر ظروف افضل لمشروعه، انخرط في اللعبة السياسية القائمة المفعمة بالفساد وتفوق على اطرافها بقدراته وامكاناته وحاول تنفيذ مشروعه لكن بطريقة ملتوية، إذا جاز التعبير، أي من خلال خلق ما سمي ادارات موازية لتعويض عجز الادارة العامة ومن خلال السكوت على "اعمال" الآخرين ليسمحوا له بإقامة مشاريعه العامة وان اخذوا منها حصة. ولا احد يستطيع ان يتجاهل ضرورة محاسبة الحريري، لكن اقتصار المحاسبة عليه وحده على رغم ان في الدولة والبلاد من يفوقونه، خصوصاً في مجال الارتكاب والهدر والصفقات والاثراء غير المشروع، تجعل الناس، محبذين أو معارضين، يميلون الى الاقتناع بأنه مستهدف وبأن "الفساد" هو مجرد اداة للنيل منه. لكن ما يحير الناس حالياً هو جهلهم الاسباب الفعلية وراء محاولة القضاء على الحريري. وهل هي محلية، أم لها ابعاد وخلفيات اقليمية؟ وما يقلقهم هو ان تؤدي المحاولة الى مس النظام اللبناني الديموقراطي في جوهره، علماً ان ديموقراطيته تفرغ وبصورة منهجية مع الوقت. وما يقلقهم ايضاً هو ان يعزز ما يجري الجو المذهبي المشحون، إذ على رغم اتفاق الطائف والمواقع التي حددها لكل من رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة، يرى اللبنانيون على الاقل حتى الآن ان المساءلة تقتصر على موقع رئاسة الحكومة في حين ان المواقع الاخرى ليست مقصرة في مجال الفساد والافساد، خصوصاً في العهد الماضي