ليست أزمة النشر العربي بالنسبة إلى فخري كريم أزمة قراءة، بل أزمة توزيع وحريّة تعبير. فهو يعتبر أن القارئ لم تعد له مرجعية تخفف عنه عبء الحصار الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يعيش. ويذكّر هذا المثقّف والسياسي العراقي المقيم في دمشق ان "عشرات المؤسسات الثقافية التي قامت بأدوار ريادية في الخمسينات والستينات، تراجعت اليوم في أجواء المزاحمة الرأسمالية. ولا شكّ في ان انتقال العمل الثقافي من نشاط تنويري الى فعالية تجارية، لعب دوراً في تعميق هذه الازمة". هنا حوار معه عشيّة افتتاح مركزه الجديد في دمشق، تمهيداً للتوسّع إلى القاهرةوبيروت. حين أطلق فخري كريم "دار المدى" قبل سنوات من دمشق، لم يكن أحد يتصوّر أن تلك الدار ستتحوّل مركز استقطاب للاسماء الرائدة والعناوين الأساسيّة والمراهنات الجريئة. فمعظم نسخ الطبعة الأولى من اصداراتها ينفد في الأشهر الأولى، والقرّاء في شتّى العواصم العربيّة يتدافعون على جناح "المدى" لشراء كتب أدونيس والماغوط وسعدي يوسف وفؤاد التكرلي وصادق جلال العظم وغيرهم، إضافة إلى الأعمال المترجمة من أمهات الأدب العالمي. وهذا الكاتب والمثقّف العراقي الذي يشرف على هذا المشروع بوسعه اليوم أن يظهر علامات الرضى، مع أن المغامرة الفريدة التي أطلقها ما زالت في بداياتها. فهو يراهن اليوم على تكوين شبكة عربيّة لتوزيع الكتاب. وقد التقيناه في مناسبة الافتتاح الوشيك لمركز دمشق الذي سيكون الحلقة الأولى من ذلك المشروع. انطلق مشروع "المدى" قبل خمس سنوات، في ظل تراجع حركة النشر وانحسارها، وتفاقم أزمة الكتاب والثقافة والفكر في العالم العربي. ما الذي يطمح اليه المشروع؟ - يزداد اقتناعي يوماً بعد آخر، منذ اطلاق مغامرة "دار المدى"، بأن الذي تراجع فعلاً هو المشاريع الثقافية السائدة، اضافة الى ترجمة الكتب بصيغ واساليب اثارت الفوضى في عالم النشر، وحركة الاقبال على الكتب. أما الثقافة فحاضرة في حياتنا أكثر من أي وقت مضى، والكتاب الفكري والثقافي الذي يلامس روح الانسان ويداعب هواجسه له مكانة مرموقة، ويعرف حركة اقبال متزايدة. لكن المشكلة أن هذا الكتاب محاصر من قبل الثقافة السائدة، ما يفسّر حالة التراجع والانحسار. كما أن سياسة النشر العشوائيّة التي لا تستند إلى رؤيا طويلة النفس، وأسس فكريّة متينة، ومشروع حضاري متماسك، هي التي فرّطت بثقة الجمهور، واثارت الشكوك والريبة في نفس القارئ الذي يعاني من فقدان المرجعية الثقافية والفكرية. وقد تفاقمت أزمة الكتاب بحكم الصعوبات المعيشيّة التي حاصرت الناس، وبسبب غياب الحياة الديموقراطية... هكذا تعددت الحواجز بين القرّاء ومستهلكي الثقافة عموماً من جهة، ومنتجيها من مبدعين وناشرين، من الجهة الأخرى. واتخذت الأزمة اشكالاً عدّة، منها اغراق السوق بعشرات آلاف العناوين، وطغيان الطابع الغيبي على الاصدارات، وتشديد الرقابة على الكتاب، وحصر امكانات توزيعه على الصعيد العربي، بل احياناً على الصعيد المحلي في بلد الاصدار. كما لاحظنا هنا وهناك ميلاً إلى التعامل مع مواد الثقافة والفنون، كما يتمّ التعامل مع السلع الاستهلاكيّة، من صناعة الاحذية إلى الصناعات الكمالية، من حيث الجمرك والمكوث والروتين. فقد تم التشديد على اجراءات تصدير الكتاب واستيراده، وعومل كأي بضاعة اخرى. واذا أضفنا القيود الرقابيّة إلى الأعباء الاقتصاديّة، سنفهم سبب انحسار الكتاب، واتساع الهوّة بينه وبين المتلقي. لقد تاه القارئ، ولم تعد له مرجعية تخفف عنه عبء هذه العناصر السلبية. واقول بأسف ان عشرات المؤسسات الثقافية التي قامت بأدوار ريادية في الخمسينات والستينات، وتعاملت مع النشر كمشروع تنويري، فاكتسبت هوية خاصة واحتلت مكانة مهمة بين القراء، تراجعت اليوم في أجواء المزاحمة الرأسمالية. ولا شكّ في ان انتقال العمل الثقافي من نشاط تنويري الى فعالية تجارية، لعب دوراً في تعميق هذه الازمة. كيف يمكن للمدى ان تتجاوز هذا الواقع الشائك؟ - إنطلقنا من اقتناع بضرورة تأسيس مشروع ثقافي على مراحل، كل منها يدفع للانتقال إلى الاخرى، على ان تكون منذ البداية واضحة الملامح. ومن هنا بدأنا باصدار المجلة كمبشّر، وكمعبِّر عن المشروع، بما حددته لنفسها من هوية ثقافية تنويرية مستقلة، تعتمد على تمويل ذاتي. ثم كانت الخطوة الثانية المتمثلة باطلاق سلاسل تراكم مكتبة الجيل الجديد بالمعارف المتنوعة، إذ أخذت "المدى" على نفسها منذ البداية أن تخفّف على القارئ عبء البحث المضني عما ينبغي ان يقرأه وسط عشرات آلاف العناوين. وحرصنا على أن يتماشى الشكل والمضمون مع التطورات العاصفة التي فرضت نفسها على الكتاب، ووسائل الثقافة والفنون، وبسعر يقترب قدر الامكان من كلفة انتاج الكتاب. هكذا اطلقت "سلسلة مكتبة نوبل" التي يفترض ان تضم كل عيون الادب العالمي المتمثل في اعمال الحائزين جائزة نوبل للآداب. ولاكمال هذه السلسلة بالاعمال التي غمط حق اصحابها في "نوبل" وغيرها، او الكلاسيكيات التي سبقت "نوبل" رأت "المدى" ان تستكمل مشروعها هذا بسلسلة اخرى هي "اعمال خالدة" ثم تأتي بعد ذلك السلاسل الاخرى التي تغطي رائدات الكتابة، وهي سلسلة تعنى بابراز الدور التنويري الكبير الذي لعبته كاتبات ومناضلات ممن تصدين لقضية المرأة في النصف الثاني من القرن الماضي بجرأة وبراعة وابداع. وهناك سلاسل تعالج قضايا الفكر والسياسة والسيرة والشعر والفنون التشكيليية والى آخر ذلك من ميادين الثقافة والمعرفة الانسانية، إضافة إلى ديوان الشعر العربي، و"الموسوعة الثقافية". هذه المرحلة الاولى من المشروع التي يمكن ان اسميها "التأسيس". والمراحل اللاحقة؟ - المرحلة الثانية من المشروع، يجري فيها استكمال السلاسل وتوسيع ميادين النشر. وتتميز بافتتاح المراكز الرئيسية الثلاثة ل "المدى"، والتي جرى الاعلان عنها في بداية المشروع، وهي مركز دمشق الذي يفتتح الآن، ثم مركز القاهرة ومركز بيروت. وتحرص الدار على أن تتضمن هذه المراكز فعاليات ثقافية، محورها الأساسي معرض دائم للكتاب، وصالة متعددة الاغراض بوسعها أن تكون "غاليري" للفنون أساساً، وكذلك تصلح لطاولات مستديرة، ومحاضرات وعروض المسرح التجريبي، وتحتضن طموحات ابداعيّة شتّى، وتتسع لمختلف الفنانين والمثقفين. ما أهمية هذه المراكز إذا كانت مجرّد فروع للدار؟ - هذه المراكز ليست مجرّد فروع، بل تكمن أهميتها الأساسية في كونها حلقات أساسية في مشروع متكامل، يهدف إلى تجاوز العوائق والحدود، واقامة شبكة توزيع مباشر للكتاب على مستوى العالم العربي. التوزيع المباشر للكتاب كيف ذلك؟ - إخترنا توزيع المراكز على المدن والبلدان الأكثر نشاطاً على مستوى صناعة الكتاب والنشر والتوزيع والحركة الثقافيّة عموماً. وسيؤمّن كل مركز من هذه المراكز، توزيع جميع اصدارات الدار من جهة، كما سيضخ اصدارات البلد المضيف إلى المراكز العربيّة الاخرى، سواء بالتوزيع على المكتبات، او عبر التبادل مع دور النشر في كلّ بلد من هذه البلدان. وطموحنا أن تتسع الشبكة، وتتضافر جهودنا مع جهود شركاء محتملين، بحيث تتعاون معنا مراكز أخرى، فتنتفح أمامنا منافذ صغيرة في البلدان الاخرى. هكذا يصبح بوسع "دار المدى" أن تؤمّن جميع الاصدارات لتلك المراكز التي تتولّى توزيعها في تلك البلدان. مشروعنا كما تلاحظ هو انشاء أول مركز عربي لتوزيع الكتاب بشكل مباشر، وليس بالواسطة. ماذا تقصد بالواسطة؟ - سبب تعثر توزيع الكتاب في الظرف الراهن، هو الحلقات العديدة التي يتطلبها الناشر أو الكاتب لايصال كتابه خارج موطنه. فالكاتب يحتاج الى موزع أو وسيط، ومثله الناشر، مع كل ما يستلزمه ذلك من اجراءات تتبدّل وتتعقّد تبعاً لكلّ بلد... على الناشر ان يتعامل مع 22 موزعاً أو مركزاً أو مكتبة ليضمن وصول منشورات الدار، ناهيك بالكاتب وهو ليس مؤسسة، وليس ايصال الكتاب من اختصاصاته! وبما أن التعامل مع هذا الواقع المعقّد، شبه متعذر على الجميع، يضطر الناشر إلى اعتماد المعارض السنوية كمنفذ وحيد أساسي لتحريك الكتاب وبيعه. والحال ان مشروع "المدى" يجمع كل المراكز المعنيّة بنشر الكتاب في شبكة واحدة، بحيث تتضافر الجهود وتتكامل. أما الرابح الأكبر فهو الكاتب من جهة والقارئ من الجهة الأخرى، لأن تعدد المنافذ سيزيل الصعوبات والعراقيل التي تحول دون وصول الكتاب الى غالبية البلدان. هل تعتبر أن المدن التي أخترت تأسيس مراكز فيها، هي العواصم الثقافية الابرز في العالم العربي؟ - نعم فالقاهرة تظل أم الدنيا، مهما تغيّرت الظروف وتعددت الاجتهادات. فمصر تحتضن الكتلة الكبرى من المثقفين والمراكز الثقافية، وهي أهم المراكز الثقافيّة العربيّة من حيث نسبة السكان ومن حيث التقاليد المتقدمة في الحياة الثقافية، وهي تضم المعالم البارزة في الفكر والثقافة والفن. أما بيروت، فمركز انتاج الكتب تاريخياً، وعلى رغم التراجع الذي تعرضت له خلال السنوات العشرين الماضية بسبب الحرب الاهلية المؤسفة، فانها تشكل معلماً أساسياً في الحياة الثقافية العربية. ودمشق تقدمت خلال السنوات العشر الاخيرة بخطوات واضحة سواء على صعيد انتاج الكتاب او استهلاكه، فالعاصمتان السورية واللبنانية تضمان اعلاماً بارزة في الفكر والثقافة العربية. هناك تغيير في الخارطة الثقافية العربية؟ - للأسف هذا حصل بفعل عوامل سياسية واقتصادية مدمرة. لقد كان معروفاً ان بغداد هي المستهلك الاول للكتاب، واعتقد انها ستنهض يوماً ما لتستعيد مكانتها. وكذلك الجزائر والسودان، وهما مركزان مهمّان في تداول الكتاب. وماذا عن دول الخليج العربي؟ - اعتقد بأنها مستهلكة نهمة لنوعية معينة من الكتب. والمعارض المقامة في هذه الدول تشهد اقبالاً واسعاً على مختلف مصادر الثقافة والكتاب الجاد سواء كان ابداعياً أم فكرياً، والأمل هو في تطوّر ذهنيّة الرقيب. واللافت أيضاً أن بلدان الخليج تشهد بروز عشرات الاصوات الجديدة المبدعة في الشعر والقصة والتشكيل وغير ذلك. ما صدى هذه المشاريع عند القراء؟ - تجربة "المدى" مع مختلف الأطراف تؤكد ان الكتاب بخير، فالطبعة الاولى من اغلب العناوين نفدت. وآمل ان نستعيد عافية الكتاب خلال الفترة المقبلة، منتقلين إلى مرحلة جديدة نطبع معها ثلاثة آلاف نسخة من الطبعة الاولى لكلّ كتاب. الرواية والقصة؟ - نعم. العربية ام المترجمة؟ - للأسف في المرتبة الاولى المترجمة. ولكن دعني اسرك بأن هذا يمكن ان ينطبق على كل كتاب عربي. فأعمال الماغوط الصادرة عن دارنا تشهد اقبالاً منقطع النظير، على الرغم من طبعاتها المختلفة الأخرى. ورواية فؤاد التكرلي وهي عمل ضخم "المسرات والاوجاع" نفدت كل الكمية التي ارسلت منها الى معرض القاهرة في الايام الاولى. اما الكتب الفكرية فتعاد طباعتها باستمرار، ومنها نتاج الفقيد هادي العلوي، و"ذهنية التحريم" لصادق جلال العظم، وعشرات الكتب الاخرى. يؤخذ على الدار عدم التوازن بين المترجم والمؤلف؟ - هذا صحيح نسبياً ولكن السبب لا يعود الى توجه الدار، وانما إلى عدم توافر المخطوطات من قبل المؤلفين العرب. والدار ستعالج ذلك بالتوجه الى الكتاب والمفكرين لسد هذا النقص. مع العلم ان الأعمال المؤلفة لا تقل نسبتها عن 40 بالمئة من الاصدارات. هل تحدثنا عن احتفالية افتتاح مركز دمشق؟ - نطمح ان يكون الافتتاح اكثر من تظاهرة ثقافية عاديّة. لا بدّ من أن يكون افتتاح مركزنا حدثاً ثقافيآً نوعياً واستثنائيّاً. وقد وجهنا الدعوة الى عدد من المفكرين والمبدعين والمثقفين ودور النشر للمشاركة في البرنامج الحافل الذي سيتضمّن ندوات ومحاضرات وتوقيعات كتب ونشاطات فنية متنوّعة. والجانب التشكيلي؟ - سيضم المعرض الافتتاحي لوحات لعدد كبير من الفنانين العرب، معظمها من مقتنيات الدار او من مجموعات خاصة لاصدقائنا