بات معرض دمشق الدولي للكتاب يحتل مكانة بارزة بين المعارض العربية، ففي كل دورة جديدة ثمة تطور إن في جهة التنظيم أو في جهة المشاركة. بلغ عدد دور النشر التي شاركت في المعرض الأخير، أكثر من 420 داراً جاءت من تسع عشرة دولة عربية وأجنبية لتعرض أكثر من 40 ألف عنوان في شتى حقول الفكر والفنون والآداب. وتوزعت هذه الدور على إحدى عشرة صالة على ارض مدينة المعارض الجديدة قرب دمشق، وتم تخصيص صالة لكتب الأطفال، وصالة للكتاب الأجنبي، وصالة للحواسيب وتجهيزاتها. يتيح المعرض الذي أصبح تقليداً سنوياً تكرس عبر عقدين للقارئ السوري الاطلاع على العناوين الجديدة، ويوطد العلاقات بين أصحاب دور النشر في البلاد العربية، وكذلك الأجنبية، وهو من زاوية أخرى يشكل محطة مناسبة لجلب الاهتمام إلى هموم الكتاب، وقضاياه. لكن تنظيم المعرض لم يرق إلى مستوى المأمول منه في الجذب، والاستقطاب، فقد فوجئ جمهور معرض الكتاب في هذه السنة بانتقال مكان المعرض من وسط دمشق في مدينة المعارض القديمة إلى مدينة المعارض الجديدة التي تبعد عن دمشق نحو عشرين كيلو متراً ما ترك استياء لدى زوار المعرض، ولدى الناشرين على السواء. ولعل ابلغ وصف جاء على لسان عز الدين عبود مسؤول التوزيع في "دار المدى" إذ قال معلقاً على هذه الخطوة: "لم ينتقل معرض الكتاب إلى مدينة المعارض الجديدة فحسب، بل انتقل إلى رحمته تعالى". وحال التذمر، وعدم الرضا من المكان الجديد أكده بدوره مصعب الجندي صاحب "دار الجندي" الذي قال في اليوم الأخير للمعرض ان "مبيعات كتبه تراجعت نحو خمسين في المئة قياساً إلى الدورات السابقة". وشاطر نور الدين البهلول صاحب "دار الحصاد" زميليه الرأي قائلاً: "أرى أن الخطوة سلبية، لأننا فقدنا كناشرين زهاء خمسين في المئة من الزوار الذين كانوا يأتون إلى المعرض - بحكم مكانه الذي كان يتوسط المدينة - بقصد الفرجة والتسلية، فيلفت نظرهم عنوان أو عنوانان فيقومون بالشراء دون ان يكون في نيتهم ذلك". غير أن علي العايدي مدير المعرض دافع عن هذه الخطوة وشكك في رقم ال50 في المئة حين قدر بأن الرقم الذي فقده الناشرون لا يتجاوز العشرة في المئة، بل زاد بأن هذا الانتقال أفرز "قارئاً نوعياً" ذلك ان الذي يتكبد عناء المجيء إلى هذا المكان النائي، "فهو حتما يبحث عن الكتاب"، معترفاً، مع ذلك، بأن هذه الخطوة كانت اضطرارية "ذلك ان مدينة المعارض القديمة خضعت للتنظيم، ولم يعد ممكنا إقامة المعرض فيها"، مشيراً إلى إجراءات اتخذتها الإدارة للتقليل من الأثر السلبي للبعد المكاني: "قمنا بتوحيد الفترة الزمنية لساعات استقبال المعرض للزوار، وبتوفير مواصلات مجانية". لكن الطرف الثالث في المعادلة، أي "القارئ النوعي" كما يصفه العايدي، لم يكن راضياً بدوره حين فسر الأمر من زاوية أخرى إذ أكد الناشط السياسي ياسين الحاج صالح بأن هذه الخطوة تبرهن بأن "الثقافة تأتي في المراتب الأخيرة ضمن اهتمامات المسؤولين، ويبدو أن نزعة الربح والمال تنتصر، دائماً، على الثقافة. فأرض المعرض القديم بيعت لأحد التجار تمهيداً لتحويلها إلى منتجعات ومطاعم كما يقال"، موضحاً "إن النخب التي تحكمنا هي نخب أسيرة لعصبيات معينة، ومتدنية المستوى الثقافي والفكري، فهي أخرجت المعرض من قلب دمشق التي تحتاج، حقا، إلى قلب نابض". وشكا الحاج صالح من "غلاء سعر الكتاب الجيد قياساً إلى دخل المواطن السوري، أما الكتب الرخيصة فهي لا تصلح للقراءة كما هي الحال مع مطبوعات "اتحاد الكتاب العرب،" مثلاً. ولاشك في أن غلاء سعر الكتاب هو شكوى تتكرر على كل لسان، وفي كل معرض". ولفت الحاج صالح الانتباه إلى نقطة أخرى تفسر عزوف الجمهور عن الإقبال على الكتاب وتتمثل في "انقطاع العلاقة بين الثقافة والفكر، والحياة الاجتماعية والسياسية، ومن هنا حتى لو كتبت أرقى النصوص، وأجملها فلن تجذب انتباه أحد". هذا الرأي يؤكد بأن مسألة تراجع دور الكتاب في الحياة الثقافية ليس كلاماً يطلق جزافاً، بل حقيقة تؤكدها الأرقام. وبدلاً من تشجيع الجهات الرسمية للكتاب في مختلف السبل، وتذليل هذه العقبات، فإنها تضع المزيد من القيود، ومنها الرقابة التي تعد إحدى المسائل التي تؤرق الناشر. يقول علي برق مندوب "دار الساقي": "إن كتباً عدة منعت ومنها ثلاثة كتب لحازم صاغية هي "وداع العروبة"، و"العرب بين الحجر والذرة"، و"بعث العراق"، وكذلك كتاب "أزمة الديمقراطية في الوطن العربي" لعلي الكواري، و"التفسير التوحيدي للقرآن" لحسن الترابي، و"جدار بين ظلمتين" لرفعت الجادرجي، و"سنوات مع الخوف العراقي" لهاديا سعيد. ويشير علي بحسون مسؤول التوزيع في "دار الفارابي" إلى أن كتاب "تاريخ الحركة الكردية" الذي ترجمه عن الإنكليزية راج آل محمد قد منع، في حين يعرب عز الدين عبود دار المدى عن تذمره من الرقابة القائمة مؤكداً بأنها لا تستند إلى أي معيار فني أو جمالي أو معرفي، لافتاً إلى أن كتاب صادق جلال العظم "ذهنية التحريم"، وكذلك ثلاثية هنري ميللر "سيكسوس، بليكسوس، نيكسوس" قد منعت، وهذه مجرد نماذج تشير إلى أن سياسة المنع قائمة على عكس ما يقول العايدي وهو نوه بالانفتاح الذي يتمتع به معرض الكتاب الدمشقي، واصفا الرقابة القائمة ب"الموضوعية". وكان واضحاً إقبال الجمهور على الكتب الدينية، فدور النشر المهتمة بنشر هذه الكتب لم تكتف بعرضها فحسب بل ملأت الصالات بأناشيد وأدعية دينية، وعلقت صوراً للخطباء، والأئمة، والفقهاء، وصوراً للداعية المصري عمرو خالد، وعرضت أشرطة، وأقراصاً مدمجة تضم خطباً ومواعظ. والى جانب رواج هذه الكتب راجت الكتب المتعلقة بالطبخ، والريجيم، والاعتناء بالبشرة وغيرها لتظل مساحة قليلة للكتب الجادة تضع المراقب في الحيرة. فليس من السهولة معرفة مزاج القارئ في اختيار هذا الكتاب دون ذاك، لكن الملاحظ ان الكتب التي عالجت موضوع الأزمة العراقية حظيت بإقبال شديد، وسلسلة مكتبة نوبل دار المدى التي تتضمن روايات أصحاب نوبل: ماركيز، نايبول، ساراماغو، هيرمان هيسه، باسترناك، توني موريسون، كيبلينغ، خوسيه ثيلا وسواهم لقيت إقبالاً، إضافة إلى الأعمال الكاملة لفؤاد التكرلي، والأعمال الكاملة لهادي العلوي، وأعمال محمد الماغوط. وأشار بعض الناشرين إلى أن كتب عبدالرحمن منيف بدورها شهدت رواجاً، مع كتب إدوارد سعيد وبرهان غليون وأمين معلوف ونصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وأدونيس...، أما رواية "شيفرة دافنشي" لدان براون التي واجهت مشكلة رقابية في لبنان فقد بيع منها نحو مئة نسخة كما قال مندوب "الدار العربية للعلوم" التي اصدرت الرواية، وهو رقم كبير قياساً إلى نسب المبيعات المتدنية. وراجت رواية حنا مينه الأخيرة "شرف قاطع طريق" الآداب وهو حضر إلى المكان للتوقيع كما هو دأبه في كل معرض. والمفارقة أن كتاب غيفارا "أحلامي لا تعرف حدوداً" الفارابي شهد إقبالاً من شريحة الشباب بحسب مندوب الدار... وفي اليوم الأخير نفد الكثير من كتب "المركز الثقافي العربي" التي تصدر كتبا قيمة في الفكر، والنقد والأدب. ومثل هذا التنوع يشير إلى أن معرفة مزاج القارئ في الاختيار صعبة، فأحياناً يشده العنوان، وفي أحيان أخرى يسيطر عليه الحدث السياسي العام كما حصل مع الكتب التي تناولت الأزمة العراقية، وأحيانا يشده الحدث على الصعيد العاطفي - الوجداني، وهذا ما أكده رواج كتب، وروايات عبد الرحمن منيف الذي رحل منذ أشهر. والملاحظة المريرة هي أن المفكر الفرنسي الكبير جاك دريدا رحل في اليوم الأخير للمعرض، ولو عاجله القدر قبيل المعرض أو أثناءه لوفر للناشرين الذين ترجموا له بكثافة فرصة ثمينة.