من الظواهر اللافتة ان الكاتب العربي في الزمان الراهن يطبع طبعة واحدة من كتابه مكتفياً بإصدار هذه الطبعة، وتمر السنون بعد نفادها من دون ان يعاد طبع الكتاب وكأن الكاتب والناشر قاما بالتخلص من الكتاب بنشره للمرة الأولى والأخيرة. نعرف بعض أسباب هذه الظاهرة، ومن ضمن ذلك السوق غير الرائج لمعظم ما ينشر من كتب وغلبة الطابع الموسمي الذي يقتنص فيه الناشرون القضايا الساخنة لينشروا كتباً عنها، وعدم اهتمام المؤسسات الأكاديمية والجامعات والكليات والمدارس بشراء الكتب. لكن الاكتفاء بطبعة واحدة من الكتاب يحدث فراغاً في مكتبات الأجيال الآتية، ويقطع سياق تطور الآداب والثقافات ويوهم بأن ما يطبع من كتب في اللحظة الراهنة لا سابق له ولا مؤثر فيه، وأن ما يكتبه كتابنا المعاصرون لا ميراث له. وذلك ناشئ بالطبع عن غياب الاهتمام الفعلي بالكتاب والمؤلفين في معظم البلدان العربية التي يجاهد المثقفون فيها لنشر كتاباتهم عن دور نشر أهلية داخل بلدانهم أو خارجها، ما يكلفهم الكثير من الضنك والتوسل أحياناً، وربما الاستدانة لترى كتاباتهم النور. وهناك من ثم كتاب عرب معاصرون ذوو قامات كبيرة في الثقافة العربية تظهر كتبهم مرة واحدة فقط حتى يقيض لها ناشر مغامر ليعيد طبعها من جديد. بعض المؤسسات الثقافية الرسمية العربية تولي كتابها بعض الاهتمام فتعيد نشر كتبهم، وتصدر طبعات شعبية بسعر زهيد من كتبهم لكي يتسنى للقراء من ذوي الدخل المحدود الاطلاع على الكتب الأساسية التي كونت الذائقة الثقافية العربية في القرن العشرين. وما تفعله الهيئة المصرية العامة للكتاب في مشروع مكتبة الأسرة مثال بارز على وصل الحاضر بالماضي من خلال سلسلة شعبية زهيدة الثمن تعيد نشر كتب طه حسين ومحمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد وعلي عبدالرازق في الوقت الذي تعيد نشر مؤلفات جابر عصفور ومحمد البساطي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وأحمد الشهاوي. وهي بهذا تجنب عدداً كبيراً من الكتّاب المصريين البارزين من مأساة الطبعة اليتيمة التي تعايشها الكثرة الكاثرة من الكتّاب العرب" ففي بلدان عربية أخرى يموت الكاتب فتختفي كتبه من الأسواق لأن الجهات الرسمية والأهلية في وطنه لا تهتم بإعادة طبع أعماله. ويمكن ان نضرب مثال غالب هلسا، الروائي والناقد والباحث الأردني الكبير الذي توفي في نهاية ثمانينات القرن الماضي، فلم تظهر طبعات جديدة من رواياته التي تعد جزءاً بارزاً من منجز جيل الستينات الروائي العربي. ويعود هذا الإهمال الى عدم اهتمام المؤسسات الثقافية الرسمية الأردنية، وغياب دار النشر التي طبعت معظم أعماله دار ابن رشد ووفاة صاحبها كذلك، وكأن الموت يغيب الكتاب كما يغيب الكتب بغض النظر عن أهمية الكاتب والكتاب. طبعاً هناك مؤلفون محظوظون بإصرارهم على النشر أو ارتباطهم بعلاقات حسنة مع الناشرين أو شهرتهم الكبيرة التي تدفع بعض الناشرين الى اعادة طبع كتبهم وأكل حقوقهم في معظم الأحوال. لكن الغالبية العظمى من الكتّاب لا يحظون في معظم الأحيان إلا بطبعة واحدة يتيمة من أعمالهم. والكتّاب المقصودون ليسوا نكرات بل هم كتاب معروفون لهم أثرهم في الثقافة العربية المعاصرة ولهم حضورهم البارز بين القراء" وعندما يفتش القارئ عن كتبهم يفاجأ بأنها غير موجودة في المكتبات لأن الطبعة الأولى التي نشرت منذ عشرين عاماً أو أكثر نفدت. لكن أحداً من أصحاب دور النشر لم يفكر بإعادة طبع تلك الكتب. لنسأل أنفسنا كم من الكتّاب الشباب قرأوا كتب فؤاد التكرلي أو حليم بركات أو يوسف حبشي الأشقر أو توفيق يوسف عواد أو محمد خضير أو تيسير سبول أو ترجمات الأعمال المهمة للفلاسفة والروائيين الكبار وعلى رأس هذه الأعمال ترجمة دون كيشوت الى العربية؟ ان الطابع الموسمي للنشر يعني ان صناعة النشر العربية ليست أصيلة أو أن سوق القراءة في الوطن العربي تعاني مرضاً يجعل الكتاب يظهر لمجرد رفع العتب أو بسبب من الإصرار العنيد لصاحب الكتاب أو مترجمه. هناك أصدقاء كثر أعرفهم كانوا أصدروا كتبهم الأولى منذ ما يزيد عن ربع قرن لكنهم لا يستطيعون هذه الأيام أن يقنعوا ناشراً واحداً بإعادة نشر كتبهم تلك على رغم انها كانت وما زالت مؤثرة بين القراء والكتاب الى أيامنا هذه.