ليس الاكراد مجرد اقلية في المثلث التركي العراقيالايراني، انهم شعب بالملايين. له لغته وتاريخه وطموحاته. لذلك ما ان انتشر خبر القاء القبض على عبدالله اوجلان حتى كان الغضب الكردي ينفجر في العواصم الاوروبية... ويسقط قتلى وجرحى. انها صفحة جديدة من هذا التاريخ الكردي الصاخب الذي لم يعرف سوى الحروب في منطقة بالغة التعقيد. تهدد بنقل الصراع التركي الكردي من الجبال الى المدن، اذ ان مقاتلي اوجلان امتنعوا حتى الآن عن زرع العبوات الناسفة في انقرة واسطنبول وازمير وغيرها. فهل يكتفون من الآن فصاعدآً بمواصلة القتال في جبالهم فقط، ام يحوّلون الأمن في تركيا الى كابوسٍ للجيش التركي؟ وفي السياق نفسه جاءت المعلومات التي تحدثت عن مساعدة اميركية اسرائيلية في التمهيد لاعتقال اوجلان لتصب ناراً على زيت الأتراك الذين لم يجدوا بعد تفسيراً مقنعاً للاتفاق التركي الاسرائيلي، ما يهدد بدوره باعلان تعاطف مكشوف مع الحركات والتنظيمات العربية والاسلامية التي تعتبر الولاياتالمتحدة واسرائيل عدواً يجب قتاله. "أكاد أكون الرجل الوحيد الذي يصعب ان يجد له مكاناً في العالم. ثمة مؤامرة تركية تستهدفنا، ونحن حالياً نعيش وضعاً مشوّشاً للغاية".، كان ذلك الشهر الماضي عندما استقبلنا عبدالله اوجلان في آخر مقابلة صحافية له كرجل حرّ في داره في بلدة انفيرنيتو الجحيم الصغير على مقربة من روما حيث كان يقيم معزولاً منذ 12 تشرين الثاني نوفمبر بحماية اجهزة الامن الايطالية الخاصة، مستلقياً على أريكة في الصالون الصغير حيث يستقبل مدعويه وهو يرتدي بدلة وربطة عنق، كان "آبو" اوجلان كما يدعوه انصاره، يبدو مرهقاً جداً ومتوتراً الى آخر حد. كان يستمع الى الاسئلة التي توجه اليه بأذن شاردة، ويجيب عنها نصف اجابة الا اذا كان الامر يتعلق بمصيره الشخصي. كان التوتر الذي يلازمه طبيعياً، فأوجلان بعد توقيفه اياماً عدة، اعلنت السلطات الايطالية انه حرّ. ولكن اي حرية تلك التي يتمتع بها اوجلان؟ لقد كان رجال الكوماندوس الايطاليون ديكوس بذريعة حمايته، يرصدون تحركاته ويتحرّون سكناته. كانوا يحتلون الطابق الارضي من الدارة حيث ركّزوا اجهزة الكومبيوتر والفاكس وبطاريات الهاتف والراديو. وكانوا يقومون بدوريات مستمرة فوق الدرج اللولبي الصغير الذي يؤدي الى طابقي الدارة. وفي الأروقة كانوا يشهرون اسلحتهم على مدار الساعة. وكان اوجلان يقيم في الطابق الاول المكون من ثلاثة غرف. وكانت النوافذ الخشبية مغلقة ليل نهار وقد نصح عناصر "الديكوس" أوجلان الذي كان يشكو من الاختناق بعدم التنزه في حديقة الدارة. وهؤلاء كانوا يحصون عليه انفاسه، ويحرسون باب الصالون حيث يستقبل زائريه ولا يتورعون عن مواكبته وهو في طريقه الى المرحاض. لقد كان الضغط النفسي شديد الوطأة عليه، فالايطاليون الذين لم يكن في وسعهم طرد أوجلان بصورة شرعية، مارسوا كل الضغوط الممكنة عليه على امل ان ينهار وهذا ما حصل فعلاً. لقد قال له محاموه الايطاليون ان من الممكن توقيفه ومحاكمته وان المحاكمة قد تطول سنوات. واخيراً قرر أوجلان مغادرة ايطاليا رغم نصائح السيدة دانيال ميتران التي قالت له: "اذا كنت ثورياً حقيقياً فعليك ألا تخاف السجن على غرار نلسون مانديلا الذي قضى في السجن 25 عاماً". قبل خمس سنوات استقبلنا أوجلان مختلف تماماً في احدى قرى سهل البقاع في لبنان. يومذاك كان اوجلان في لباس رجال المقاومة بنطلون اسمر فاتح وقميص رياضي وكان يجيب واقفاً طوال ثلاث ساعات امام علم حزب العمال الكردستاني بنجمته الحمراء، عن اسئلة حوالي عشرين صحافياً من مختلف انحاء العالم. كان أوجلان اشبه بمخرج ينفجر نشاطاً ودينامية، فيعطي الكلام لهذا ثم لذاك، مشيراً باصبعه حيناً، شابكاً ذراعيه حيناً آخر. يومذاك كان أوجلان نجماً محاطاً بمجموعة من الصحافيين وكان يستمتع بذلك الدور. حتى اللحظة الاخيرة، لم نكن نعرف اين سيعقد المؤتمر الصحافي. لقد تولى نقلنا من بيروت مقاتلون من حزب العمال الكردستاني في حافلة الى مطعم في الهواء الطلق في احدى القرى حيث انتظرنا ساعات عدة حول مائدة ضمّت اصناف المازة الشهية اطباق لبنانية متعددة وعند هبوط الظلام، انطلقنا في الحافلة نحو وجهتنا النهائية وهي دارة استأجرت لإقامة عرس كما قال مسؤول حزب العمال الكردستاني لصاحبها. وفجأة وصل عبدالله أوجلان محاطاً بمجموعة من الحراس المدججين بالسلاح. وهكذا انتهى العرس وبدأ المؤتمر الصحافي. كان أوجلان يجيل عينين داكنتين تحت حاجبين كثيفين، ولم يكن يستقر في مكان واحد، كما انه لم يكن يكنّ احتراماً لمراسلي الصحافة. لقد كنا ممثلين لا غنى له عنهم في عملية اخراج تتيح له ان يوصل رسالته الى العالم. لكنه في سهل البقاع كما في روما، لم يكن أوجلان يجيب بوضوح عن الاسئلة ولا سيما تلك التي تتعلق بأهداف الكفاح الذي يقود: هل هو من اجل الاستقلال ام من اجل الفيديرالية ام من اجل الحكم الذاتي؟ وعن الوسائل التي يعتمدها: هل هو الكفاح المسلح ام حرب العصابات، ام الصراع السياسي؟ ولم تكن اجاباته ابداً قاطعة او واضحة. الى من كان أوجلان يوجّه رسالته؟ هل كان يخاطب انصاره من خلالنا؟ ومن حقنا ان نتساءل: هل كان أوجلان أسير ايديولوجية ماركسية - لينينية جامدة تلقاها خلال سنوات النضال في صفوف اليسار التركي المتطرف في بداية السبعينات؟ ترى هل كان أوجلان يعتمد لغة مزدوجة أم كان يعاني مشكلة في التصور، لإدراكه ان ليس في وسعه الافصاح عمّا يفكّر فيه فعلاً كون الرسالة الثورية يصعب تمريرها، ولعجزه عن صياغة خطاب يبهر محاوريه الغربيين بعبارات سياسية مقنعة؟ ويبقى الرجل لغزاً. فكيف استطاع من "مخابئه" المتعددة، خارج تركيا، قيادة بضعة آلاف مقاتل بنظام حديدي؟ وكيف عرف اثارة حماس ألوف الشبان الاكراد للانضمام الى حركته بل والاستعداد للتضحية بحياتهم فداء للقضية؟ وخصوصاً كيف جذب الى الحزب الذي انشأه الوف الفتيات المتحدرات من مجتمع هو الاكثر تقليدية ومحافظة في الشرق الاوسط، حيث تترك الفتيات عائلاتهن بين ليلة وضحاها وتنخرطن في حرب العصابات؟ وكيف استطاع ان يحيي أمل الشعب الكردي، على الاقل في تركيا، يهدده الاندماج؟ وفي اية حال لن تكون المحاكمة التي تنتظر أوجلان في تركيا الحل لكل هذه المسائل. ان لائحة القادة الاكراد الذين وقعوا ضحايا الخيانة او سقطوا في المصائد السياسية طويلة جداً. فقبل اليوم وفي اواسط القرن التاسع عشر وقع الأمير بدير - خان الملك غير المتوّج لكردستان ضحية أحد أحفاده، مثل سيد رضا، زعيم الثورة الكردية في درسيم في العام 1937. الاول نفي والثاني شُنق. اما الزعيم الكردي الايراني سيمكو فقد اغتيل بعدما استدرج الى فخ في العام 1930. وفي العصر الحديث، كان ملا مصطفى بارزاني ضحية "خيانة" شاه ايران والاميركيين عندما أوقفوا فجأة اي مساعدة له بعد اتفاق الجزائر في العام 1975، فسحقت القوات العراقية المقاومة الكردية ليهرب عشرات الوف الاكراد الى ايران. ومجدداً في العام 1988، اوقف الايرانيون، بقيادة الإمام الخميني، دعمهم لأكراد العراق بعد توقف اطلاق النار مع العراق. وفي 13 تموز يوليو 1989 استدرج عبدالرحمن قاسملو زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني الايراني الى فخ في فيينا نصبه له عملاء ايرانيون بحجة مناقشة حل سياسي للمسألة الكردية وقتل مع مساعدين كرديين له. وبعد ثلاث سنوات اغتيل خليفته في قيادة الحزب سعيد شرفقندي في مطعم ميكونوس في برلين. وبينما خضع النمسويون لمنطق الدولة وأوقفوا التحقيقات في اغتيال قاسملو، وجّهت النيابة العامة الالمانية التهمة الى "أعلى السلطات الايرانية" بالضلوع في العملية، وبين المتهمين وزير الاستخبارات السابق علي فلاحيان. وينقل مقرّبون من قاسملو انه كان يحذر جداً الايرانيين ولم يكن يثق بهم اطلاقاً، حسب وصية والده، ومع ذلك سقط برصاصهم. اما شرفقندي فقد انتقد لامبالاة قاسملو القاتلة، ومع ذلك سقط هو ايضاً برصاص الايرانيين. في حديثنا الاخير مع أوجلان في روما، قال الزعيم الكردي: "يقول الاتراك ان عليهم معاقبتي اينما كنت. ان الخطر جدي جداً. قد لا يستطيعون تنفيذ ذلك في اوروبا، لكنهم يستطيعون خارج اوروبا، وبمساعدة الاسرائيليين. ان مكاناً مثل افريقيا يشكّل خطراً علينا". كان أوجلان يدرك هذا الامر، ومع ذلك ذهب الى افريقيا، لتكتمل المأساة الكردية. كم سيستمر "العرس" التركي؟ الارجح لن يطول كثيراً. فاذا أصيب الزعيم الكردي بأي "مكروه"، كما يحدث عادة لمعتقلين اكراد كثيرين في تركيا، سيصبح أوجلان بطلاً لا يرقى اليه احد. اما اذا جرت له محاكمة عادلة فستتحول الى محاكمة لتركيا. ففي الواقع كيف يمكن محاكمة أوجلان من دون اثارة تدمير الوف القرى وتهجير مئات الوف الاكراد، وحظر الاحزاب الكردية، وسجن النواب الاكراد المُنتَخبين ديمقراطياً مثل ليلى زنه. وفي كل حال فان اعتقال أوجلان في تركيا سيؤدي الى توترات لا يمكن ضبطها. وعاجلاً او آجلاً سيتوجب على الاتراك مواجهة القضية الكردية. وفي الانتظار اصبح الاكراد مقتنعين في النهاية، بأن العالم كله ضدهم. ان اوروبا التي لا تملك سياسة خارجية واحدة، هي ايضاً متعددة السياسة حيال المسألة الكردية. و"المأساة"، كما قال لنا ديبلوماسي اوروبي حاول المستحيل ليجد ملجأ موقتاً لاوجلان، سواء في هولندا ام في اللوكسمبورغ ام في النمسا ام في النروج ام في غيرها، "انه لم يعد لدينا رجال دولة ذوي جرأة وصلابة، مثل برونو كرايسكي او اولف بالمه او فرنسوا ميتران. لقد غسلوا جميعهم ايديهم قائلين: "فليذهب هذا الكردي حيث يشاء، لكن ليس عندي"! وربما اعتقد بعضهم في قرارة نفسه بأن هيام أوجلان على وجهه سينتهي تراجيدياً. لقد كان بإمكانهم ان يدركوا ان تصفيته تدفع حزب العمال الكردستاني الى مضاعفة العمليات العسكرية مع كل ما تحمله من احتمالات انحرافات دموية، فقادة الحرب هم احياناً، في مماتهم اكثر خطراً من حياتهم، عندما يتحولون الى اسطورة