"الشرطة الايطالية تلقي القبض على عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني التركي الآتي من موسكو". الخبر عادي جداً للوهلة الأولى. ولكن يمكن بقليل من الجهد تبيان ما يتضمنه من معان تؤشر الى مدى التغيير الحاصل في العالم. عبدالله اوجلان: انه زعيم الحركة الكردية الاستقلالية في تركيا. اعتمد الكفاح المسلح للحصول على حقوق شعبه من دولة قومية - علمانية تعاقب بالسجن كل من يتلفظ بكلمة "كردي" او بكلمة كردية. وبما ان تركيا عضو في حلف شمال الاطلسي وحليفة موثوقة للولايات المتحدة وصاحبة ثاني اكبر جيش بري في الحلف وأطول حدود مع "حلف وارسو" فلقد كان من الطبيعي ان يعتنق اوجلان ايديولوجيا المعسكر الآخر: الماركسية. لقد اعطى اذاً، لحركة التحرر الوطني التي يقودها طابعاً اجتماعياً مؤدلجاً مثله مثل الكثير من زعماء العالم الثالث الذين وجدوا انفسهم، وشعوبهم، على تماس مع "الاستعمار الغربي" او حكومات موالية له. موسكو عاصمة الدولة الشيوعية الأولى والاكبر في العالم. وهي، طبعاً، حليف موضوعي لحركات تحرر كثيرة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية طالما ان نضالاتها تهدف الى تقليص امتداد "المعسكر الرأسمالي" في العالم، وطالما انها تتبنى خطاً فكرياً مناسباً وتدعو الى بناء اوطان تستلهم النموذج الاصلي. وتملك موسكو حساسية خاصة حيال انقرة. فليس سراً ان هذه تحاول، بالوسائل كلها، منازعتها النفوذ على الجمهوريات الاسلامية وبشكل خاص تلك التي تتكلم التركية او احدى مشتقاتها. ومن الطبيعي، والحال هذه، ان تنظر موسكو بعين الرضى الى حركة كردية تضعف تركيا وتستنزفها وتجعلها تبدو، مع حليفها الاميركي، بمثابة جهاز قمع لتطلعات الشعوب. اما التاريخ الروسي - التركي هو تاريخ منازعات، وفي المقابل فان الروس سبق لهم التعاطي الايجابي مع قادة اكراد وهم لن يغفروا للولايات المتحدة ولا لشاه ايران نجاحهما، في فترة معينة في استمالة الرمز الكردي الكبير مصطفى بارزاني. لا بأس، والحال هذه، في ان يساعد الرفاق السوفيات الرفيق الكردي التركي وان يجعلوا من ذلك بنداً على جدول اعمال علاقاتهم الشرق اوسطية العديدة. وكان المنطق يقضي بأن تحسن موسكو وفادة اوجلان. فالدوما، حيث للشيوعيين اكثرية، صوّت لمصلحة منحه حق اللجوء السياسي. ورئيس الوزراء الحالي، والحاكم الفعلي، هو يفغيني بريماكوف الذي سبق له ان صال وجال في المنطقة لحساب الاستخبارات السوفياتية تحت ستار انه مراسل صحافي. انه يعرف يقيناً نوع العلاقات التي سبق نسجها مع قادة مثل اوجلان. ايطاليا: انها دولة اوروبية غربية من نوع خاص. دولة جنوبية لاتينية قريبة من ضفة المتوسط الاخرى وصاحبة حساسية خاصة حيالها. وهي، فوق ذلك، دولة تعاني من آثار الوحدة الوطنية وتشهد نزعات انفصالية وتدرك ان الحل لا يمكنه ان يكون قمعياً وفوقياً. "يجب اقناع ميلانو بمساعدة نابولي شرط ان تبدأ الثانية مساعدة نفسها". تكاد هذه المعادلة ان تكون فلسفة السلطة الراهنة التي تركض وراء الاتحاد الأوروبي وعينها على الوحدة الداخلية. لقد قادت الحساسية الايطالية الحكم الى الموافقة على استضافة البرلمان الكردي في المنفى، قبل اسابيع، في مبنى مجلسها الوطني. ويومها اقامت تركيا الدنيا ولم تقعدها على ما اعتبرته اعترافاً غير مباشر بحق الانفصال. ورد الايطاليون على الحملة بتأكيد انهم يدعمون نيل الأكراد حقوقهم الثقافية وتمتعهم بقدر من الحكم الذاتي في اطار الدولة التركية الموحدة. لقد حصل ذلك لأسباب عدة، منها ان اليسار الايطالي كان شريكاً قوياً في حكومة رومانو برودي. ولكن الواقع، الآن، هو ان ماسيمو داليما زعيم الحزب الشيوعي السابق هو رئيس الوزراء. والرجل كان، بدوره، صحافياً ورئيساً لتحرير "اونيتا" جريدة الحزب وقد سبق له ان كتب مقالات او اشرف على نشر غيرها وهي تنضح ايجابية حيال "المطالب المشروعة للشعب الكردي". ومع ذلك فان الشرطة تقوم بپ"واجباتها" وتعتقل اوجلان. وهي تفعل ذلك لأن هناك مذكرة من الانتربول طبعاً، لكن ايضاً لأن ايطاليا، مثل تركيا، عضو في حلف شمال الاطلسي وهي، على رغم رئيس وزرائها الشيوعي سابقاً، لا يسعها تجاهل ادنى واجبات التضامن الاطلسي! يمكن، والحال هذه، اعادة كتابة الخبر بشكل مختلف، شرطة بلد يحكمه شيوعيون سابقون يعتقلون ماركسياً - لينينياً قادماً اليهم من العاصمة السابقة للمعسكر الشيوعي العالمي! لقد تغير الكون الى هذا الحد بحيث باتت رحلة موسكو - روما التي قام اوجلان بها رحلة عبر الزمن والى... الوراء! يبدو الرجل وكأنه توهم انه يتجول في عواصم صديقة وان حداً ادنى من الامان متوافر له. لقد عاش حياته وهو متهم بپ"العمالة" لموسكو وبالاستفادة من دعم حزب مثل الحزب الشيوعي الايطالي من اجل الاستمرار في حربه ضد انقرة وها هو تواطؤ روسياوايطاليا يطبق عليه ويرغمه، في احسن الاحوال، على تقاعد مبكر هذا اذا لم يتم تسليمه الى مقصلة الجنرالات. كانت انقرة تؤكد ان اوجلان مقيم بين سهل البقاع اللبناني وبين دمشق. ومع ان المسؤولين اللبنانيين والسوريين نفوا ذلك على الدوام فقد اصرّت تركيا على موقفها ووصلت به، في الاسابيع الاخيرة. الى حد التلويح بحرب اقليمية ما لم تضع سورية حداً لنشاط حزب العمال الكردستاني فوق اراضيها. لم تستطع انقرة اثبات قولها. وزعت رقم هاتف قالت انه يعود لمنزل "آبو" في دمشق. وعممت مذكرة على الدول العربية ضمت اليها قصاصات الصحف العالمية التي نقلت اخباراً عن وفود برلمانية او شعبية التقت اوجلان فوق الأراضي اللبنانية او السورية. لقد امكن تطويق الأزمة بتجديد الاتفاق الأمني المعقود منذ 1993، لكن، في المقابل، اختفت آثار اوجلان. قيل انه في ارمينيا التي تناصب تركيا العداء، وقيل انه في اليونان الواقفة دوماً على شفير مواجهة مع تركيا، وقيل انه في قبرص، وقيل انه بات في المانيا محمياً بالجالية الكردية الكبيرة التي اوصلت، في الانتخابات الاخيرة، ثلاثة نواب الى البرلمان. وقيل، اخيراً، انه في روسيا، في وقت كانت انقرة تتابع هذه الانباء وتوجه انذاراً الى كل عاصمة تجعلها الاشاعة مقراً لأوجلان. وبدا لوهلة ان "البارانويا" التركية قد تقود الى حروب لا تنتهي. ولكن عندما ظهرت الحقيقة لم يكن ممكناً تهديد روسيا بحرب. ومع ذلك... لقد صدف ان موسكو تعيش ظرفاً خاصاً. فالأزمة المالية التي عصفت بها جاءت ببريماكوف رئيساً للوزراء. وأقدم الرجل على انعطافة في السياسة الاقتصادية اثارت استياء صندوق النقد الدولي والحكومات المانحة. ولذلك كان لا بد من تقديم تنازلات سياسية في مجال من اجل الرهان على استمرار القروض. ان اوجلان هو ثمن من هذه الاثمان. والموقف الروسي من الازمة العراقية الاخيرة هو، بدوره، ثمن ثانٍ! يقرأ اوجلان العربية. وبما انه يفعل ذلك فربما كانت "وصية كارلوس" هي من اواخر ما قرأه. لقد قرر "سجين باريس" ان يضرب عن الطعام وان يبدأ، عبر محاميته، توزيع الرسائل على العالم موحياً انه قد يموت بين لحظة وأخرى. وإذا كان هذا النوع من الاضراب غريباً على هذا الرجل المعروف بحبه الجم للأكل والشرب فان الرسائل لا تخلو من غرابة فمن مخاطبة احد القادة السابقين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وديع حداد، الى مخاطبة مرشد الجمهورية الايرانية علي خامنئي، يوالي كارلوس حربه على الصهيونية والامبريالية. لا يريد اقل من تحرير فلسطين والعالم ولو كان ذلك فوق جثة السلطة الوطنية الفلسطينية. يعرف كارلوس، طبعاً، ان شرطة هذه السلطة يقودها "اصدقاء" له في زمن مضى. منهم من أمضى سنوات في الاعتقال ومنهم من كان قريباً جداً منه أيام "العمليات"، غير انهم اختاروا لأنفسهم طريقاً آخر. اما من يقرأ رسالة كارلوس الى خامنئي لن يستطيع ان يتخيل، للحظة، ان "السجين" هو في المعتقل نتيجة موقف حكومة الخرطوم التي يقودها عملياً حسن الترابي الصنو العربي لخامنئي. لقد كانت رحلة الخرطوم - باريس بالنسبة الى كارلوس مثل رحلة موسكو - روما بالنسبة الى اوجلان. كان "الثائر العالمي" يعتقد بأنه يعيش عند حلفائه فاذا به يستفيق في فرنسا من المخدر ويدرك، مرة واحدة، انه سجين وان السودان ليس قلعة الثورة الجديدة. لقد حط كارلوس رحاله في السودان بعد مشوار طويل. وتتقاطع الروايات عنه، وبعضها موثق في كتب، انه استشعر، منذ نهاية السبعينات ومطالع الثمانينات ان العالم يميل من تحت رجليه. لم تعد صوفيا صوفيا ولا براغ براغ ولا برلين برلين وذلك لسبب بسيط: لم تعد موسكو موسكو. فالرجل الذي يحب ان يقدم نفسه بصورة البطل الفرد القادم من اميركا اللاتينية لنصرة العرب وقضاياهم لم يكن بعيداً جداً عن لعبة استخباراتية كونية تتجاوزه كثيراً. لقد الغى الانفراج الدولي بعض دوره. وأكمل الوفاق على الباقي. ولذلك فعندما تم اعتقاله لم تتنازل الصحف الاميركية وتنشر خبراً موسعاً. ان ماضيه لم يشفع له حتى باثارة قدر من الغبطة لدى من تخلصوا منه. يجمع كوزي اوكاموتو بين اوجلان وكارلوس. فهو، مثل الأول، على صلة ما بالبقاع اللبناني. وهو، مثل الثاني، متطوع اممي الى صف القضايا العربية. وهو، حالياً، يقبع في احد السجون اللبنانية بتهمة... التزوير! سيمر وقت طويل قبل ان يعرف احد خبايا ما حصل مع اعضاء "الجيش الياباني الأحمر" في لبنان. لقد كانوا يعيشون بهدوء. يتوزعون على شقق ومنازل في بيروت وخارجها. يمضون حياة من تخلى فعلاً عن العنف واكتفى بمراقبة الاخبار عن نشاطات "الفرع الياباني" المتضائل هو الآخر. فجأة، ومن دون سابق انذار، تم تجريد حملة واسعة اسفرت عن اعتقال الجميع. وهكذا بدأت قصة ستبقى واحدة من اغرب قصص العهد المنصرم في لبنان. فلا احد يستطيع الجزم اذا كان الأمر مجرد خطأ او انه عمل اقدم عليه ضابط متحمس صدف له ان زار طوكيو غير مرة. وليس معروفاً مستوى اتخاذ القرار، ولا ابعاده، ولا دوافعه، ولا ما اذا كان ثمة مقابل له. غير ان النتيجة تبقى اياها: اننا امام تصفية تطول مرحلة الحرب الباردة وامتداداتها. فبغض النظر عما وراء القرار هناك حقيقة لا جدال فيها هي ان كوزي اوكاموتو "بطل" عملية اللد سجين في لبنان، هذا "اللبنان" الذي يجعل مقاتلة اسرائيل عقيدة رسمية! لقد أثارت القضية - اللغز مشاعر بعضهم. وجرى تنظيم حملات تضامن مع "مقاتلي الجيش الياباني الاحمر". والتقاطعات لافتة بين هذه الاجواء وبين تلك التي هبت تدافع عن كارلوس. وتم التذكير بالتعذيب المريع الذي تعرض له اوكاموتو في سجون اسرائيل. ذهب هذا كله سدى. لم يعد لبنان يقدم ملجأ آمناً لأحد لا في بيروت ولا في البقاع. اسامة بن لادن، ايضاً، مرّ في لبنان. كان ذلك ايام الدراسة. وها هو، الآن، يشن، من مكان ما في افغانستان حربه العالمية "ضد اليهود والصليبيين" ويختبئ وراء علاقاته وثروته خوفاً من ان تشكل ملايين الدولارات الاميركية الموضوعة ثمناً لرأسه اغراء لواش من الوشاة. يتميز ابن لادن عمن سبق ذكرهم بأنه ما زال يجد، عبر "طالبان" مأوى يحميه. لن يكون سهلاً على الصواريخ ان تطاله، لكن، في المقابل، يصعب التكهن بما قد توصل اليه سياسة "تجفيف الينابيع". وتقضي هذه السياسة بممارسة اقصى الضغوط، وبكل الوسائل والقنوات الممكنة، من اجل رفع الغطاء عن الرجل او، على الأقل، انتزاع تعهدات قاطعة منه بألا يذهب بعيداً في تنفيذ الشعارات التي انتدب نفسه لأجلها. وفي انتظار ذلك، ثمة مؤشرات في "الحالة الاسلامية" تدل ان نداءات إبن لادن "الحربجية" لا تغري الكثير من قادة الجماعات الاصولية الجذرية. وتجدر الاشارة الى ان هؤلاء موزعون الى قسمين: قسم في سجون مصر والقسم الآخر في المنافي الأوروبية، مع وجود بعضهم في سجون الولاياتالمتحدة وغيرها. ولوحظ، في الأشهر الاخيرة، تنامي حالات تسليم المطلوبين الى الحكومات التي تطاردهم وهو الأمر الذي عزز القناعة بأن هامش الحرية يضيق سواء امام مناضلي الموجة اليسارية العائدة لأيام الحرب الباردة من اهتم باعتقال رفيق كارلوس المدعو كلاين والذي كان يعيش متخفياً في فرنسا ام امام ورثتهم الاصوليين. ومنذ سنوات لم يحرك صبري البنا أبو نضال زعيم "فتح المجلس الثوري" ساكناً. مجرد حفنة بيانات وتساؤلات عن مقر الرجل البارع في الإقامة في الظل. غابت الهجمات التي تتردد أصداؤها في العالم وغابت الاغتيالات. العواصم التي استضافته سابقاً لم تعد مستعدة لاستضافته. هل انتهى أم تقاعد أم انه كما قيل يعالج في مصر من اصابته بالسرطان وان حاله الصحية تحول دون فتح ملف محاكمته؟ ومع ذلك فان اعتقال اوجلان في ايطاليا يمكن له ان ينقلب ضد تركيا اذا كان الرجل حاسماً في تغليب الجانب السياسي لنضال حزبه وشعبه