لا يمكن لزائر باريس هذه الايام الا ان يلاحظ الاصلاحات الطارئة التي تنفذها بلدية المدينة، فجادة الشانزليزيه التي توصف بأنها الأجمل في العالم، تحوّلت منذ سنوات قليلة في جزئها المتصل بساحة الكونكورد الى معرض شبه دائم للمنحوتات العالمية او لتطور صناعة الطيران او للاختراعات الحديثة او ما شابه ذلك. وفي ساحة الكونكورد نفسها يمكن للزائر العربي عموماً، والمغربي بصورة خاصة، ان يؤخذ بمجسّم لباب مدينة فاس والزينة التي طرأت على مسلّة الساحة الفرعونية. وفي مكان غير بعيد، على جسر الفنون فرغ لتوه الجمهور من الاستمتاع بمعرض النحات السنغالي: ثمان سو بينما في ساحة "ألما مارسو" تساهلت البلدية وجعلت مقر الشعلة التي تعلو ذلك النفق حيث ماتت الاميرة ديانا، مكاناً يحجّ اليه الزائرون ويسطّرون عبارات التعازي بكل اللغات العالمية. اما المقيمون من سكان العاصمة، وضواحيها القريبة فقد صار بوسعهم الافادة من بعض المسالك الخاصة بالدراجات الهوائية وذلك للمرة الاولى في تاريخ المدينة. وللمهتمين بالبيئة من الباريسيين جعلت البلدية اماكن في العاصمة مخصصة للمشاة وجربت يوماً منع السيارات والآليات من التجول في قلب باريس وهي تسعى لتعميم التظاهرات الفنية والثقافية في الحدائق والاماكن التي يرتادها العامة. واذا ما أضفنا الى ذلك التظاهرات الرسمية، لتوصلنا الى استنتاج بأن رئيس البلدية الحالي جان تيبيري ربما يكون صاحب المبادرات العامة الاكثر جذباً والمثيرة لاعجاب المقيمين والزائرين. واذا كانت مثل هذه المبادرات تكفي لهطول عبارات التأييد والثقة بالسيد تيبيري او بسيد آخر مكانه، فإن عمدة العاصمة الذي يتمتع بشعبية هائلة بين عجائز المدينة هي احد مصادر قوته يتعرض منذ فترة لحملة منظّمة من جهات متعددة، بما في ذلك حزبه الديغولي، تهدف الى حرمانه من كرسي السلطة الاكثر بريقاً بعد رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء. والباريسي الاصيل او المقيم يختلف عن الزائر، بكونه شاهداً على وقائع صراع رهيب على هذا المنصب الذي يجلب لشاغله الحسد والمجد وكل مظاهر الفخر ومعها كل اوجاع الرأس. والحملة على السيد تيبيري وزوجته كزافيير المتضامنة معه، يختلط فيها التهكم على اصولهما الكورسيكية، وعلى انتمائهما الاجتماعي المتواضع، والسخرية من حججهما والنيل من اسرتهما ومزج الوقائع بالتهيؤات فلا يكاد يمضي يوم واحد من دون حضور الزوجين تيبيري في يوميات الدعاية في وسائل الاعلام. لكن تيبيري ليس حملاً وديعاً تترصده الذئاب من كل حدب وصوب وزوجته ليست "جان دارك" العاصمة. فالاخطاء والتجاوزات المنسوبة اليهما تستند الى وقائع دامغة. واستناداً الى هذه الوقائع تتعرض لهما وسائل الاعلام بلا رحمة. لقد خلف جان تيبيري الرئيس جاك شيراك في بلدية باريس وهو كان من بين اكثر مساعديه اخلاصاً لسنوات طويلة، وضغط شيراك بقوة في تياره الديغولي ولدى حلفائه الليبراليين والديموقراطيين كي لا يصل شخص آخر غير تيبيري الى رئاسة البلدية، ولهذا المسعى في نظر ذوي الألسن الطويلة وفي حديث الاشاعات، هدفٌ واحد هو حفظ اسرار وخبايا الادارة الشراكية لباريس منذ مطالع الثمانينات، اذ لا يمكن لأحد ان يؤتمن على هذه الحقبة غير تيبيري المشارك فيها والمسؤول عما دار الى حدٍ كبير خلالها، ناهيك عن ان الرجل لا يتمتع بشخصية كارسمية وبالتالي لا يمكنه ان يدّعي ذات يوم منافسه الزعيم الديغولي على كرسي الرئاسة الذي يطمح للاحتفاظ به لدوره ثانية في العام 2002 لا بل وعلى العكس من ذلك، يمكن للسيد تيبيري ان يكون نصيراً متحمساً للرئيس اذا ما قرر البقاء في قصر الاليزيه. وليست نيات شيراك عصية على ادراك خصومه ومنافسيه وعلى الطامحين من حزبه، فهؤلاء ايضاً يدركون ان موقع باريس في اية حملة انتخابية رئاسية يوازي نصف المواقع الفرنسية الاخرى ان لم يكن اكثر منها. ويعرفون ان من يمسك بهذا الموقع يكون كمن يقبض على زمام الحصان الاهم في المعركة الانتخابية. لذا بدأوا باكراً بشن الهجمات على هذه القلعة التي حصّنها شيراك بنفسه وجعلها منيعة على الطامحين والمغامرين. وتهاجم المعارضة اليسارية قلعة شيراك من اربعة محاور، اولها يتصل بالسيدة كزافيير كازانوفا زوجة رئيس البلدية جان تيبيري المتهمة بإعداد تقرير عن الفرنكوفونية لا يتجاوز عدد صفحاته 50 صفحة منسوخ بمعظمه عن بحث أعده اختصاصي معروف وتقاضت عن التقرير حوالي 250 الف فرنك 40 ألف دولار وهي خضعت للتحقيق والمحاكمة ومن المقرر ان تفصل محكمة الاستئناف في هذه القضية. والراجح انها ستُجرّم المتهمة، لكن ذلك لن يؤثر كثيراً على موقع زوجها، فالقضاء في فرنسا ليس عائلياً، او أسرياً، وهو يطال المتهم وحده، وقد بيّنت وقائع التحقيقات ان تيبيري قد يخرج سليماً من تهمة التورط في هذه القضية. الهجوم الثاني يتصل بتوزيع المساكن الاجتماعية التي تملكها البلدية وتأجيرها بطرق مخالفة للقانون، وقد استمعت هيئة التحقيق الى اقوال تيبيري في هذه القضية لكن شيئاً لم يظهر بعد حول امكان المحاكمة او موعدها. ويضاف الى هذا الملف ملف آخر متصل بصفقات مشبوهة حول تفضيل شركات على اخرى في بعض الالتزامات واستخدام النفوذ لغايات شخصية، وهنا لم يتحدد بعد موعد المحاكمة. والهجوم الثالث يتصل بتوظيف اشخاص وتعيينهم في وظائف وهمية، وهؤلاء من الديغوليين وانصارهم او ممن يؤيدون رئيس البلدية او ربما أيّدوا من قبل الرئيس شيراك نفسه. وفي هذه القضية ايضاً لم تتقدم التحقيقات بعد، علماً بأن التهمة موجهة للسيد تيبيري وحده باعتباره المسؤول الاول عن التوظيف في بلدية باريس. والهجوم الرابع والاخير يتعلق بالتزوير الانتخابي اذ يُنسب لتيبيري اقدامه على تنظيم شبكة من المقترعين حوالي 1000 ناخب ممن لا يقيمون في الدائرة الخامسة من العاصمة وجعلهم ينتخبون لمصلحته خلافاً للقانون الذي أوجب الاقتراع في امكان السكن الفعلي وليس الوهمي، وتتحدث اشاعات عن اقتراع تم بأسماء متوفين او الذين غادروا الدائرة منذ سنوات وعن حشر اكثر من 15 ناخباً في عنوان عائد لاستديو صغير، او اعطاء عنوان في شارع لا وجود له… الخ. وهنا ايضاً لم يكتمل ملف التحقيق وينتظر ان يستغرق وقتاً طويلاً. عن هذه الملفات قال احد مساعدي تيبيري ل"الوسط" ان التجاوز فيما يخص الاقتراع في غير الدائرة داخل باريس معروف للجميع وانه يحصل على نطاق ضيّق ويشترك فيه الجميع بما في ذلك المرشحون اليساريون، وان الامر يتم بصورة قانونية ويصعب اثباته وهو ظاهرة قديمة وليست محصورة بالدائرة الخامسة. وعن توزيع المساكن والوظائف الوهمية يؤكد المصدر نفسه انه لا توجد دلائل دامغة على تورط رئيس البلدية في مثل هذه الممارسات وفي كل الحالات يعود تاريخ الحوادث المذكورة الى ما قبل عهد تيبيري يوم كان شيراك رئيساً للبلدية. وحول تقرير الفرنكوفونية، يعتبر مساعد رئيس البلدية الذي تحفّظ عن ذكر اسمه، ان مأساة تيبيري تكمن في هذه القضية بالذات، "فهو لو كان ينتمي الى الفئة الاجتماعية العليا التي تعمل وفق نسق معيّن وتحتفظ بشبكة واسعة من النفوذ وتعرف كيف تحمي نفسها وتملك قصوراً ومنازل وتحظى بامتيازات لما كانت زوجته قد وقعت في مطبّ مماثل". ويضيف قائلاً: "لربما تكمن مأساة تيبيري في كونه من خارج الفئة المذكورة ولم يلتزم النسق الذي تعتمده. فالذي يرفض النسق يصبح خارجه وعرضة للنقد والاشاعات من المنتمين اليه، وربما لو رضي تيبيري بالحصول على امتيازات وامتلاك قصور ومنازل، لكان اليوم في منأى عن المساءلات التي يخضع لها". ويعتقد المصدر نفسه ان الهجوم الذي يتعرض له رئيس البلدية يستهدف في نهاية المطاف جاك شيراك، ولعل ادراك هذا الاخير لمعاني الحملة على تيبيري جعله لا يفوّت فرصة الا ويبدي التعاطف معه ويحرص على مصافحته بحرار ة في المناسبات العامة. ويُعبّر كلام مساعد تيبيري عن تصور مجموعة من الشخصيات المخلصة لرئيس بلدية باريس والتي لم تتوان بعد في الدفاع عنه بقوة. وهذا الكلام لا يشمل كل القوى اليمينية التي تحتفظ بغالبية المقاعد في المجلس البلدي. فالسيد جاك توبون وهو من المخلصين لشيراك حاول ان "يستولي" مرتين على رئاسة البلدية، مرة غداة انتخاب شيراك رئيساً للجمهورية، ومرة خلال اشتداد الحملة على تيبيري، وفي المرتين اعترض شيراك نفسه ووفر الحماية لمساعده المخلص. واذا كان شيراك ما زال قادراً على توفير الحماية لتيبيري في التيار الديغولي، فإن المفاجأة التي اطلقها رئيس البلدية أواخر الربيع الماضي أصابت الجميع بالذهول، فقد أعلن وسط العواصف النقدية التي يتعرض لها عن رغبته في اعادة ترشيح نفسه لولاية ثانية في البلدية، الامر الذي أثار موجة استياء واسعة، هذه المرة في صفوف الحلفاء من الديغوليين واليمينيين على حدّ سواء، الامر الذي قوبل باستياء كبير في قصر الاليزيه، وسهّل بالتالي مهمة خصوم تيبيري من كل الاتجاهات. قبل اسابيع قليلة كان السؤال الاكثر تداولاً في الاوساط السياسية الباريسية يدور حول طريقة اسقاط القلعة الشيراكية من الداخل طالما انها لم تسقط من الخارج، بواسطة الدعاوى القضائية، والسؤال الذي يطرح اليوم هو كيف سيواجه تيبيري الهجمات التي يتعرض لها من الداخل والخارج معاً وما مدى قدرته على الصمود في وجه حملات يومية ادى اقل منها الى حمل شخصيات فرنسية على الاعتزال او الانتحار. في ردّهم على هذا التساؤل يرى الخبراء المحليون ان سقوط تيبيري ليس سهلاً فهو يرفض ان يكون كبش فداء في بلدية باريس خصوصاً انه قادر على قلب الطاولة على رؤوس اللاعبين جميعاً، بما لديه من معطيات وبما يعرف من اسرار وخبايا، وانه وهو ذو الطباع الكورسيكية قد لا يرضى بتسليم مفاتيح باريس بسهولة وبطريقة مهينة الامر الذي قد يؤدي الى سقوط المدينة في ايدي اليسار في الانتخابات المقبلة، وسقوطها قد يكون بالنسبة الى اليمين كسقوط "الباستيل" في زمن الثورة الفرنسية الشهيرة.