يروّج البعض لنظرية مفادها ان باكستان، حينما تسببت بدعمها وإطلاقها للمسلحين الكشميريين ومن يواليهم من الجماعات الأصولية المتشددة، في ما صار يُعرف اليوم بأزمة كارغيل، وضعت في اعتبارها التالي: اذا ما فشلت في تحقيق أهدافها من وراء العملية، والمتمثلة في استنزاف قوى الهند وتأجيج الأوضاع في اقليم كشمير الى الحد الذي يفرض على المجتمع الدولي التدخل، فإنها على الأقل سوف تساهم في تقوية حظوظ حزب بهاراتيا جاناتا وحلفائه من القوميين المتشددين في الانتخابات النيابية الهندية، المزمع اجراء أولى مراحلها في الاسبوع الأول من ايلول سبتمبر المقبل، وتمنع بالتالي حزب المؤتمر الهندي من العودة مجدداً الى السلطة في نيودلهي. أما المصلحة الباكستانية من ذلك فتتضمن - بحسب مروّجي هذه النظرية - شقّين: أولهما بقاء الهند في قبضة جماعات قومية معروفة بتطرفها وبرامجها الراديكالية المثيرة للجدل والانقسام، وذلك على أمل ان تؤدي هذه البرامج الى تدمير الصيغة العلمانية الهندية التي حفظت لهذه البلاد على مدى نصف القرن الماضي وحدتها واستقرارها، ومنحتها نظاماً ديموقراطياً راسخاً جعلها تبدو متميزة ومتفوقة على جارتها الباكستانية المصابة منذ تأسيسها بمرض اللاستقرار والاضطراب والعنف. أما الشق الثاني فهو الانتقام من حزب المؤتمر الذي حكم الهند طيلة العقود السابقة، وكان وراء ما لحق بالباكستانيين من هزائم مُرّة في ثلاث حروب وما أصاب كيانهم من تقسيم بانفصال جناحه الشرقي في 1971. هذا ناهيك عن وجود ثأر قديم بين الطرفين يعود الى مرحلة ما قبل استقلال شبه القارة الهندية. والمقصود بهذا حيلولة حزب المؤتمر دون طموحات محمد علي جناح - مؤسسة الدولة الباكستانية فيما بعد - دون البروز من خلال صفوفه كزعيم للأمة الهندية على قدم المساواة مع غاندي ونهرو، ما دفع جناح الى الانفصال والبحث عن الزعامة عبر الترويج لفكرة تقسيم الهند الى كيانين. وعلى الرغم من حقيقة ان مغازلة اسلام آباد لحكومة بهاراتيا جاناتا طوال الأشهر السابقة لأزمة كارغيل كان أمراً لافتاً للنظر ولا سابق لها في كل تاريخ العلاقات الباكستانية - الهندية، فهذا ما لا يدعو لتبنّي مثل هذه النظرية. الا ان واقع الحال اليوم يقول إن الباكستانيين، سواء أرادوا أو لم يريدوا، قد قدموا خدمة كبيرة لبهاراتا جاناتا وحلفائها على صعيد الانتخابات الهندية المقبلة، جعلتها في مقدمة الصفوف ومنحتها ثقة كبيرة في تحقيق انتصار كاسح على خصومها. وبطبيعة الحال فإن الصورة كانت مغايرة تماماً في نيسان ابريل المنصرم، حينما فقد هذا الحزب وحلفاؤه السلطة بفارق صوت واحد في اقتراع برلماني على الثقة، بما أنهى 13 شهراً من حكمه للهند تميزت بالضعف والتردد والمشاريع المثيرة للجدل، ليدير البلاد منذ ذلك الحين عبر حكومة تصريف أعمال استعداداً لانتخابات تشريعية جديدة وسط توقعات بتضاؤل فرصه. وتُجمع استطلاعات الرأي المتفرقة التي أجريت في الهند في منتصف الشهر الجاري، على ان أمام بهاراتيا جاناتا وحلفائه اليوم فرصة حقيقية لحصد ما مجموعه 280 - 300 مقعد من إجمالي مقاعد البرلمان الهندي لوك سابها البالغة 543 مقعداً، وبالتالي ادارة الهند وفق نتائج هذه الاستطلاعات، وهي موحدة بصفة عامة خلف زعيم واحد، وذلك للمرة الأولى منذ وقت طويل. ذلك ان ما بين 60 - 70 في المئة ممن استطلعت آراؤهم اشادوا بقيادة رئيس الحكومة اتال بيهاري فاجبايي، وأثنوا على طريقته في ادارة دفّة الأمور أثناء الأزمة الأخيرة مع باكستان، في وقت سيطر فيه موضوع الأمن القومي للبلاد على ما عداه من مواضيع. كما ان ما يقارب الخمسين في المئة من المشاركين في الاستطلاع تجنبوا انتقاد حكومة فاجبايي لفشلها في التنبؤ مسبقاً بالمخططات الباكستانية لدفع المتسللين عبر الحدود المشتركة، مثلما فعل خصومها من الأحزاب السياسية بتركيز شديد. وعلى الرغم مما صاحب فترة حكم بهاراتيا جاناتا للهند من ارتفاع في اسعار المواد الغذائية الأساسية ومن ازدياد لحالات العنف الطائفي ضد المسلمين والمسيحيين، معطوفاً على انتشار الفساد وركود الاقتصاد ووصول عدد من أصحاب السوابق الى السلطة التشريعية عبر قوائم الحزب الانتخابية، فإن 16 في المئة فقط ممن استطلعت آراؤهم قرروا ان حكومة فاجبايي كانت سيئة، وحملوها مسؤولية حدوث تلك الظواهر. وهذا، بدوره، يعكس مدى استعداد الشارع الهندي للمضي بعيداً مع أية حكومة تثبت صلابتها في مواجهة مسائل مثل الأمن القومي، وتأتي للبلاد بانتصارات سياسية أو ديبلوماسية أو عسكرية. وهذا تحديداً ما أنجزته حكومة فاجبايي التي لم تخرج من أزمة كارغيل منتصرة عسكرياً فحسب، بل حققت على هامشها نصراً ديبلوماسياً تمثل في تفهم قوى المجتمع الدولي الفاعلة، بما فيها الدول المعروفة تقليدياً بتحالفها مع اسلام آباد، للموقف الهندي. وعلى حين يزداد الأمل وتتعزز فرص الفوز المؤكد في معسكر القوميين الهندوس وحلفائهم، يقف حزب المؤتمر العريق في وضع لا يحسد عليه. فهو من بعد ان تحسنت فرصه للعودة الى السلطة مستفيداً من اخطاء حكومة فاجبايي على صعيدي الاقتصاد والأمن الداخلي، وكذلك من وجود زعيمة كاريزمية تنتمي الى الأسرة النهروغاندية على رأسه، أصبح متراجعاً عن بهاراتيا جاناتا بفارق 30 نقطة كنتيجة للبلاء الحسن الأخير في إدارة الصراع مع باكستان. ولعل ما ضاعف وضع حزب المؤتمر الانتخابي سوءاً مواصلته انتقاد حكومة باجبايي واتهامها بالعجز والقصور في حماية حدود البلاد أمام المتسللين، في وقت كانت هذه الحكومة في حرب مع أعداء البلاد. وهذا ما نظر اليه الكثيرون كغلطة قاتلة كان يفترض عدم الوقوع فيها. وأكبر دليل على حالة التراجع المفاجئة التي يعيشها الحزب أن المؤتمر الصحافي الذي عقدته زعيمته سونيا غاندي في الثالث عشر من الشهر الجاري، لإعلان برنامجها السياسي لم يحظ بالاهتمام أو التغطية المعهودة، وأثيرت فيه جملة من الأسئلة الحرجة التي تهربت غاندي من الإجابة عنها أو فشلت في اقناع مستمعيها بإجاباتها، ناهيك عن ظهورها مضطربة ومتنقلة ما بين الحديث بالهندية تارة وبالانكليزية تارة أخرى. وفي هذه الاثناء يبدو خصوم الحزب ومنافسوه كما لو كانوا في صدد فرض المزيد من التراجع عليه بإثارتهم جملةً من القضايا تتعلق بشخص وسيرة زعيمته اكثر من تعلقها ببرامجه السياسية، مثل أصلها الاجنبي ومعتقدها الكاثوليكي وانتظارها 11 عاماً قبل تقدمها بطلب الحصول على الجنسية الهندية، ناهيك بطبيعة الحال عن دورها في صفقة مدافع بوفور السويدية التي أبرمها زوجها راجيف غاندي في الثمانينات، ويقال انه ومقربين منه ومن عائلة زوجته حصلوا من ورائها على عمولة تصل الى 12 مليون جنيه استرليني. والمفارقة هنا ان هذه المدافع ذاتها قد لعبت دوراً مهماً في تحقيق النصر العسكري الهندي الأخير في كارغيل، ومع ذلك لا يُكَفّ عن استخدامها كسلاح ضد حزب المؤتمر وزعيمته. ويمكن الإشارة الى أن ما يصعّب الآن تحسن فرص المؤتمر الانتخابية ان برنامجه السياسي المعلن يتضمن، الى جانب أمور أخرى، تعهداً بالتخلص من أسلحة الهند النووية وتوقيع معاهدة الحظر الشامل على التجارب النووية المعروفة اختصاراً باسم CTBT في حال وصوله الى السلطة. ومثل هذا التعهد يعتبر في هذا الوقت بالذات تخاذلاً، ولا يجذب الناخب في شارع تسيطر عليه مسائل الأمن القومي على ضوء ما ثبت لديه من تهديد باكستان لأراضيه، واستعدادها لخلق المزيد من المتاعب حتى ولو وقّعت عشرات الاتفاقات المشابهة لإعلان لاهور. وجملة القول إن ما تحقق لبهاراتيا جاناتا من تقدم، وما أصاب المؤتمر من تقهقر، ما كانا ليحدثا بهذه الصورة لولا العامل الباكستاني المتمثل في قيام المؤسسة العسكرية الباكستانية بالعبث بخط الهدنة الفاصل في كشمير، وهو العبث الذي كاد ان يتكرر في الاسبوع الماضي بصورة مختلفة عند الحدود الفاصلة ما بين ولايتي السند الباكستانية وكوجرات الهندية، لأسباب مختلفة ايضاً، تتعلق هذه المرة بإرسال رسالة الى الشارع الباكستاني المنقسم على نفسه مفادها: ان جيشه لا يزال صامداً والتزامه بما يراه قضية قومية باقٍ.