يجمع المراقبون على ان انعطافاً سياسياً حاسماً قد حصل في لبنان، مع انتقال الحكم من الرئيس الياس الهراوي الى الرئيس اميل لحود. غير ان هذا الاجماع يميل الى الانحسار نسبياً عندما يتناول البحث مدى قدرة - او قابلية - هذا الانعطاف السياسي على التمهيد لانعطاف مواز على الصعيد الاقتصادي. فالواقع الاقتصادي على الساحة اللبنانية يبدو اكثر عناداً من الواقع السياسي في مواجهة التغيير، حيث ان العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة في كل من هذين الواقعين لا تبدو متطابقة، على الاقل في المدى القصير. والمسألة الاساسية في هذا المجال تتمثل في كون التركة الاقتصادية والاجتماعية التي ورثها العهد الجديد، تركة ثقيلة جداً تحمل في ثناياها بصمات المفاعيل الطويلة الاجل للحرب اللبنانية اضافة الى بصمات النتائج المتناقضة للسياسات التي انتهجت خلال الحقبة الحريرية. ففي اختصار شديد، ينطلق العهد الجديد من اوضاع اقتصادية واجتماعية تتميز بالسمات والمعطيات الاساسية الآتية: اتجاه نحو تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي التي يرجح ان لا تصل العام 1998 الى ثلث المستويات التي كانت توقعتها الخطط الاعمارية المتعاقبة، مع الاشارة الى ان هذا التباطؤ يعود الى عوامل عدة متشابكة، من بينها عدم الاستثمار الامثل لما تبقى من ميزات نسبية للاقتصاد اللبناني، وتراجع التوظيفات المنتجة كنسبة من الناتج المحلي القائم، والانعكاسات السلبية للسياستين النقدية والمالية على الصعيد الماكرو - اقتصادي، اضافة الى ضعف علاقات الارتباط بين الورشة الاعمارية وحركة الاقتصاد. استمرار المستوى الشديد الارتفاع للعجز في الموازنة، وبالتالي للدين العام، بالرغم من مؤشرات التحسن الجزئي التي سجلت العام 1998. فالعهد الجديد يبدأ مع نسبة عجز مالي فعلي لا تقل عن 45 في المئة، وحجم الدين العام يتجاوز 110 في المئة من الناتج المحلي القائم، اضافة الى حجم لخدمة هذا الدين يزيد عن 40 في المئة من اجمالي انفاق الدولة. كما انه يبدأ مع حجم قياسي للضرائب والرسوم غير المباشرة كنسبة من اجمالي الواردات الحكومية. تدهور قياسي في اوضاع الادارة العامة، بسبب استمرار تضخم عديدها الذي يبلغ نحو 215 ألف موظف اداري ومتعاقد ومتعامل، وكذلك بسبب انتاجية العمل المتدنية وغياب او نقص المحاسبة والتقييم والمراقبة، وشيوع وطغيان التدخلات السياسية الفوقية التي اقتطعت لنفسها مراكز نفوذ وولاءات داخل الاقنية التقليدية للادارة العامة او ركّبت في هذه الاخيرة "جزراً ادارية عصرية" موازية، خصوصاً في المواقع التي اعتبرها بعض المسؤولين السابقين حساسة بالنسبة الى استجلاب التمويل الاعماري الخارجي. استمرار المستوى المتردي للاوضاع الاجتماعية والمعيشية بسبب ضعف المداخيل عموماً، لا سيما الاجر الوسطي، وعدم فعالية التقديمات وشبكات الامان الاجتماعي، خصوصاً في مجالي الصحة والتعليم، هذا مع العلم ان آخر تصحيح للاجور في القطاع العام قبل اقرار السلسلة الجديدة التي ستطبق اعتباراً من مطلع 1999 يعود الى بداية العام 1996 وآخر تصحيح للاجور في القطاع الخاص يعود الى بداية العام 1997. ويكفي ان نشير - بحسب ما اظهرته الدراسات الاحصائية الوطنية المنفذة حديثاً - الى ان نحو 60 في المئة من الاسر في لبنان تحوز على دخل اجمالي شهري وسطي لا يقل عن 800 دولار، فيما متطلبات الحد الادنى للعيش اي ما يسمى "خط الفقر" تزيد عن هذا المستوى خصوصاً في المجال المديني، كي نتبين عمق المأزق على هذا الصعيد! لقد وضع البيان الوزاري وخطاب القسم الرئاسي، الاصبع على معظم هذه المشكلات، ولكنهما خلصا بوضوح لا لبس فيه الى ان نقطة الانطلاق في المعالجات المطلوبة يجب ان تبدأ من ضبط العجز في الموازنة، كمقدمة للسيطرة على الدين العام، لأن اي تهاون في هذا المجال لا يتهدد القطاع العام وحده بل يتهدد الاقتصاد الوطني ككل، وربما البلد والكيان. وتدرك الحكومة الجديدة جيداً، اذ تطرح على نفسها تحقيق هذا الهدف الرئيسي اي هدف ضبط العجز، انها ستصطدم بصعوبات موضوعية كأداء، اهمها اثنتان: الاولى، ان التركة الثقيلة على الصعيد المالي لا تقتصر على ما انتهى اليه العام 1998 من مؤشرات، بل تشمل ايضاً ما سبق لحكومة الحريري ان اقرته من نفقات يستحق دفعها او تسويتها العام 1999، كالسلسلة الجديدة للاجور ومفعولها الرجعي المبرمج والمتأخرات المتوجبة للمستشفيات المتعاقدة مع وزارة الصحة ولبعض متعهدي مشاريع الاشغال العامة، هذا بالاضافة الى ما قد ينتج عن تنفيذ هذه النفقات من زيادة في فاتورة خدمة الدين العام، مما يعني عموماً ارتفاعاً اضافياً تلقائياً في حجم الانفاق العام في حدود 1200 الى 1500 مليار ليرة لم يغط منه سوى الربع بفعل اجراءات الحكومة العام 1998. الثانية، ان مصادر تغطية هذا الانفاق المتوجب لا تبدو واضحة او محددة في الامد المنظور، مع الاشارة الى ان الحكومة، التي التزمت في بيانها الوزاري عدم المسّ بالطبقات المتوسطة والفقيرة، قد تلجأ اساساً الى تفعيل الجباية بما في ذلك جباية فواتير الخدمات وربما الى زيادة العبء الضريبي على مجتمع رجال الاعمال وشاغلي الاملاك العامة والميسورين، والى توسيع قاعدة المكلفين، في الوقت الذي لا يعدم هؤلاء الفرصة دون تكرار شكواهم - عن حق او عن غير حق - من تراجع معدلات النمو الاقتصادي في البلاد، وانعكاس ذلك سلباً على ارباحهم ومداخيلهم. هذا، في اختصار، التحدي الكبير الذي كتب على الحكومة الحصية ان تواجهه في المدى القصير، وان تعبئ له بالسرعة اللازمة الموارد الضريبية والمالية والادارية والبشرية والتشريعات المؤاتية. فهل تنجح في ردها على هذا التحدي؟ وهل تتمكن بالتحديد من تحقيق فائض اولي في حساب موازنة العام 1999؟ وهل تتمكن من ثم، انطلاقاً من هذا الفائض، من جعل نسبة نمو الدين العام تقل عن نسبة نمو الناتج المحلي القائم؟ وأي وسائل ووسائط وأدوات تسمح لها ببلوغ تلك الاهداف؟ وضمن اي افق زمني؟ في محاولة لبلورة بعض من عناصر الاجابة على هذه التساؤلات، يمكن تسجيل النقاط الآتية: 1 - ان استمرار الاتجاهات السائدة راهناً، على صعيد الواردات والنفقات العامة، لا ينبئ باحتمال السيطرة على العجز والدين العام، على الرغم التحسن الذي سجل في هذا الاطار العام 1998. ولعل هذه القناعة هي التي دفعت الحكومة الحصية الى تجاوز مشروع موازنة العام 1999، المعد من جانب الحكومة السابقة، والى الوعد بإعداد مشروع بديل تنعكس فيه ملامح الاصلاح الاداري والضريبي الذي بدأ بتنفيذ خطواته الاولى، خصوصاً على مستوى التعيينات والمناقلات الادارية، والذي يرجح ان يطاول لاحقاً البنية الضريبية الاساسية للبلاد. 2 - لكن بالنظر الى ان المفاعيل الاساسية لأي اصلاح اداري وضريبي لن تظهر او تكتمل الا في المديين المتوسط والبعيد، وبالنظر كذلك الى صعوبة بل استحالة توقع ارتفاع قياسي قصير الاجل في معدلات النمو الاقتصادي والاقتطاع الضريبي او انخفاض قياسي في حجم الانفاق العام على نحو يؤدي الى السيطرة على العجز والدين العام... بالنظر الى هذا العامل وذاك، ينبغي الاقرار بأن اوضاعاً استثنائية كالتي نعيشها تتطلب حلولاً ومعالجات هي الاخرى ذات طابع استثنائي. 3 - بين المعالجات الاستثنائية، ثمة شق غير مرغوب فيه، لا بل مرفوض طالما بقيت الشروط الموضوعية لهذا الرفض قائمة. والمقصود بهذه المعالجات، المراهنة على التضخم الفالت او على التدهور الحاد والسريع في سعر صرف العملة الوطنية، بهدف الحد عملياً من قيمة الدين العام، او على الاقل، من قيمة الجزء الداخلي منه. فلا احد يستطيع ان يجزم اذا كانت "المنافع" المتأتية عن مثل هذا الخفض في قيمة الدين العام توازي حجم الاضرار الناتجة عن عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وربما السياسي الذي غالباً ما يرافق فلتان معدلات التضخم وأسعار الصرف مثال روسيا وبعض بلدان أوروبا الشرقية سابقاً. بيد ان هذا ينبغي ان لا يحول دون استخدام قدر مضبوط من التضخم وتأرجح العملة الطبيعي في محاولة للسيطرة على الدين. ومن بين المعالجات الاستئنائية المرفوضة ايضاً اللجوء الى موجات تسريح جماعية في مؤسسات القطاع العام من دون تصور بدائل لاستيعاب جيش المسرحين. 4 - اما الشق الثاني من المعالجات الاستثنائية، فإنه يغطي عدداً من المجالات اهمها، الآتي: اولاً: اللجوء الى تخصيص بعض المرافق التي انتقلت ملكيتها في الماضي بشكل قسري الى القطاع العام، والتي لا ترتبط عضوياً بما يتعارف على تسميته ب"الخدمة العامة" Public Service ومن بين هذه المرافق شركة طيران الشرق الاوسط وشركة أنترا وكازينو لبنان ومصفاتا التكرير وبعض انشطة شركة الريجي التي لا يمكن البت النهائي بمصيرها قبل تنفيذ مشاريع الري وإحلال بدائل تدريجية لزراعة التبغ، خصوصاً في الجنوب اللبناني. وفي جميع هذه الحالات، يجب التقيد بالشروط التي حددها البيان الوزاري، لجهة ايجاد قانون عام للتخصيص واعتماد الشفافية والمراقبة الصارمة على النوعية والاسعار والتطور التقني ومنع تشكل الاحتكارات والحفاظ على حقوق العاملين... على ان يؤول استخدام حصيلة هذا التخصيص حصراً لغرض تثبيت حجم الدين العام واطفائه. ثانياً: البحث في امكان تسييل احتياط مصرف لبنان من الذهب واستخدام الفوائد المصرفية - او ارباح الاستثمار - المتأتية عن هذا التسييل، لأغراض انمائية من دون المسّ بالقيمة الاصلية لهذا المخزون، التي ينبغي ان يبقى التصرف بها خاضعاً لقرار من المجلس النيابي. ومما يعزز الحاجة الى حصر استعمال تلك الفوائد في تمويل المشاريع الانمائية، ان السنوات الاخيرة شهدت تراجعاً تدريجياً في حجم الاستثمارات المخصصة لمثل هذه المشاريع، وربما كان ذلك من اسباب تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي. ثالثاً: اذا كان الاقتراحان السابقان يستهدفان اساساً تثبيت الدين من جهة وتمويل الانفاق الاستثماري الحكومي من جهة ثانية، فإن اجراءات اخرى يمكن اعتمادها، من شأنها ان تساهم في ضبط العجز السنوي في الموازنة. ففي انتظار تبلور عملية الاصلاح الضريبي وقيام نظام ضريبي متناسق جديد واكتمال تهيئة الاطر المؤسساتية والادارية والبشرية والمعلوماتية اللازمة لوضع هذا النظام فعلاً موضع التطبيق، يمكن البحث في المديين القصير والمتوسط في رفد العبء الضريبي على الدخل بآخر على الثروة ورأس المال. من ذلك مثلاً التفكير في فرض ضريبة، ولو معتدلة، على الارض والملكيات العقارية، مع مراعاة مساحات الاراضي ومواقعها وعدد المالكين... وذلك بالاستفادة من "الفهرس الهجائي" العقاري الذي سبق ان انجزته وزارة المالية. كذلك يمكن رفع معدلات الضريبة على توزيع الارباح، والبحث في امكان فرض ضريبة معتدلة على الفوائد المصرفية، وعلى الشقق الشاغرة... وفي جميع الاحوال ينبغي تجميع كافة حسابات الدولة في موازنة واحدة موحدة. ان اعتماد اي من هذه المعالجات الاستثنائية والاقتراحات يفقد مبرر وجوده - بل تصبح آثاره معكوسة وسلبية - ما لم يترافق مع شروط محددة: استمرار الارادة الجلية والواضحة في الاصلاح والتغيير السياسييين، وبناء دولة القانون والمؤسسات واحترام الحريات واعادة هيكلة الادارة العامة، وبالطبع التمسك الحازم بأهداف ضبط العجز والدين العام وامتلاك سلّم محدد للاولويات الانمائية... بما يعزز المرتكزات السياسية والاقتصادية والادارية لعملية التنمية ومناخ الاستثمار. فمن دون ترسيخ اتجاهات الاصلاح والتغيير هذه، لا شيء قد يحول دون تحقق "سيناريو الانهيار"