تنقسم الآراء حول الخطة الاقتصادية التي تنفذها الحكومة اللبنانية، ففي حين يعتبر بعضهم انها تتضمن ايجابيات كثيرة، تشير اكثر من دراسة علمية الى خطورة هذه الخطة وعدم خدمتها للاهداف الموضوعة. والمسائل التي تثير خلافات هي سياسة الانفاق وتثبيت النقد والواردات الحكومية والمديونية والتضخم والناتج المحلي والضرائب والاعمار والقطاعات المنتجة والانماء المتوازن وفرص العمل والبطالة والتفاوت الاجتماعي والأولويات الاقتصادية. "الوسط" حملت هذه العناوين - الاسئلة وطرحتها على الخبير الاقتصادي المعروف الدكتور كمال حمدان. بداية كيف تقومون بصورة عامة السياسة الاقتصادية في لبنان والتغير البارز في بنية الاقتصاد؟ هل من ايجابيات مقارنة بما تطرحه الدراسات من سلبيات؟ - لا يسع الباحث في معرض تقويمه للاوضاع الاقتصادية في لبنان، الاّ أن يلمس تحسناً طرأ على هذه الاوضاع بشكل عام خلال السنوات الاربع المنصرمة، لكن هذا التحسن لا يشكل سوى نصف الحقيقة، اذ تبرز في المقلب الآخر اختلالات عميقة لا يمكن تجاهل مفاعيلها على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي ما يتعلق بمؤشرات التحسن الايجابية يكاد الخطاب السياسي الرسمي لا يخلو بشكل يومي من التغني بها والحديث عنها، لا سيما ما يتعلق منها بارتفاع معلات النمو الاقتصادي وباستمرار التحسن التدريجي وان البطيء في سعر صرف الليرة الخارجي الذي هو نتاج تثبيت النقد منذ خريف عام 1992، ومن ذلك اعادة بناء المرتكزات الاساسية لسياسة الواردات الحكومية اي الضرائب والرسوم وما شابه، اضافة الى ما بوشر بانجازه من مشاريع الاعمار في مجالات البنى التحتية المختلفة فضلاً عن الانطلاقة وان الحذرة لمشروع اعادة اعمار الوسط التجاري ولمشروع السوق المالية. كما ينضح الخطاب الرسمي بالاتجاه الواضح نحو فوائض في ميزان المدفوعات بدل العجوزات التي كانت تسجل سابقاً، وتعاظم احتياط مصرف لبنان والعملات الاجنبية الذي بات في الوقت الحاضر يوازي عشرة أضعاف مثله ايام الحرب اللبنانية، كما يُشار الى التحسن الذي طرأ على صورة لبنان في الخارج وما نتج عن ذلك من عودة تدريجية للثقة في الاقتصاد اللبناني ومن تدفق للوفود الاجنبية الباحثة عن فرص توظيف او عن حصص في مشاريع الاعمار المعروضة للتلزيم، كما تسجل ايضاً عملية اعادة تأسيس الاطار التشريعي لسياسات الحكم الاقتصادية. ولعل أكثر ما يجري ترداده على مستوى الخطاب الرسمي هو ذلك الارتفاع الكبير نسبياً، الذي طرأ على حجم الناتج المحلي خلال هذه الفترة، والذي يعكس الزيادة الملموسة في مجموع القيم المضافة المنتجة محلياً، لكن هذه الصورة البهية للوهلة الاولى "والتي يتنافس اطراف الحكم على اعادة مزاياها الى جهودهم الخاصة، وعلى توظيفها في حملاتهم الانتخابية، لا تعكس سوى جانب من اللوحة الحقيقية للوضع الاقتصادي في لبنان. ماذا على مستوى "المقلب" الآخر، وما تشير اليه الاحصاءات بالنسبة الى الناتج المحلي وسياسة تثبيت النقد وهل حقاً استعادت الليرة اللبنانية قوتها وما تقويمكم للتضخم والغلاء؟ - بالنسبة الى الناتج المحلي صحيح انه ارتفع بالاسعار الثابتة بنسبة لا تقل عن 50 في المئة خلال السنوات الخمس، لكن مكونات هذا الناتج لم ترتفع بالنسبة ذاتها، بل سجل ارتفاعاً كبيراً في حصة الارباح الرأسمالية والفوائد وربما الريوع على حساب المكون المتبقي من الناتج أي الاجور. وتظهر حسابات احصائية تفصيلية، على سبيل المثال، ان وزن الفوائد كنسبة من الناتج المحلي تضاعف مرتين على الاقل خلال السنوات الاربع المنصرمة، مع العلم ان هذه الزيادة لم تكن من نصيب الشعب اللبناني بل القلة اللبنانية وغير اللبنانية، المقيمة وغير المقيمة، التي تملك فائضاً من الاموال وتوظفه في سوق سندات الخزينة المحلي. صحيح أيضاً أن "سياسة التثبيت النقدي" أثمرت تحسناً شبه متواصل في سعر صرف الليرة الخارجي حيث بلغت نسبته نحو 40 في المئة منذ أيلول سبتمبر 1992، الاّ أن هذا التحسن كان في الواقع ذا مفاعيل محدودة على غير صعيد، ذلك ان ارتفاع سعر صرف الليرة اللبنانية لم ينجح في جعل الليرة اللبنانية تستعيد كامل وظائفها السابقة، وبخاصة وظيفتها كأداة للتبادل والتوظيف. كذلك فإن من المفارقات أن تحسن النقد الذي بدا في جانب منه مصطنعاً بسبب الدعم الخفي وغير المنظور - المقدم من قبل السياسات الحكومية على شكل فوائد شديدة الارتفاع نسبياً - لم ينسحب تحسناً موازياً في القوة الشرائية للعملة الوطنية، ويشهد على ذلك ان استمرار ارتفاع صرف سعر الليرة تجاه العملات الاجنبية للسنوات الاربع على التوالي لم يحل دون استمرار التضخم والغلاء، وان بمعدلات اقل من تلك التي سادت خلال فترة الحرب، ويمكن القول في هذا المجال ان الليرة خسرت نحو نصف قوتها الشرائية في الفترة ما بين الفصل الاخير من عام 1992 واواسط عام 1996. أما بالنسبة الى اعادة تأسيس مرتكزات سياسة الواردات الحكومية، بما في ذلك الضرائب والرسوم وتعريفات الخدمات العامة، فإن هذه العملية انطوت على حيثيات ونتائج لا تخلو من محاذير وتناقضات. فقد استسهل الحكم اولاً تخفيف العبء الضريبي عن الشرائح العليا من رأس المال في وقت خرجت فيه الدولة من الحرب خاوية الوفاض، واستسهل الحكم ثانياً تعديل بنية العبء الضريبي، حيث اتجه نحو تركيز هذا العبء عبر الضرائب والرسوم غير المباشرة على الفئات المتوسطة والفقيرة، التي كانت الاكثر تضرراً من الحرب بسبب التضخم القسري الذي تجاوز المئة في المئة سنوياً خلال تلك الفترة، في حين خفض الضريبة على الارباح الى نحو ثلث ما كانت عليه، في ظل القانون الضريبي السابق. واستسهل الحكم ثالثاً إدخال زيادات قياسية على اسعار الخدمات العامة، من دون ان يأخذ في الاعتبار الواقع المرير الذي آل اليه مستوى المداخيل بالنسبة الى السواد الاعظم من اللبنانيين، حيث اصبحت تعرفة الكهرباء وحدها توازي نصف قيمة الحد الادنى للاجور، في حين ان هذه النسبة لا تزيد عن خمسة او عشرة في المئة من الحد الادنى في أي من البلدان الصناعية العريقة في اعتمادها على الاقتصاد الحر. واستسهل الحكم قبل هذا كله اختزال العوامل المعزرة لمناخ الاستثمار، في عامل رئيسي شبه وحيد مستمد من مقولة الفردوس الضريبي، متناسياً دور العوامل الاخرى الاكثر تأثيراً في هذا المناخ، بحسب ما تظهره تجربة البلدان الأخرى، كالاستقرار السياسي والنقدي والمالي وطبيعة التشريعات وشفافية الادارة العامة واداء القطاع العام، ومستوى تأهيل الموارد البشرية ناهيك عن مدى احترام حقوق الانسان واحترام الحريات ومدى انتشار الطبقة الوسطى وانساق متقدمة نسبياً من نمط العيش وغير ذلك من العوامل. يضاف الى تلك الاختلالات ايضاً، عدم المساواة المناطقية في تطبيق السياسة الضريبية، بشكل لا يخلو من الارتجال والتمييز وتحمل بصمات وتأثيرات الامر الواقع. وكان حرياً ان يتجه الاعفاء الضريبي نحو مناطق بأكملها، كما هو واقع الحال، بل نحو الفئات الاجتماعية المسحوقة المنتشرة في غير منطقة. الانفاق ولعنة الاقتراض تطرح آراء اقتصادية تخوفات من مسألة الانفاق العام وما يحدثه من خلل على مستوى الدين العام الداخلي والخارجي. ما رأيكم؟ - مما لا ريب فيه ان المشكلة الكبرى تتمثل في الانتفاخ الذي طرأ على الانفاق العام خلال السنوات الخمس المنصرمة. فقد تضاعف حجم هذا الانفاق اكثر من ثلاث مرات خلال هذه الفترة، مع العلم ان هذه الزيادة خصصت في معظمها لتمويل نفقات عادية ومكررة وغير منتجة، اذ يُستفاد من تحليل الموازنات السنوية المتعاقبة، أن ما خصص من تلك الموازنات لاغراض انمائية الجزء الثاني من الانفاق، ظل شبه ثابت في حدود 15 في المئة الى 18 في المئة من اجمالي الانفاق العام، في حين أن تمويل المشاريع الاعمارية تم في معظمه من خارج الموازنة، عن طريق الاقتراض الخارجي من الدول والمؤسسات الدولية، وكذلك من السوق المالية العالمية. ونتيجة لهذه السياسة تفاقم الخلل على مستويين، مستوى الدين العام الداخلي الصافي الذي قارب 5،7 مليار دولار في نهاية شهر تموز يوليو 1996 بزيادة نسبتها 26 في المئة بالمقارنة مع ما كان عليه في نهاية العام 1995، ومستوى الدين العام الخارجي الذي قارب 53،1 مليار دولار في نهاية تموز الماضي، بزيادة نسبتها 18 في المئة عما كان عليه في نهاية العام الماضي. وبالطبع فإن الاقتراض الداخلي والخارجي لا يعتبر من حيث المبدأ "لعنة"، بل ان اللعنة المحتملة قد تتأتى من سوء استخدام هذه القروض، وعجز الدولة والمجتمع عن الاستفادة القصوى منها في آجال زمنية مناسبة. ولا شك في أن هذه المسألة، في الاطار اللبناني، هي موضع اجتهادات ذات طابع خلافي، حيث ان شكوكاً كبيرة تحيط بمدى كفاءة وفعالية استخدام هذه الموارد الداخلية والخارجية المقتطعة من قبل الدولة. محاذير المشروع الاعماري كيف تنظرون الى المشروع الاعماري للبلاد في ظل المعطيات السياسية والامنية النسبية، وما هي محاذيره الاقتصادية والاجتماعية وطرق تمويله؟ - ان خطوات لا بأس بها انجزت على صعيد تنفيذ مشاريع الاعمار، الاّ أن ذلك لا يعفي من تسجيل عدد من الملاحظات في هذا الصدد منها ان ثمة رأياً متزايداً يفيد بأن حجم المشروع الاعماري، لا سيما ما يتعلق منه بالخطة العشرية التي تقدر مخصصاتها بنحو عشرين مليار دولار، لا تتناسب مع بلد لا يزال في السنة السابعة على التوالي يعاني من عجز في الموازنة، يكاد يزيد عن الخمسين في المئة، ويصل اجمال دينه العام الى نحو ثمانين في المئة من ناتجه المحلي القائم. كذلك فإن مشروعاً طموحاً كهذا لا يتناسب من جهة اخرى مع الواقع الراهن للادارة العامة والموارد المادية والبشرية المتاحة لديها، في وقت لا تلوح في الافق ارادة سياسية لاجراء اصلاح حقيقي في البنى الادارية للدولة، بل يستعاض عن هذا الاصلاح المنشود بمحاولات تكنوقراطية فوقية متواضعة، او بمحاولة تركيب جزر ادارية عصرية على هامش القطاع العام المترهل، من دون ان يكون ثمة تصور مسبق لعملية دمج تلك الجزر في صلب المرافق الادارية للدولة. مع التذكير هنا بأن كل المحاولات الاصلاحية السابقة للادارة العامة في لبنان، اصطدمت بحائط مسدود، كونها لم ترتبط باجراء اصلاح سياسي للعلاقة بين الطبيعة السياسية من جهة، والقطاع العام من جهة ثانية. ولا يتوقف الجدل عند هذه الحدود، بل يتعداها الى مجالات اخرى، فالشكوك تحيط ايضاً بالاولويات القطاعية والمناطقية للمشاريع الاعمارية المختلفة، حيث تبرز المخاوف من جديد نحو اضطلاع العاصمة مجدداً بدور استقطابي ساحق للسكان والنشاط الاقتصادي، بعدما كانت سادت خلال سنوات الحرب اشكال من اللامركزية الاقتصادية القسرية التي فرضتها ظروف الاقتتال الداخلي، والتي انتعشت بموجبها مناطق طرفية ما لبثت ان اتجهت مجدداً نحو التلاشي والافول، بفعل الآليات الجديدة للعملية الاعمارية الجاري تنفيذها. وكان حرياً بتلك الاولويات، أن تأخذ في الاعتبار أهمية تخصيص القطاعات المنتجة - وبالتالي المناطق الموطنة فيها - على نحو لا يحصر معظم الانفاق الاعماري، بل كله في مرافق البنى التحتية وحدها كما هو حاصل الآن. ولا بأس من التذكير في هذا المجال بأن مشاريع كل من مصرف الانماء الصناعي والانماء الزراعي وغيرها من المشاريع ذات الطابع الانمائي، التي اقرت منذ سنوات، لا تزال مجمدة الى الآن، وهذا ما ينعكس على النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص، لا سيما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة داخل العاصمة وفي المناطق الاطراف، مع العلم بأن هذه المؤسسات في معظمها هي في منأى عن شبكات التسليف المصرفي التجارية السائدة، التي يذهب نحو 75 في المئة من اجمالي تسليفاتها الى عدد محدود من المستفيدين، لا يتجاوز الخمسة في المئة من اجمالي زبائن المصارف الذين يتحدر معظمهم من نحو مئتي أسرة لبنانية اصلية او مجنسة تمسك بزمام الاقتصاد اللبناني. اما في صدد نسق تمويل المشروع، فتطرح تساؤلات جدية ايضاً، ويفيد التذكير بأن الاقتراض الخارجي ليس سلبياً من حيث المبدأ، لكن ثمة مخاوف من أن يُستدرج لبنان بقصد او غير قصد نحو الاعتماد المتزايد على هذا التمويل، الى درجة لا يعود قادراً معها على الايفاء بموجبات هذا الاقتراض، لجهة سداد الدين الخارجي المستقبلي وخدمته، خصوصاً اذا حالت ظروف سياسية اقليمية او داخلية غير متوقعة، دون تمكن لبنان من الاضطلاع بالادوار والوظائف الاقتصادية التي يفترضها ضمنا المشروع الاعماري الطموح الجاري تنفيذه راهناً. من هنا فإنه كان حرياً اعتماد نوع من "التمرحل" في تنفيذ هذا المشروع، بحيث يتزامن التقدم التدريجي في هذا التنفيذ مع نضج الاحتمالات والامكانات الموضوعية المتاحة للبنان، داخلياً واقليمياً، وكذلك مع اتساع القدرة الاستيعابية للدولة والقطاع الخاص والمجتمع ومع الاعداد المهني الافضل للموارد البشرية. واذ لا يُنكر على المشروع الاعماري تضمنه نفقات ذات طابع اجتماعي، كالانفاق على المؤسسات التربوية والصحية وغيرها، الاّ أن الخوف، كل الخوف، ينبع من الشكوك التي تبقى حتى إشعار آخر قائمة في شأن من سيتولى ادارة هذه المرافق العامة، وكيف ستتحقق تلك الادارة، وهل ان خدماتها ستصل فعلاً الى مستحقيها، ام انها ستبقى اسيرة لعبة الانتفاع المذهبي والطائفي والعائلي، الذي يتنافى مع "العقلانية الاقتصادية" لادارة الشأن العام. وأخيراً لا بد من الاقرار بأن المفاعيل المباشرة للمشروع الاعماري على الدورة الاقتصادية اللبنانية، لم تكن في مستوى ما كان متوقعاً منها. ويشهد على ذلك الشعور المتزايد بوجود ركود اقتصادي في البلد، غلى رغم ارتفاع ملحوظ في الناتج المحلي القائم، ذلك ان جزءاً لا يستهان به من هذا الارتفاع، امتص من قبل اصحاب الفوائد والريوع والعمولات، بما في ذلك العمولات التي اقتطعها بعض أهل الحكم عبر تلزيمات مشاريع القطاع العام. كذلك برز أثر انكماشي مماثل، من جراء انخراط اعداد ضخمة من العاملين غير اللبنانيين في سوق العمل المحلية، وبخاصة في اطار تنفيذ المشاريع الاعمارية المختلفة، من دون ان يكون للدولة اي دور ضابط وموازن على هذا الصعيد. وهذا ما يفسر اتجاه معدلات البطالة نحو الارتفاع، حيث ان النسبة لم تكن تتجاوز العشرة في المئة عام 1987، بحسب ما أظهرته دراسة الجامعة اليسوعية "حول النزوح القسري الداخلي"، وباتت الآن تلامس عتبة 15 في المئة حسب التقديرات المتداولة من جانب منظمة العمل الدولية. وفي ضوء ما سبق، ومن دون التقليل من اهمية ما أنجز الى الآن، فإن ثمة حاجة في ضوء المعطيات السياسية الاقليمية والداخلية والاقتصادية والمالية والادارية الراهنة، الى تقييم مسيرة الاعمار وفرز نقاط القوة عن نقاط الضعف فيها، وصولاً الى ما قد يقتضيه ذلك من اعادة نظر في حجم المشروع الاعماري - بحيث يصبح اكثر تناسباً مع حجم الناتج المحلي - وفي اولوياته القطاعية والمناطقية وكذلك في مصادر تمويله وفي متطلباته على مستوى ادارة القطاع العام. كيف تقومون الواقع الاجتماعي في ظل المعطيات المتاحة وما آلت اليه الطبقة الوسطى؟ هل تلمسون انفراجاً معيشياً؟ وهل يمكن للمجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي نصت عليه وثيقة الطائف أن يلعب دوره؟ - إن المسألة الاجتماعية تبرز اليوم، على رغم التحسن الاقتصادي، كنقطة ضعف رئيسية في سياسة الحكم، وهي تهدد ما لم يتم تداركها، مجمل البناء الذي ارسيت قواعده الاساسية في السنوات الاربع المنصرمة. ان المعطيات المتاحة لدينا لا تشير الى حصول انفراج او تحسن حقيقي في الاوضاع المعيشية للمواطنين خلال هذه الفترة. فقد حصل تدهور فعلي في القوة الشرائية للنسبة العظمى من الاجراء الذين يشكلون نحو ثلثي اجمالي القوى العاملة، وذلك بفعل عدم التناسب الحاصل منذ عام 1992 بين التضخم المتراكم من جهة وتصحيحات الاجور المتراكمة من جهة ثانية. ويستفاد من المعطيات المتاحة ان نسبة التدهور هذه قد لا تقل عن الثلاثين في المئة، في وقت لم يطرأ تغير يذكر على القيمة الفعلية للتقديمات الاجتماعية بالنسبة الى الاسرة، فإن الفئات المتوسطة تجد نفسها مضطرة أكثر فأكثر الى تخصيص موارد متزايدة من موازناتها لتغطية نفقاتها في مجالي التعليم والاستشفاء، بحسب ما تظهره الدراسات الميدانية المنفذة اخيراً. فالانفاق الوسطي على التعليم، في المدارس الخاصة غير المجانية، يكاد يصل الى نحو 1500 دولار للتلميذ الواحد في مرحلة التعليم ما قبل الجامعي، أي الى نحو ثماني مرات الحد الادنى للاجور. كذلك فإن اجمالي ما تنفقه الاسرة الوسطية على الصحة يقدر سنوياً بنحو 1400 دولار اميركي، تضاف الى ما يدفع عنها للغرض نفسه من جانب مؤسسات التأمين الخاصة والعامة، بما فيها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. ولا تقل الكلفة الوسطية التي تتكبدها الاسرة سنوياً في مجال النقل عن 1600 دولار اميركي. وقد اظهرت دراسات حديثة ان خط الفقر للاسر التي تعيش في مجال مديني يقدر بنحو 800 دولار شهرياً عام 1996. وهذا يعني ان الحد الادنى للاجور البالغ نحو 200 دولار لا يمثل راهناً سوى 25 في المئة من هذا الخط في حين انه كان يوازي نحو ثلثي خط الفقر عشية الحرب عام 1974. وتعكس هذه الارقام، بشكل عام، انهيار شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، لا سيما في أوساط الاجراء والسكان الريفيين والخريجين الجدد والشباب، مع تركز مظاهر الفقر والتهميش بقوة اكبر لدى الاناث مما لدى الذكور. وبالنسبة الى الشباب بالذات، فإن المستقبل يكاد يكون مسدود الافق تماماً، بالنظر الى واقع الخلل المريع بين مستويات الدخل المتاحة لهم من جهة، ومستوى تكاليف المعيشة الشديدة الارتفاع من جهة ثانية. وهذا ما يرخي ستاراً من الاحباط والعبث بل واليأس على شرائح واسعة منهم، مع ما قد يحمله ذلك في ثناياه من احتمالات تطرف وتفجر تصعب السيطرة عليها. ان استمرار التعامل بخفة مع المسألة الاجتماعية ينطوي على مخاطر جمة. وليس من الجائز في هذا الاطار استمرار اعتبار الحل المنشود لهذه المسألة، بصفته ثمرة عفوية وطبيعية للنمو الاقتصادي وحده. وقد دلت التجربة أن النمو الاقتصادي، المحكوم حصراً بآليات السوق، لا يكفل توفير مثل هذا الحل، بل المطلوب، على غرار ما حصل في سائر البلدان الصناعية العريقة في اعتمادها على الحرية الاقتصادية، ان يأتي هذا الحل كتتويج لاصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية شاملة تتناول اضافة الى المرتكزات الماكرو - اقتصادية لسياسات الدولة، مجمل توجهات السياسة الاجتماعية الراهنة، بما يفضي الى علاقة اكثر توازناً بين النمو الاقتصادي من جهة، وتوزع الثروة والدخل من جهة ثانية. ومن الطبيعي ان تتضمن تلك الاصلاحات اعادة النظر في توزيع العبء الضريبي بين الطبقات الاجتماعية المختلفة وفي حجم الخدمات العامة واسعارها وانواعها وفي سياسة الاجور والمداخيل والضمانات الاجتماعية وفي الآليات الناظمة لسوق العمل، لا سيما العلاقة بين النظام التربوي واحتياجات سوق العمل، وفي نسق انتاج وتوزيع خدمات التعليم والصحة والسكن والنقل الخ... ان لبنان بحاجة ماسة الى ميثاق يعيد انتاج التوازن بين اطراف العقد الاجتماعي. وربما يشكل انشاء المجلس الاقتصادي الاجتماعي - اذا لم تتدخل علاقات الانتفاع والمحاصصة الطائفية والمذهبية والشخصية في رسم ملامحه - الاطار المناسب لوضع المعالجات المطلوبة للمسألة الاجتماعية. وقد يتعاظم الالحاح لقيام مثل هذا المجلس، في ضوء النتائج التي افضت اليها الانتخابات النيابية الاخيرة، التي انطوت على مزيد من الاستقطاب على مستوى التمثيل السياسي، وهو استقطاب قد لا يسهل بالضرورة حل المسألة الاجتماعية بل قد يعقّد على الارجح توفير مثل هذا الحل. والمجلس الاقتصادي الاجتماعي المنشود قد يكون - بهذا المعنى - الوسيلة الوحيدة المتاحة للحؤول دون تفجر الاحتجاج الاجتماعي في الشارع.