الوضع الاقتصادي في لبنان هذه الايام، جزء من عملية التجاذب السياسي بين الحكومة والحكم من جهة والمعارضة من جهة اخرى، خصوصاً في ظل استمرار الازمة الاقتصادية - الاجتماعية. وفي وقت وعدت الحكومة الحالية باصلاحات اقتصادية تظهر نتائجها تباعاً، برزت تناقضات في ارقام توقعات النمو وعجز الخزينة لهذه السنة. ويتحدث وزير المال جورج قرم عن عوامل داخلية انعكست على تحرك الحكومة تمثلت "باختلاط العناصر الاقتصادية بالعناصر السياسية"، موضحاً أن "المعارضة استغلت حال الجمود الاقتصادي والمعاناة الاجتماعية لكي لا يحظى عمل الحكومة بالثقة". ويأخذ وزير المال على التقديرات في شأن تطور معدلات النمو الاقتصادي في لبنان الصادرة عن عدد من المصارف اللبنانية "جزمها" في اتجاه المعدل العام عن النصف الاول من السنة سلباً بنسبة 2 في المئة. ويعتبر ان هذه التقديرات ناتجة من اجتهادات مبنية على مؤشرات غير متكاملة خصوصاً في غياب محاسبة وطنية "National Accounts" صادرة عن المراجع الاحصائية الرسمية أي ادارة الاحصاء المركزي او مصرف لبنان. ويتفق الخبير الاقتصادي كمال حمدان مع هذا الموقف بقوله: "لا تتوافر معطيات محاسبية وطنية موثوق بها بحصول انخفاض في الناتج المحلي". ولا ينكر قرم حصول هذا التراجع في معدل النمو، وهو ينطبق على الفصل الاول من السنة. وقال ان "كل المؤشرات انقلبت ايجابية في هذه المرحلة واثبتتها غير جهة متخصصة تدل مؤشراتها الى عودة النمو". وعرض لمؤشر مصرف لبنان الذي حقّق زيادة نسبتها 7،5 في المئة من كانون الثاني يناير حين سجل 3،174 ليبلغ في حزيران يونيو مستوى 3،184. و يشير قرم الى التقديرات التي وضعها صندوق النقد الدولي في حزيران واستنتجت ان النمو سيكون ايجابياً بمعدل 2 في المئة. ويؤكد ان معدل النمو سيسجل في نهاية السنة ما بين 3 و4 في المئة، مستنداً الى معطيات نقدية ومالية تشير الى الاتجاهات السلبية التي برزت في الماضي بدأت بالتحول المحسوس نحو الايجابية. ويستغرب التقديرات السلبية التي صدرت أخيراً عن أحد المصارف في وقت بدأت المؤشرات تنقلب الى الايجابية. ويقول: "لو ظهرت هذه التقديرات عن الفصل الاول لما كانت وزارة المال اعترضت على هذه الارقام، لأن المؤشرات في تلك المرحلة كانت سلبية وكان يمكن ان يقال ان النمو سلبي بواحد او ثلاثة ارباع ونصف في المئة". ويضيف: "في غياب عناصر المحاسبة الوطنية، فإن أي جهد تقديري لمعدلات النمو هو اجتهاد. ولكن الجزم بأن النمو سلبي في نهاية آب اغسطس هو في غير محله لأن معظم المؤشرات انقلب ايجاباً". وفيما يعتبر الخبير حمدان ان "لا معطيات محاسبية وطنية موثوق به متوافرة عن حصول انخفاض في الناتج المحلي". يقول: "في شكل عام ثمة منهجان محاسبيان لقياس قيمة الناتج المحلي، اولهما ينطلق من تقدير قيمة الانتاج او المستخرجات "Out Put" منقوصة منها قيمة المدخلات "In Put". والثاني يحاول تقدير قيمة مكونات الناتج المتمثلة اساساً بالأجور والأرباح الرأسمالية والفوائد والريوع". ويضيف: "من نافل القول ان القواعد الاحصائية المتاحة راهناً لا تسمح بتقدير قيمة الناتج عبر أي من هذين المنهجين. ولكن يمكن الاجتهاد خصوصاً بالنسبة الى الثاني في شأن وجهة تطور مكوّنات الناتج. كالقول مثلاً ان حجم الفوائد لم ينخفض عام 1999 من حيث قيمته المطلقة، على رغم الاتجاه الذي برز أخيراً نحو التراجع الطفيف في معدلات الفائدة. كذلك يمكن التكهن على الأرجح بأن الحجم الاجمالي لقيمة الاجور لم ينخفض عام 1999 لأن من الصعب خفض مستوى الاجور الاسمية للعاملين". ويتابع: "اذا كانت حصلت موجات من التسريح ، يمكن الافتراض ان قوة عمل اضافية دخلت سوق العمل المأجور، او ان زيادات فعلية في اجور بعض العاملين الآن حصلت، ما يجعلنا لا نستبعد ان تكون فاتورة الاجور الاجمالية حافظت على مستواها الفعلي. ولكن من الصعب التكهن بوجهة تطور القيمة المطلقة للارباح الرأسمالية التي قد تكون انخفضت ولا احد يجزم بنسبة انخفاضها او ثباتها او ارتفاعها". ويشير إلى ان "في ظل هذه الصعوبات الحقيقية، لا يفضي اي من المنهجين المذكورين راهناً الى استنتاجات حاسمة لجهة وجهة تطور الناتج". ويقول: "وفيما يتجاوز هذان المنهجان المعتمدان في الدول التي تمتلك قواعد للمحاسبة الوطنية، يلجأ البعض الى نماذج اقتصادية قياسية "Econometric Model" لملء الفراغ ووضع تقديرات للناتج. وربما على اساس مثل هذه النماذج يتم الآن تداول بعض الارقام عن انخفاض الناتج المحلي القائم في لبنان". ويوضح حمدان "ان عدم اطلاعنا على تفاصيل فرضيات هذه النماذج لا يتيح لنا الجزم بصحة استنتاجاتها. علماً ان اي نموذج اقتصادي قياسي مهما اكتملت عناصره يبقى مترافقاً مع هوامش ثقة تزيد نسبتها صعوداً وهبوطاً عن نسبة الانخفاض التي يتم تداولها راهناً". ويضيف حمدان: "لا اريد ان اقلل من حجم الجهد المبذول على اعداد مثل هذه النماذج، لكن هذه الاخيرة قد تصل بحسب الفرضيات المعتمدة الى نتائج متعاكسة كما نرى الآن من خلال ما يقول به بعض النماذج من انخفاض في الناتج عام 1999. وما يشير اليه في المقابل النموذج البسيط المطور من جانب مصرف لبنان من ارتفاع في "المؤشر التحليلي" المعبر في شكل غير مباشر عن وجهة تطور الناتج، بدءاً من كانون الثاني 1999". وينتهي حمدان الى ترجيح نسبة ايجابية للنمو فيقول: "اذا استمر هذا المؤشر التحليلي البسيط على تحسنه خلال ما تبقى من العام، فإن فرضية انخفاض الناتج تصبح غير مرجّحة". وترافقت موجة التناقضات في الارقام مع كلام لرئيس الحكومة سليم الحص في إحدى جلسات مجلس الوزراء عن حصول انفراجات في الاوضاع الاقتصادية فضلاً عن كلام لوزير المال اخيراً على بدء بروز نتائج التنقية المالية، بينما تستفحل الازمة الاجتماعية والمعيشية ويستمر التباطؤ الاقتصادي. ويقول قرم ان "هناك معاناة اجتماعية تعترف بوجودها الحكومة اللبنانية تعيشها الفئات المحدودة الدخل. وهي بدأت مع موجة المضاربات على الليرة اللبنانية وانهيار سعر صرفها. وكانت الضربة القاسية في العام 1992، حين استهدفت القدرة الشرائية لدى الفئات التي تتقاضى رواتب بالليرة اللبنانية. واستمرت هذه المعاناة حتى في السنوات التي شهدت حركة اعمارية على رغم تسجيل النمو معدلات مرتفعة نسبياً. اما التباطؤ فقد بدأت تظهر دلائله منذ اواخر العام 1995، وتوقّعت في حينه، وكذلك اقتصاديون آخرون، ان تؤدي السياسة الاعمارية المتّبعة لا محالة الى اختناقات مالية ونقدية واقتصادية ستضغط على الاقتصاد اللبناني وإلى توقف النمو". ويتحدث قرم عن "مؤشرات كانت قائمة عند تسلم الحكومة مهماتها تدل الى وجود ثلاث أزمات: 1 ازمة في القطاع العقاري الذي يعد من القطاعات المهمة في لبنان. بعد ان تكوّن عرض بنيوي فائض عن أي طلب بالنسبة الى مواصفات ما هو معروض في السوق وذلك بفعل السياسات الخاطئة الماضية. 2 ازمة المالية العامة بفعل النتائج الاصطناعية التي حصلت عليها الحكومة السابقة لعدم اعترافها بالمتأخرات. وهو اسلوب غير عادل ومسيء الى الاقتصاد بتمويل عجز متفاقم. فوضعنا حداً لمعاناة المقاولين والمستشفيات واصحاب الاملاك بدفع جزء من المتأخرات. 3 ازمة ميزان العمليات الجارية وميزان المدفوعات. فالزيادات التي حصلت في مستويات الاستيراد ناتجة عن الفورة وتعوّد اللبنابيين على العيش بمستويات غير مبررة وغير قابلة للاستمرار، الى بدء تراجع الاستيراد في العام 1998. وقد أدى تشابك كل هذه الاتجاهات الى جمود حاد بل سجل مؤشر مصرف لبنان في كانون الثاني من هذه السنة تراجعاً نسبته 10 في المئة في مقابل المؤشر في كانون الاول ديسمبر، وهو مركب من مؤشرات فرعية عدة". وكان لتغير الحكم في لبنان تأثير في الاسواق اللبنانية. ويقول قرم: "تضاف الى كل هذه العوامل حال الترقب التي سادت السوق اللبنانية وعدم وضوح الرؤية لدى المستثمرين مع وصول الحكومة الجديدة واعلان الاصلاحات. وكنا واضحين في طرق معالجة ازمة المديونية العامة وهي ثنائية ترتكز الى التخصيص من جهة والاصلاح الضريبي من جهة اخرى، وقد واجهت هذه المعالجة معارضة. في هذا الوقت، استمر ميزان المدفوعات سلبياً في الاشهر الثلاثة الاولى من السنة. وهنا أشير الى ان ميزان المدفوعات سجل عجزاً في العام 1998 لم يسجله سابقاً بلغ نصف بليون دولار. فكانت الاوضاع في الفصل الاول من السنة استمراراً لهذه الاتجاهات السلبية". ويرى قرم ان "الوضع بدأ يميل الى المؤشرات الايجابية بعد الفصل الاول، بعد اعداد الخطة الخمسية للاصلاح المالي واعلانها الى الرأي العام والمجلس النيابي، ثم تبعتها مناقشة مشروع الموازنة، وقد شرحنا خلالها آلية الاصلاحات الضريبية. ونعتبر موازنة 1999 حجر الاساس في تركيز برنامج الاصلاح الذي دخل طور التنفيذ مع المصادقة على الموازنة. وهي المرة الاولى في لبنان بعد الحرب تعد حكومة لبنانية برنامجاً للخروج من أولى الازمات وهي الازمة المالية والنقدية، لأنّ اي تأسيس لنشاط اقتصادي مستقبلي قابل للاستمرار يستلزم تنقية في حال التورم المالي والتأزّم الذي كان قائماً في السنوات السابقة وكان يترجم بمستويات الفوائد التي خنقت الاقتصاد وقد وصلت الى 45 في المئة. فضلاً عن عمليات دعم الليرة اللبنانية التي كلّفت كثيراً ورتّبت زيادة في الدين العام". ويلفت الى "المفارقة المتمثلة بالتأييد العارم للسياسات الاعمارية وحال عدم الثقة الفعلية في هذه السياسات والتي كانت تترجم بتأزم في سوق القطع وسندات الخزينة". ويعمل قرم حسب ما قال ومنذ تسلمه مهمات وزارة المال "على فك عناصر التأزم المالي تدريجاً". ولاقت السياسة التي اتّبعتها الوزارة تأييداً من "صندوق النقد الدولي" بعد زيارات قامت بها بعثاته على فترات خلال هذه السنة وكذلك البنك الدولي والاتحاد الاوروبي الذي ابلغ الوزارة كما يوضح قرم "انها المرة الاولى منذ نهاية الحرب يكون للبنان سياسة مالية ونقدية حقيقية. وسيقوم بمبادرات جديدة لمساعدة لبنان على تحقيق الاصلاحات. ونناقش مع البنك الدولي اعادة سلسلة القروض التي لا ترتبط بمشاريع استثمارية بل تكون سهلة السحب لدعم الاصلاح".