أصدر المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق وثيقة ختامية للمؤتمر الذي نظمه منتصف الشهر الماضي لدرس الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان. لا تزال ندرة الاحصاءات الموحدة والدقيقة، طبقاً للوثيقة، تشكل عائقاً اساسياً أمام إجراء الدراسات الموضوعية وبلورة نماذج علمية لازمة لمعالجة الازمة الاقتصادية. ويمكن ادراج اسباب الازمة تحت عناوين رئيسية ثلاثة هي: المعوقات البنيوية، والمتغيرات السياسية والاقتصادية الاقليمية والدولية، والسياسات الاعمارية للحكومات السابقة. 1 - المعوقات البنيوية: زاد طغيان قطاع الخدمات، بما في ذلك الاعتماد المفرط على المزايا الجغرافية والبشرية لتحقيق فائض في ميزان المدفوعات، وكذلك ارتفاع حصة التوظيفات العقارية التي شكلت اكثر من 60 في المئة من مجمل التوظيفات الرأسمالية، من انكشاف الاقتصاد اللبناني امام الخارج وأدى الى تهميش القطاعات الاقتصادية الاخرى التي تتميز بقدرتها على توليد فرص العمل وانتاج قيمة مضافة اعلى، وبالتالي تحقيق معدلات نمو اكبر وتوزيع اكثر عدالة للدخل بين الفئات الاجتماعية والمناطق الى جانب افساح المجال امام تكامل افضل بين القطاعات. واستحوذت الفروقات الطبقية المتزايدة على جانب من اهتمام المؤتمر، ذلك ان التفاوت في المداخيل بين الشريحة العليا في المجتمع ونسبتها 20 في المئة من الافراد والشريحة الدنيا ونسبتها 20 في المئة ايضاً تعدى 25 ضعفاً، بينما لا يتجاوز هذا المعدل سبعة اضعاف في اكثر الدول رأسمالية. ويعتبر المؤتمر ان استمرار هذه الفروقات، وبالتالي اعاقة الطبقات المحدودة الدخل عن تطوير قدراتها الانتاجية على المستويين الصحي والتعليمي، يحبط الجهود الرامية الى تحقيق معدلات نمو أكثر ارتفاعاً. 2 - المتغيرات السياسية والاقتصادية الاقليمية والدولية: يرى المؤتمر ان غزو العدو الاسرائيلي للبنان في حزيران يونيو عام 1982 شكل منعطفاً خطيراً في مسيرة الحياة الاقتصادية للبلاد، نظراً الى ما رافقه من تدمير منهجي للبنية التحتية وعناصر الانتاج المادية وانهيار مؤسسات الدولة وانقسامها على نفسها. مما ادى الى الافساح في المجال واسعاً امام اختلالات عميقة تمثلت في انخفاض الانتاج وتراجع القدرة التنافسية وخسارة الميزات التفاضلية وتعميق الخلل في المالية العامة والتضخم وتفسخ المجتمع. 3 - السياسات الاعمارية للحكومات السابقة: من أبرز المآخذ على السياسات الحكومية المتعاقبة في الفترة السابقة تجاهلها للتحولات والمتغيرات التي سبق الحديث عنها، وعدم اعتماد سياسات وقائية لتدارك مخاطرها. فاستمر الانفاق الحكومي في مستويات مرتفعة تفوق قدرات وامكانات وموارد البلاد، سواء على بطالة خفية في القطاع العام وتسديد فوائد الديون والمصاريف الادارية او في مجالات اعمارية غير مضمونة وتفيض عن حاجة الاقتصاد وذات كلفة عالية. مما ادى الى ارتفاع كلفة الجهد الاعماري وهدر الموارد. ومن التشوهات التي رافقت الانفاق الحكومي، ولاحظها المؤتمر، غياب التخطيط الاقتصادي الذي سمح بتسرب الجزء الاكبر من الانفاق الاعماري الى خارج دورة الاقتصاد المحلي وأسهم بالتالي في تفويت فرصة تاريخية كان يمكن ان يوفرها العامل المضاعف للجهد الاعماري في التأسيس للتكامل القطاعي بين قطاعات الاقتصاد اللبناني كافة. الإطار العام أولاً - دور لبنان الاقتصادي في ضوء المتغيرات المحلية والاقليمية والدولية وأولويات التنمية: يرى المؤتمر ان هناك كثيراً من الاسباب التي تدعو الى اعادة النظر بالدور التقليدي للاقتصاد اللبناني، والى العمل على تكوين رؤية جديدة حياله، على الصعيدين الاقليمي والدولي، في اطار خطة اقتصادية - اجتماعية شاملة ومتكاملة توجه مختلف السياسات، وتتجه نحو خدمة هدف رئيسي هو اعادة هيكلة البنى الانتاجية الزراعية والصناعية والخدماتية لتتلاءم مع التطورات الهائلة التي حفل بها ربع القرن الاخير. والمؤتمر اذ ينظر بجدية الى ما تحظى به الخدمات من اهمية في تكوين الوظائف الاقليمية للاقتصاد اللبناني، لا يسعه بالمقابل الا ان يدعو بإصرار، الى توجيه هذا القطاع للتكيف مع متغيرات المحيط العربي الذي لم يعد مصدراً للطلب على الخدمات التقليدية التي يمكن للبنان ان يقدمها، وأن يدعو ايضاً الى الالتفات الى حقيقة ان الدخول في السوق الاقليمية الخاضعة الى تأثيرات العولمة لا يكون متكافئاً ولا تنافسياً الا على قاعدة اقتصاد متداخل يرتقي فيه قطاع الخدمات بالقطاعات الانتاجية الاخرى، من صناعة وزراعة، لينتقل بها من الانتاج البسيط الى الانتاج ذي الكثافة العلمية، وان يدعو ثالثاً الى كسر حدة التحالف غير العادل بين الاقلية المحتكرة وبين مؤسسات التمويل، الذي يوزع من جهة الموارد على نحو انتقائي وغير مدروس 80 في المئة من التسليفات المصرفية تنالها بضع عشرة عائلة والذي يضغط من جهة اخرى باتجاه تنظيم اولويات انفاق على بنية تحتية تمكن لبنان من استعادة غير مخططة لدور الوسيط الخدماتي من دون ادنى تعديل. ويشدد المؤتمر على اهمية وعي مخاطر العولمة وحقائقها، ويحث لبنان على سلوك سبيل التكامل الاقتصادي مع العالم العربي وصولاً الى تأمين مقومات قيام سوق عربية مشتركة، وفي الطريق الى ذلك المضي قدماً في خطوات تعاونه وتكامله الاقتصاديين مع سورية. ويجد المؤتمر ان الخطوط العربية والتوجهات العامة لرسم الدور الخارجي للاقتصاد اللبناني ووظائفه الداخلية، تتجسد في كل من القطاعات الثلاثة على النحو الآتي: 1 - التركيز على الفروع الخدماتية المتطورة التي تتحلى بميزات تنافسية - تفاضلية تجاه نظيراتها في المحيط ولا سيما لجهة توافر تراكم ملحوظ للرساميل البشرية فيها، من قبيل الخدمات المعلوماتية، الاستشارية، الاعلامية والاعلانية والخدمات التي تتطلب عمالة ماهرة عالية التأهيل. ومن زاوية تحليلية صرفة، يعتقد المؤتمر بأن فروعاً خدماتية اخرى تتوافر فيها بذور التطور والنمو كالتعليم والطبابة والتأمين والانتاج الفني والعلمي، لكنها ايضاً، تعاني من غياب التخطيط الاقتصادي الكلي، وسوء الادارة القطاعية، وضعف السياسات، كما ان السياحة، التي يُحكى ان اللبنانيين مهيأون لها حضارياً وثقافياً، والتي تعتبر حالياً احد اهم عناصر تحفيز التطور عالمياً، تفتقر الى شروط كثيرة للنجاح والمنافسة اهمها: مستويات معقولة للأسعار، بنية تحتية متطورة ومتكاملة وشاملة، سياسة رشيدة للموارد المائية، مهارات تسويقية. 2 - التأكيد على ان الصناعة، وهي عادة المحرك الدافع لعملية التنمية، لا يمكن لها الا ان تكون قطاعاً مؤثراً ورئيسياً في تحديد الوظائف المستقبلية للاقتصاد اللبناني وهذا يرتكز الى الآتي: أ - الدخول الى ميدان المنافسة من باب الصناعات العالية الربحية وذات "الرأس مال العلمي الكثيف" التي تستفيد من الأيدي العاملة الماهرة المتوافرة بين اللبنانيين المقيمين والمغتربين. ب - الاهتمام بالصناعات ذات الروابط الخلفية والأمامية مع فروع انتاجية اخرى قائمة في لبنان، وبالصناعات المكملة، وفي طليعتها الصناعات الزراعية. ج - الاستفادة الكاملة من فرص التكامل مع الاسواق المجاورة ولا سيما في سورية. 3 - ادراج متطلبات القطاع الزراعي ضمن اولويات التنمية واعادة البناء. ولا يمكن ترسيخ دور لبنان الاقليمي وتثبيت وظائف متطورة له، الا في ظل شروط، يركز المؤتمر منها على الآتي: استقرار النظام السياسي وقدرته على التمثيل، تسهيل المعاملات، تشجيع التعليم، الانفتاح على التعاون الاقتصادي العربي، حل مجموعة من المشاكل التنظيمية والبيئية وتحسين مستوى التخطيط المدني، تحصين النظام القضائي ومده بالمتطلبات اللازمة لقيامه بواجباته. ثانياً - على صعيد دور الدولة والاطار المؤسسي لسياسات الخروج من الازمة: يبدي المؤتمر اهتماماً بالرأي القائل ان الدولة يجب ان تبقى في لبنان دولة الرعاية الشاملة التي لا تنحصر مهامها فقط في العمل على تأمين المناخ المناسب للقطاع الخاص كي يتمكن من الاستثمار على اكمل وجه. بخلاف ما رسمه القائمون على سياسة النهوض وإعادة الاعمار، من دور يسير بها باتجاه الاخذ بمفهوم الدولة الحارسة، عندما حددوا لها ثلاث وظائف رئيسية: تشييد البنية التحتية، تحقيق الاستقرار النقدي والمالي وتحديث الأطر التشريعية. ويتعدى ما هو مطلوب من الدولة ذلك، الى حيث اقرار التوازنات النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، ومواجهة الامتيازات المتعاظمة، والحيلولة دون مزيد من التحكم بالاقتصاد اللبناني من قبل الاحتكارات الكبيرة، لا سيما وان الفترة السابقة تميزت بتمركز رأسمالي كبير تسببت به سياسات اقتصادية ارتكزت الى المورد الريعي، فأصبح اقل من 2 في المئة من المودعين يمتلكون 40 في المئة من الودائع، في حين لا يستفيد من القروض المصرفية اكثر من سبعة في المئة من المؤسسات العاملة بل ان ثلاثة آلاف مستفيد يحظون بأكثر من 75 في المئة من اجمالي الائتمانات المصرفية. اما المدخل الى بحث مسألة التخصيص فلا يمكن ان يكون بنيوياً او مؤسسياً وانما براغماتياً اذ انه يتصل بأزمتين: أزمة الادارة العامة وأزمة عجز الخزينة، اما الحديث عن تضخم حجم القطاع العام بالنسبة الى الاقتصاد فلا يمكن ربطه بمعدل الانفاق العام الى الناتج والذي وصل الى ما يقارب الپ50 في المئة بسبب تضخم بند خدمة الدين. ويرى المؤتمر ان اي عملية تخصيص لا بد وأن تراعي وجود نضوج شامل في الانظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمحافظة على الدور الرعائي الشامل للدولة واستثناء الاحتكارات الطبيعية الكبرى من التخصيص واحتفاظ الدولة بالخدمات الأساسية بعد ادخال اصلاحات جذرية على هياكل المؤسسات العامة والادارات التي تنتجها. المحاور الرئيسية أولاً - على الصعيد المالي والنقدي: ينظر المؤتمر بقلق الى تفاقم ازمة المالية العامة التي يرى انها البؤرة المركزية للمأزق الاقتصادي الذي يعانيه لبنان، فالانجازات التي يحكى ان لبنان حققها خلال السنوات السبع الماضية خلفت اعباء تثقل المستقبل واختناقات ما زالت الدورة الاقتصادية عاجزة عن تخطيها منذ فترة ليست بالقصيرة. وبالرغم من نمو الناتج المحلي القائم بمعدلات مرتفعة بداية التسعينات، قبل ان يتراجع الى مستويات شديدة الانخفاض، فإن معدل نمو نفقات الخزينة كان على الدوام اعلى بكثير من معدل النمو الاقتصادي فارتفعت نسبة هذه النفقات الى الناتج القومي القائم من نحو 20 في المئة عام 1993 الى اكثر من 46 في المئة عام 1996 قبل ان تنخفض نتيجة اجراءات تقشفية الى 39 في المئة. ورصد المؤتمر ان معدلات الارتفاع في النفقات ساوى في بعض السنوات سبعة اضعاف معدل نمو الناتج القومي. وعلى رغم ان هذا التوسع المبالغ فيه يجد مبرره التقليدي في ان نحو 80 في المئة من النفقات اجبارية رواتب، خدمة دين مقابل ما لا يزيد عن عشرة في المئة من النفقات الانمائية فإن حقائق كثيرة تظهر ان النمو المتسارع للنفقات لم يكن نتيجة ظروف اقتصادية ونقدية وسياسية طارئة فحسب، بل كان ايضاً خياراً حكومياً غير مدرك لمخاطر تراكم الدين، عندما لم يربط نمو النفقات بنمو الواردات. ومن هذه الحقائق نذكر الآتي: أ - ان تطور عجز الخزينة بمعدلات مذهلة وقد بلغ 260 في المئة سنة 1994 شهد تراجعاً في بعض السنوات بل وسجل معدلات سلبية عام 1998 لما ادركت الحكومة ان لا مرد من السيطرة على النفقات، فظهرت قدرتها على تحقيق بعض اجراءات التقشف لو ارادت، سيما وان ارقام المالية العامة للسنوات الست الاخيرة تظهر ان الانفاق بسلفات خزينة خارج الموازنة، مثّل زهاء عشرة في المئة من مجموع النفقات، بل وارتفع في بعض السنوات الى 27 في المئة. ب - وجود هدر مثلث الابعاد، هدر فعلي عبر: مسارب غير منظورة للانفاق، تلزيمات بالتراضي، عقود وصفقات خارج رقابة ديوان المحاسبة، وهدر مؤسسي هيكلي يتمثل في انفاق هائل على الرواتب والاجور غير مترافق مع تحسين كفاءة القطاع العام، وهنالك هدر في الانفاق على الانشاءات، في بنية تحتية غير متكاملة في جانب منها، ويفيض الحجم الاجمالي لبعض مشاريعها عن حاجات الاقتصاد، والانفاق على مشاريع غير منتجة، او منتجة لكن بكلفة غير عادلة. ج - تبين التحولات الداخلية في هيكل الانفاق ان تقلص بعض ابواب الموازنة وتضخم اخرى، احدث انتقالاً تدرجياً من الانفاق غير المنتج مما يعني ان الانفاق الحكومي المتضخم لم يعوض عن حرمانه القطاع الخاص من اموال هو بأمسّ الحاجة اليها، بتوجيه هذه الاموال نحو استثمارات انتاجية تساهم في تحريك العجلة الاقتصادية، بل وجهها نحو موارد للصرف زادت من حدة التباطؤ والركود. د - تزايد دور الانفاق العام في توسيع الفوارق بين الطبقات واعادة توزيع الثروة والمداخيل الفعلية لصالح الفئات الاكثر ثراء، عبر سياسات واجراءات من قبيل: دعم الاندماج المصرفي، دعم فوائد بعض القروض، اعفاء فوائد سندات الدين العام من الضرائب التي يذهب اكثر من 90 في المئة منها الى الموسرين والمؤسسات المالية. وعلى العموم فان سياسات الانفاق غير المتحفظة، تحولت بالموازنة لتكون، ابتداء من العام 1996، مناهضة لموجبات النمو مع التدهور الواضح في نصيب الجانب الاستثماري والانمائي منها. بالمقابل سجلت الواردات ارتفاعاً ملموساً من 11.1 في المئة من الناتج القومي القائم عام 1993 الى حوالى 18.4 في المئة اي بزيادة مقدارها 6.6 في المئة الى الناتج خلال خمس سنوات. مع انحياز واضح في تكويناتها الداخلية نحو تغليب حصة الواردات من الرسوم والضرائب غير المباشرة. ولاحظ المؤتمر ان هذه الواردات، والتي تمثل تحويلاً للموارد من القطاع الخاص الى القطاع العام، ضاعفت العبء الضريبي على الطبقات الشعبية الفقيرة والمتوسطة، ودفعت بالتالي اعداداً متزايدة من اللبنانيين الى ما دون خط الفقر، كما ان فرض ضرائب جمركية مرتفعة على مدخلات الانتاج الصناعي والزراعي، وضرائب اخرى على بعض مدخلاتها المحلية مثل الطاقة، ساهم في خفض القدرة التنافسية للانتاج اللبناني محلياً وفي اسواق التصدير. وأدى التفاوت الحاد بين زيادة النفقات من جهة وزيادة كل من الايرادات والناتج القومي من جهة اخرى، الى تضاعف الدين العام الصافي اكثر من تسع مرات بين عامي 1992 و1998 الى حد تجاوز فيه حجم الدخل القومي، فبالاسعار الجارية نما الناتج بنسبة 79 في المئة، واردات الخزينة بمعدل 180 في المئة، النفقات بمعدل 240 في المئة وعجز الخزينة 320 في المئة، وذلك للفترة نفسها. كما ان سياسة تحسين سعر الصرف اضافت الى تقويم الدين الداخلي بالدولار 18 في المئة اي ما يقارب 2.5 بليون دولار. ويعتبر المؤتمر ان اعتماد الخزينة في صورة رئيسية على الواردات الداخلية في تمويل عجزها، وتحسن سعر الصرف سنوياً بمعدل ثلاثة في المئة سنوياً، جعلا المعدلات الحقيقية للفوائد مرتفعة للغاية. صحيح انها اجتذبت استثمارات كبيرة من الخارج وظّفت معظمها لآماد قصيرة في السندات الحكومية، في اقتصاد تنتظر قطاعاته الانتاجية توظيفات من نوع آخر، الا ان هذه السياسة النقدية ساهمت في طرد القطاع الخاص من سوق الاقراض بالليرة، وشكل المردود الريعي المرتفع الذي ينجم عنها حافزاً قوياً للادخار وكبحاً للتوظيف المثمر في قطاعات الاقتصاد. ان الارتفاع المدار لسعر صرف الليرة مقابل الدولار الاميركي، الذي يسجل بدوره تحسناً ازاء عملات الشركاء التجاريين الرئيسيين للبنان، رفع سعر الصرف الحقيقي لليرة ما بين عامي 1992 و1998 بما نسبته 70 في المئة، ولو اضيف هذا التحسن الى المعدلات المرتفعة للفائدة، لظهر واضحاً كيف ان التكاليف التي تضطر الى دفعها القطاعات الاقتصادية للحصول على التمويل اصبحت شديدة الارتفاع، وكيف ان قدراتها التنافسية بالتالي آخذة بالتآكل وهو ما يظهر بوضوح في التراجع المطرد للصادرات الصناعية والزراعية ناهيك بوقوف بعض الفروع الخدماتية عاجزة عن الدخول الفاعل في ميدان المنافسة ولا سيما منها السياحة. والمدخل الى تصحيح اوضاع المالية وكسر دائرة الازمة المفرغة عجز - تعبئة الموارد لتمويل القطاع العام - رفع معدلات الفائدة - ركود يتمثل في تخفيض عجز الموازنة العامة واحتواء الدين العام. ويفترض المؤتمر لهذا الغرض هدفاً اولياً يمكن الوصول اليه، هو ابطاء وتيرة نمو الدين العام لتقل عن معدل نمو الناتج المحلي القائم، فيتراجع بالتالي عبء الدين على الاقتصاد شيئاً فشيئاً. ويمكن الوصول الى هذا الهدف عبر طرق ثلاث: زيادة الايرادات الى مستوى مقارب للنفقات، تخفيض النفقات الى مستوى مقارب للايرادات، او تحقيق معدلات مرتفعة من النمو تفوق عجز الخزينة. وإذ يعول المؤتمر على اتباع سياسة تندمج هذه الطرق الثلاث فيها، يطرح نموذجاً مفترضاً للتخلص التدريجي من عجز الخزينة خلال ست سنوات، وصولاً الى المستوى المعياري المقبول عالمياً ثلاثة في المئة من الناتج القومي ويقوم هذا النموذج على الآتي: أ - تحقيق نمو اسمي في الناتج المحلي القائم مقداره ثمانية في المئة سنوياً. ب - وضع سقف للانفاق السنوي لا يتجاوز 8500 بليون ليرة لبنانية. ج - رفع نسبة الواردات الى معدل 20 في المئة من الناتج القومي القائم، وهو اقصى ما يمكن تحقيقه - برأي البعض - في بلد كلبنان، من دون المخاطرة بوضع قيود اضافية على النمو الاقتصادي، فيما يرفض البعض الآخر مقولة ان الضغط الضريبي قد تجاوز في لبنان الحدود المقبولة معولاً على اعادة هيكلة الواردات الضريبية في زيادة حصيلتها. وتطرق المؤتمر الى مسألة بيع المخزون من الذهب، الذي غدا منذ عام 1972 مجرد سلعة لا علاقة لها بثبات النقد وقيمته ونوقش بعض الافكار المتعلقة بكيفية الاستفادة من هذه الثروة الوطنية المجمدة والمتناقصة القيمة، تراوح بين بيع الذهب لأغراض اطفاء الدين العام وبين استثماره في صندوق مستقل بالعملات الاجنبية كي تتم الاستفادة من عوائده. وعدد المؤتمر الخيارات المتاحة لتخفيض الانفاق وهي الى ما مر اعلاه: ترشيد الانفاق، اعادة هيكلة الدين العام، وضع سقوف صارمة على الانفاق واخضاع الانفاق من خارج الموازنة الى مصادقة المجلس النيابي بدلاً من سلفات الخزينة، منع التلزيمات بالتراضي، وقف الهدر واطلاق ايدي اجهزة الرقابة والمحاسبة، تنفيذ المشاريع بأسعار عادلة، عدم الشروع بمشاريع كبرى قبل وضع خطة اقتصادية شاملة. وحثّ المؤتمر على التعامل بجدية مع اقتراحات تهدف الى ضبط الانفاق، وتثبيت العجز، وتخفيض الفوائد الى نحو عشرة في المئة، وأهمها ربط سعر صرف الليرة بسلة من العملات الاجنبية او باليورو. وتابع المؤتمر باهتمام الآراء التي طرحت حول سبل اصلاح الادارة العامة وتفعيلها، واعادة توزيع العاملين فيها بطريقة امثل. مجموع الاجراءات والتوجهات التي جرى استعراضها يمكن لها ان تخفض الدين العام الى حدود ثلث ما هو عليه الآن حتى لو بقي حجم القطاع العام على حاله. ثانياً - على صعيد اعمار البنى التحتية: يتضح من مداولات المؤتمر ضرورة اجراء مراجعة تقويميية شاملة لعملية اعمار البنى التحتية في لبنان من مختلف جوانبها المالية والاقتصادية والاجتماعية تمهيداً لترشيدها بما يتناسب مع الامكانات المتوافرة من ناحية ويستجيب لضرورات التوازن المالي والاقتصادي من ناحية اخرى. ويرى المشاركون ان هناك اسباباً عدة تفرض هذه المراجعة ابرزها: الصعوبات المالية التي تعاني منها خزينة الدولة، وتراجع حظوظ نجاح مشاريع الشرق أوسطية، وهي الفرضية التي استندت اليها عملية الاعمار في بداية انطلاقتها. الى جانب محاذير التوسع في الطروحات البديلة، كالتخصيص والاقتراض الخارجي او تسييل بعض املاك الدولة وموجوداتها في حال استمرار عملية الاعمار على حالها. ثالثاً - على صعيد الاستثمارات القطاعية: ينوه المؤتمر بالأهمية القصوى لتنشيط القطاعات الانتاجية الصناعية والزراعية في تحقيق التوازنات المالية والاقتصادية والانمائية على صعيد زيارة الدخل وتخفيض العجز في الميزان التجاري وتأمين فرص العمل وتقليص الفوارق بين الريف والمدينة للحد من الهجرة الداخلية. ويعتبر ان ذلك مرتبط بالدرجة الأولى بتوجهات السلطتين التنفيذية والتشريعية وقدرتهما ليس على معالجة المشاكل البنيوية التي تهدد مصير القطاعات الانتاجية برمتها وتؤدي الى احتضار الكثير من فروعها وحسب، وانما على تأمين المناخ الاستثماري اللازم لجذب الاستثمارات سيما وان حصة لبنان من مجمل الاستثمارات الى دول مجاورة كمصر والمغرب وتونس وسورية والأردن وتركيا والامارات... وساعد تثبيت سعر الصرف طوال الفترة الماضية على كبح التضخم وتأثيراته السلبية على الاجور، في بلد مثل لبنان يستورد اكثر من 80 في المئة في حاجاته، الا انه وفي ظل الاوضاع الراهنة بات يسهم في لجم الاستثمارات. اذ ان قوة الليرة المصطنعة تدفع الناس في هذه الحالة الى الاستهلاك اكثر والى الاستثمار في صورة اقل. وتناول المؤتمر كذلك الاجراءات المفترض اتخاذها لمعالجة المعضلات المزمنة التي تعانيها القطاعات الانتاجية على غير صعيد، سيما وان تأمين 80 الف وظيفة مطلوبة سنوياً في سوق العمل يتطلب توظيفات مالية تقدر بنحو 1.2 بليون دولار. ولتأمين التمويل اللازم للقطاعات الاقتصادية كافة، يقترح المؤتمر الخطوات التالية: 1 - ترشيد وتوجيه الانفاق الحكومي للتوظيف في مجال البنى التحتية اللازمة للقطاعات الصناعية والزراعية كالمناطق الصناعية والري والطرق الزراعية وتحرير السيولة الجاهزة من خلال العمل على تخفيض حصة القطاع العام من التسليفات المصرفية، والتي وصلت الى 50 في المئة من مجموع هذه التسليفات عام 1998 وتطوير التشريعات المالية والمصرفية الكفيلة من خلال اعادة النظر بتوزيع التسليفات المصرفية قطاعياً ومناطقياً. اذ لم يعد جائزاً استحواذ قطاعي التجارة والبناء وحدهما على الحصة الكبرى من مجموع التسليفات المصرفية، فيما تحصل الزراعة على 1.5 في المئة والصناعة على 12.4 في المئة فقط، الى جانب محاذير تمركز الجزء الأكبر من هذه التسليفات في بيروت 82 في المئة وجبل لبنان 13.5 في المئة في حين تحصل مناطق الاطراف على نسب زهيدة بمعدلات لا تتجاوز 2.6 في المئة في الشمال و0.8 في المئة لكل من البقاع والجنوب. كما يتعين معالجة ارتفاع كلفة الانتاج الصناعي والزراعي التي باتت تشكل عائقاً جدياً امام نمو القطاعات الانتاجية واستمراريتها من ناحية ويحد من القدرة التنافسية للمنتجات اللبنانية، حتى في الاسواق المحلية التي تفيض بمنتجات وزسلع مشابهة مدعومة من بلدان المنشأ، من ناحية اخرى. والحد من تزايد هذه الكلفة يكمن في جانب اساسي منه باجراء اصلاحات مالية واقتصادية جذرية لتخفيض معدلات الفائدة من ناحية وتحسين البيئة التنافسية من جهة اخرى. وتندرج في هذا الاطار على وجه الخصوص معالجة الوضع الشاذ الذي يؤدي الى ارتفاع كلفة الانتاج الزراعي في شكل كبير. فمصادر التمويل في القطاع الزراعي تكاد تقتصر على ثلاث شركات تحتكر المدخلات الزراعية وتقدم قروضاً عينية او نقدية للمزارعين بفوائد عالية تتراوح بين 70 و100 في المئة ولمدد لا تتجاوز السنة، ان لم يكن في نهاية الموسم في احيان كثيرة، كما ان تصريف 80 الى 90 في المئة من الانتاج الزراعي يتم عبر قلة من الوسطاء، الى جانب خضوع الارشاد الزراعي غالباً لمنطق ربحية شركات المدخلات الزراعية. رابعاً - على صعيد التشغيل والموارد البشرية: على المستوى التحليلي، يرصد المؤتمر جذوراً عميقة للاختلالات البنيوية التي تعاني منها سوق العمل اللبنانية، تعود الى مرحلة ما قبل الحرب. وفي مرحلة الحرب وما بعدها، شهد التعليم توسعاً كبيراً بما فيه التعليم الفني، لكن هذا التحسن بقي كمياً لا نوعياً، اذ ينخرط ثلاثة ارباع المتخصصين في اختصاصات نظرية ولا تتجاوز نسبة المنتسبين الى التعليم المهني والتقني عشرة في المئة. وعلى رغم التحسن الذي طرأ حالياً على خصائص قوة العمل اللبنانية وتكويناتها ولا سيما لجهة تزايد اعداد المتعلمين في صفوفها، فإن الازمة لا تزال مرتبطة بالاختلالات المتفاقمة التي تعاني منها سوق العمل منذ ما قبل الحرب. والأرقام المتفائلة التي تحدد معدل البطالة بما لا يتجاوز 8.9 في المئة، يتوقع تضاعفها الى ما يفوق ربع القوة العاملة فيما لو اخذت بالحسبان: البطالة اليائسة التي لا يصرح عاطلوها عن بطالتهم ليأسهم من العثور على فرص متاحة، البطالة الموسمية والجزئية، البطالة المؤجلة عن طريق لجوء طالبي العمل من الشباب الى العودة الى مقاعد الدراسة، ناهيك بالبطالة المستترة التي تتفشى حالياً في قطاعين من اكثر القطاعات استخداماً لليد العاملة المتعلمة هما القطاع العام وقطاع المهن الحرة. وأشد ما يثير الدهشة، والقلق في ظاهرة البطالة الحالية هو انها في الغالب بطالة شباب وبطالة طويلة الأمد معدلها 13.5 شهر، وبطالة متعلمين ومتخصصين، في وقت تنخفض فيه مستوى انتاجية العاملين ولا سيما المتعلمين، الذين يعانون ايضاً من انخفاض نسبي لما يتقاضونه بالمقارنة مع الأميين. وينظر المؤتمر باهتمام الى التحليل الذي يرى ان قضية التشغيل لم تكن محوراً رئيسياً من محاور سياسات اعادة الاعمار، فالقائمون عليها تعاملوا مع ازمة ما بعد الحرب اقتصادياً على انها ازمة نمو، وان اطلاق عملية النمو هذه هي مهمة القطاع الخاص اما دور الدولة فهو في تأمين المناخات فقط: اعمار البنية التحتية، تحقيق استقرار مالي ونقدي، تحديث الاطر التشريعية، فيما تظهر التجربة التي سبقت الحرب ان مشاكل التشغيل لا يمكن حلها فقط عن طريق النمو الاقتصادي، حيث ان خمسة في المئة من النمو السنوي المتواصل طوال ربع قرن كان من نتائجه: نزوح كثيف من الريف، معدلات بطالة مرتفعة واختلالات اجتماعية. وأثرت السياسة القطاعية واجراءات اعادة الاعمار على سوق العمل، صحيح ان ورشة الترميم واعادة البناء، زادت من الطلب على اليد العاملة لا سيما في قطاعات الاشغال العامة والتشييد، لكنه كان في صورة رئيسية طلباً على اليد العاملة غير اللبنانية. اما القطاعات الانتاجية المولدة لفرص العمل على نطاق واسع فعانت من مشكلة تمويل جراء ازمة المالية العامة. ومن اهم عوامل الازمة عجز سوق العمل عن استيعاب العمالة الماهرة وذلك لسببين رئيسيين: الأول، كون النظام التعليمي يعمل بانفصام عن سوق العمل، والثاني، الطابع التقليدي للمؤسسات التي لا يتمتع معظمها بهيكلية عصرية، ولا يكترث بادخال التكنولوجيات والتقنيات والنظم المتقدمة. وتمثل العمالة الوافدة من الخارج عنصر ضغط على الاجور، نزولاً، كما ان عدم تمتعها بالتأمينات الاجتماعية الالزامية، يخرج نظيرتها اللبنانية من دائرة المنافسة. هناك حاجة الى سياسة اكثر عمقاً من شأنها معالجة الازمة جدياً في المديين المتوسط والطويل، يرى المؤتمر انها تتناول الصعد الآتية: أ - تخطيط اليد العاملة: اذ لا يمكن صوغ سياسة تشغيل متكاملة من دون الاخذ بهذا الاسلوب، وذلك بقصد تعيين مكامن الخلل بين العرض والطلب من الناحيتين الكمية والنوعية، ورسم البرامج والاجراءات الآيلة الى تأمين التوازن. ب - تنشيط الطلب على القوة العاملة وإعادة هيكلته: اذ تتوقف زيادة الطلب على القوة العاملة في شكل رئيسي على النمو الاقتصادي، الا ان النمو المطلوب هو ذلك الذي يترافق مع خلق فرص عمل كافية من حيث الكم والنوع. ج - تنمية الموارد البشرية: وذلك عن طريق احداث تغييرات اساسية في انظمة التعليم، لتصبح قادرة على الاستجابة الى حاجات سوق العمل وعلى قدر كبير من المرونة للتكيف بسرعة مع المتغيرات. د - دعم وتطوير الاطر المؤسسية للتشغيل، من خلال: اعادة هيكلة وزارة العمل وتعزيز ملاكاتها بالكفاءات والاختصاصات الملائمة، وبذل مزيد من الجهود في سبيل تدعيم عمل المؤسسة الوطنية للاستخدام، والاسراع بادخال المجلس الاقتصادي الاجتماعي حيز التنفيذ، على ان يكون في رأس اولوياته، بلورة "عقد اجتماعي" بين مختلف الاطراف الفاعلة في المجتمع، لتحديد التزامات كل منها. خامساً - على الصعيد الاجتماعي: يشير المؤتمر استناداً الى مؤشرات الفقر التي توصل اليها الخبراء نتيجة دراسات ومسوحات قامت بها ادارات رسمية، الى تفاقم الازمة الاجتماعية لدى شريحة واسعة من المجتمع اللبناني. ويعيد المؤتمر التأكيد على ان مواجهة تفاعلات الازمة الاجتماعية الراهنة تفترض بالحد الادنى الالتزام بالتوجهات المبنية على: 1 - ان العمل على ترميم الطبقة الوسطى باعادة توزيع الدخل والثروة في شكل عادل عبر نظام ضريبي تصاعدي موحد يعتبر المدخل الرئيسي للاستقرار الاجتماعي والسياسي. 2 - ان تحسين الوضع الاجتماعي مرهون بمدى قدرة الحكومة على تحفيز الاستثمار في القطاعات الانتاجية. 3 - ان اعتماد سياسات تقشفية للسيطرة على العجز في الموازنة العامة ينبغي الا يؤثر سلباً على التقديمات الاجتماعية او على اسعار الخدمات العامة او المشاريع الانمائية الحيوية لضمان الانماء المتوازن بين الريف والمدينة. 4 - الاهتمام بالمؤسسات والجمعيات الاهلية التي تعنى بتقديم خدمات تتميز بالمنفعة العامة، كجمعيات رعاية الأيتام والمعاقين والبيوتات الحرفية... وما الى ذلك...