"اذا كان الجنرال محمد بتشين يظن نفسه جنكيز خان فعليه أن يعرف أن هذا العصر قد انتهى" هذه العبارة وردت في مقابلة أجرتها "يومية وهران" مع رئيس حزب التجديد الجزائري نور الدين بوكروح قبل أسابيع من اندلاع قضية هي الأولى من نوعها في الجزائر قدمتها الصحف تحت عنوان "قضية بوكروح - بتشين"، وظلت تتفاعل حتى اعلان الرئيس اليمين زروال تنحيه واجراء انتخابات رئاسية مبكرة قبل نهاية شباط فبراير 1999. ولم يكتف بوكروح بالوصف المذكور للجنرال بتشين، بل أكد أيضاً أنه يقف على رأس امبراطورية اقتصادية وأنه سيقود الجزائر نحو نظام شبيه بنظام بوكاسا في افريقيا الوسطى سابقاً، واتهمه بوضع جماعته جماعة قسنطينة في الوزارات والولايات وفي المناصب الرياضية والاعلامية وغيرها. وذهب بوكروح الى أبعد من ذلك عندما أكد أن من مصلحة الشيخ محفوظ نحناح زعيم حركة "حماس" الجزائرية، وهي ثاني أكبر حزب في البلاد بعد التجمع الديموقراطي الوطني حزب الدولة ان "يبقى بتشين أطول فترة ممكنة في السلطة" لأن "نظامه" هو الأكثر قابلية لشخصيات "مثل الشيخ نحناح". ولم يسبق لأي زعيم سياسي جزائري أن قال مثل هذا الكلام عن ضابط كبير سابق أو لايزال في الخدمة العسكرية، إلا خلال الفترة التي شهدت صعود التيار الاسلامي 1988 - 1991 حيث كان الشيخ علي بلحاج الرجل الثاني في "الجبهة الاسلامية للانقاذ" يحمل علناً على الرئيس الشاذلي بن جديد وعلى المؤسسة العسكرية لكنه لم يصل أبداً الى هذه الدرجة من الهجوم الشخصي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل طرأت مستجدات مباغتة حتى صار بوسع رئيس حزب صغير أن يحمل على مسؤول أساسي في السلطة، فضلاً عن كونه مديراً سابقاً للمخابرات الجزائرية 1988 وهو منصب لا يعادله في اهميته إلا منصب رئيس أركان الجيش؟ في كل الحالات لا يشكل كلام بوكروح مؤشراً على عودة مفاجئة لحرية التعبير والديموقراطية غير المشروطة في الجزائر، لأن الكلام يطال ضابطاً واحداً دون غيره من الضباط الذين يملكون تأثيراً خفياً على وسائل الإعلام ولهم رجالهم في مناصب حساسة، ما يعني أن قضية "بوكروح - بتشين" هي عنوان لصراع محتدم بين مراكز القوى في السلطة، لم يسبق أن وصل الى هذا القدر من العلنية، منذ اندلاع الحرب الأهلية في العام 1992، ولن ينتهي مع اعلان الرئيس زروال التنحي عن الرئاسة، إذ ترجح مصادر جزائرية وفرنسية استمراره حتى نهاية شباط فبراير المقبل موعد الاستحقاق الرئاسي. مستجدات الصراع لكن ما هي رهانات الصراع المستجد بين مراكز القوى العسكرية والى أين يمكن أن يصل؟ وهل يؤثر على مسار الحرب الأهلية في الجزائر؟ قبل الاجابة عن هذه التساؤلات لا بد من العودة مرة أخرى الى الوراء للاشارة الى قضية ثانية اندلعت أخيراً وتشبه قضية بوكروح لكنها لم تبلغ خطورتها. فقد انتقد السيد رضا مالك، رئيس الوزراء السابق السلطة، وبالتحديد الرئيس زروال، بسبب الحكم بالاعدام غيابياً على استاذ جامعي من أنصاره بتهمة "ملفقة" هي التعاون مع الارهاب. ولم يسبق لمالك أيضاً أن انتقد الحكم من قبل على رغم استبعاده من رئاسة الوزارة في بداية عهد زروال. وقد أفادت أوساط في حزبه التجمع من أجل الجزائر ان "الجريمة" التي تسببت في الحكم بالاعدام على الأستاذ الجامعي علي بن سعد تتصل بانتقادات علنية وجهها للجنرال بتشين في اجتماعات عامة عقدت في قسنطينة، أي في مسقط رأس بتشين. وفي السياق نفسه تجدر الاشارة الى اغتيال المطرب البربري المعطوب لوناس، الذي سقط عشية تطبيق قانون التعريب في 5 حزيران يونيو الماضي وظهرت هتافات صريحة في جنازته تتهم السلطة بارتكاب الحادث. والسلطة في عرف المشيّعين الذين ينتمون بغالبيتهم الى التيار الفرنكوفوني قاصرة على الثنائي زروال - بتشين. وهي التي أصرت على تطبيق قانون التعريب من دون تمهل ومن دون ابداء أي استعداد لإعادة النظر فيه الأمر الذي يعتبره التيار البربري بمثابة "جريمة حقيقية" بحق اللغة البربرية من جهة واللغة الفرنسية التي ينطق بها هذا التيار من جهة ثانية، مع الاشارة الى ان الضحية كان رمزاً من رموز الدفاع عن البربرية وحملت السلطة مسؤولية اغتياله الى "الارهابيين" وهي تسمية تطلق على "الجماعة الاسلامية المسلحة". ان حصيلة المتضررين من نظام الرئيس زروال ومستشاره السياسي الجنرال بتشين باتت واضحة وليس من الصعب رسم ملامحها، فاضافة الى التيار البربري وبصورة خاصة حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية بزعامة سعيد سعدي هناك حزب "التجديد الجزائري" بزعامة نور الدين بوكروح، وهو لم يتمثل في البرلمان على رغم حصوله على نسبة 5 في المئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية 1995، ورضا مالك زعيم "التجمع من أجل الجزائر" الذي استبعد من رئاسة الوزارة على رغم صلاته القوية بالجنرال خالد نزار وزير الدفاع السابق والجنرال محمد العماري رئيس الأركان الحالي. بتشين لاعب جديد وإذا كان من الصعب أن يصدق أحد أن هذه القوى الأقلوية استقوت فجأة، فإنه ليس من العسير الربط بين هجوم هذه الأطراف على الرجل القوي في نظام زروال وبين ابتعاد رئاسة الأركان عنه، إذ لم يسبق أن شرب أحد في الجزائر "حليب السباع" إلا إذا احتضنته السلطة وتكفلت بحمايته. والجنرال بتشين ليس من أولئك الذين يديرون خدهم الأيمن إذا ما تلقوا صفعة على خدهم الأيسر، فهو ينتمي الى قلة من العسكريين الذين حافظوا على وجودهم في الدائرة الأولى للسلطة بعد انهيار حكم "جبهة التحرير الوطني" التي احتضنته في لجنتها المركزية منذ العام 1979، وقادته صراعات القوى الى روما حيث عمل ملحقاً عسكرياً في سفارة بلاده العام 1981 ليعود منها الى قيادة القطاع العسكري في تندوف على الحدود الجزائرية مع الصحراء الغربية 1982 - 1984 ومن هناك الى قيادة المنطقة العسكرية الرابعة في ورغالا وسط الجنوب حيث آبار النفط، ثم المنطقة العسكرية الثالثة بيشار في الصديرة قرب الحدود مع المغرب، ومنها عاد الى العاصمة كرئيس للمخابرات العسكرية ومن بعد أصبح مفوضاً لجهاز الأمن والوقاية فضلاً عن انتمائه الى قسنطينة في الشرق شأنه شأن العسكريين النافذين. لقد لعب بتشين دوراً حاسماً ليس فقط في اختيار زروال رئيساً للجمهورية وانما أيضاً في حمل "الجبهة الاسلامية للانقاذ" على اعلان هدنة عسكرية ما زالت مستمرة حتى الآن، وهو اعلان أدى الى نزع التغطية المعنوية والسياسية عن الاسلاميين المسلحين وبالتالي تمكين السلطة من حصر الحرب، وتحويلها من حرب مع التيار الاسلامي في البلاد الى حرب مع "الجماعة الاسلامية المسلحة" التي لا تضم كادرات سياسية مهمة ولا قادة عسكريين مجربين ويكتنف تكوينها غموض شديد. عندما تعرض لهجوم مكشوف بادر بتشين الى الرد ب "المدفعية الثقيلة"، فلم يستهدف بطبيعة الحال بوكروح أو مالك أو سعدي وانما هيئة الأركان، وجاء الرد عبر "سبق صحافي" نشرته صحيفة "ديمان الجيري" بالفرنسية المقربة منه، عندما كشفت النقاب اوائل الشهر الجاري عن قيام السلطة الجزائرية في بداية التسعينات بتشكيل "كتائب الموت"، وهي المرة الأولى التي تنشر فيها معلومة من هذا النوع في الجزائر ويذاع فيها سر خطير من أسرار الحرب المستمرة. وتعتقد مصادر جزائرية بأن هذا "السبق الصحافي" هو الذي نقل الصراع الخفي بين الطرفين الى حقل الغام مكشوف، وهدد بتفجير الائتلاف العسكري حول الدولة وذلك للمرة الأولى منذ استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، مع فارق كبير هو أن بن جديد رضى بالانكفاء خلف الأضواء في حين رفض الجنرال بتشين الاذعان كما رفض الرئيس زروال اقالته، وبادر الطرفان الى وضع الرئاسة مجدداً في صناديق الاقتراع والاحتكام الى الناخبين. ولعل التطور الأبرز الذي طرأ بعد تنحي زروال تمثل في صعود الجنرال العماري الى الواجهة وهو المعروف بتكتمه الشديد وابتعاده عن وسائل الاعلام. فقد نشرت مجلة "الجيش" مقالاً وقعه العماري وطمأن فيه مواطنيه الى أن الجيش سيضمن حرية الاقتراع وحرية تعبير المواطنين عن ارادتهم من دون معوقات في الانتخابات الرئاسية. والراجح أن رئيس الأركان أراد بذلك طمأنة من يحتاج من مواطنيه الى الاطمئنان بأن رئاسة الجمهورية ومستشار الرئيس السياسي لا يحتكران وحدهما حق طمأنة الرأي العام الى سلامة الاقتراع وأن الجيش هو الضامن الحقيقي لهذه السلامة. والواضح ان قوتين جزائريتين ترتسمان: القوة الأولى يمثلها الثنائي زروال - بتشين وهي تسيطر على الحزب الحاكم "التجمع الوطني الديموقراطي"، ويحتل بتشين مقعداً مهماً في مكتبه السياسي لا بل يعتبر بنظر خصومه المدبر الفعلي لهذا الحزب. وتتمتع هذه القوة بنفوذ مهم في القيادة العسكرية لبعض الولايات الأساسية ومن ضمنها ولايات بليدة وقسنطينةووهران، وقد عمل زروال وبتشين على اختيار القادة العسكريين لهذه المناطق، كما تحتفظ هذه القوة أيضاً بمداخل مهمة في وسائل الإعلام المحلية، ذلك أن بتشين يشرف بصورة غير مباشرة على صحيفتين هما "لوتونتيك" بالفرنسية و"الأصيل"، ومن المقرر أن يناقش البرلمان قريباً مشروع قانون للسماح بانشاء اذاعات وتلفزيونات حرة، الأمر الذي سيؤدي الى إعادة خلط الأوراق الإعلامية، وبالتالي ضرب احتكار الكتلة الفرنكوفونية لهذا القطاع المهم. كما يتمتع الثنائي زروال - بتشين بنفوذ مهم في التيار الاسلامي المعتدل لا سيما حركة "حماس" التي يتزعمها الشيخ محفوظ نحناح، وهي دعت كما حزب السلطة الى السماح لقادة "الجبهة الاسلامية للانقاذ" واعضائها باستئناف العمل السياسي الشرعي تحت يافطة سياسية جديدة. ويتمتع الثنائي المذكور أيضاً بنفوذ لدى الجمعيات التقليدية مثل جمعية قدامى المجاهدين ومؤسسة ابناء الشهداء وبعض النقابات... الخ. كما يسيطر على معظم مجالس البلديات والاقاليم ويراهن على النجاحات التي تحققت جزئياً في المجال الاقتصادي حيث تمكنت الدولة للمرة الأولى منذ احداث 1988 من توفير احتياط بالعملة الصعبة يبلغ حوالي 9 مليارات دولار، ويراهن هذا التيار ايضاً على التعريب وعلى ايجاد حل نهائي للأزمة عبر دمج التيار الاسلامي في الدولة، ما يذكر بالشعار الأول الذي طرحه زروال عندما جاء الى الحكم عندما أكد أنه آت لحل الأزمة بالحوار. اما القوة الثانية فتتمثل بقيادة أركان الجيش ويتزعمه الجنرال العماري الذي يقود منذ سنوات حملة "استئصال" المسلحين الاسلاميين وتشرف قواته على ميليشيات الدفاع الوطني. ويعقد التيار الفرنكوفوني والعلماني رهانات على هيئة الأركان أو على مرشح محتمل تدعمه لرئاسة الجمهورية، بحيث يعيد النظر في التعريب ويهمش مشاركة الاسلاميين في السلطة ويعتمد سياسة ليبرالية واسعة وغير حذرة، ويعيد العلاقات مع فرنسا الى سابق عهدها فيصحح "خطأ" في هذا المجال ارتكبه زروال عندما الغى من طرف واحد لقاء كان مقرراً في الأممالمتحدة مع الرئيس جاك شيراك العام 1995. وأغلب الظن ان زروال الذي قدمته وسائل الإعلام الخارجية كرئيس لا يملك كل السلطات واعتبرت بيان التنحي الذي أعلنه بمثابة إقالة مستترة، ليس من النوع الذي يرفض التسويات إذا ما اتضح خلال الشهور المقبلة ان الشخصيات العسكرية النافذة في الجيش وخارجه ترغب في التوافق على بديل له في رئاسة الجمهورية. لكن ما يبدو مؤكداً هو أن التيار الاستئصالي لم يعد سيد الموقف بلا منازع، فكتلة المصالح المقابلة باتت تتمتع بنفوذ مهم وقادرة على لعب أوراق كثيرة في التنافس على السلطة والقرار، ما يعني أن اختصار ولاية الرئيس ليس نهاية المطاف وانما بداية لشد حبال قد يتوج بتفاهم على حلول مرضية للجميع جرياً على عادة المؤسسة العسكرية، وقد يؤدي في أسوأ الحالات الى تباعد وخلط أوراق الأمر الذي من شأنه أن يقود الى انحرافات ربما تنطوي على مخاطر جدية على مستقبل الجزائر. في كتابه الصادر حديثاً بالفرنسية بعنوان "الجزائريون: السيئ والأسوأ"، يخلص بوكروح الى استنتاج مفاده ان هذا البلد يغرق بالنار والدم بسبب تعنت السلطة والاسلاميين والعلمانيين فيه. لأن هذه القوى، على حد تعبيره، عاجزة عن توفير الاجماع حول مواقفها الصارمة، لكنه كغيره من السياسيين الجزائريين لا يدافع عن مساومة تاريخية هي وحدها كفيلة بانقاذ هذا البلد من الحديد والنار والدم، فهل حان وقت المساومة بعد استقطابات السلطة الأخيرة أم ان الظروف لم تنضج بعد؟