"الاستخبارات"، مصطلح يثير الهلع في البلاد العربية وفي الشرق بعامة، لما التصق بهذه المؤسسة الأمنية من صور سوداء بعضها حقيقي، وبعضها صحيح، ولكن مبالغ فيه. ارتبطت "المخابرات" بتاريخ المنطقة، ومثّلت "السرّ المصون" في أوساط من يحكمون. ولو قدّر لهذا الشرق أن تكشف أوراق"استخباراته"، في حال انها لم تتلف، لانكشفت حقائق كثيرة، وتعرف الناس الى خبايا أو أسرار المؤسسات الحاكمة ومدى تجسيدها، فعلاً، لا قولاً، لمصالح الناس وتطلعاتهم. وخوفاً من أن تضيع، نتيجة المتغيرات والانقلابات على أنواعها، بعض حقائق"الاستخبارات"في الساحة اللبنانية، ودورها في الظل، وأحياناً في العلانية، لوقائع السياسة اللبنانية على امتداد ما يقارب نصف قرن من الزمن، عمد غسان شربل الى مبادرة جريئة ورائدة، في عالم الصحافة العربية عبر إجراء مقابلات، اتخذت صيغة التحقيق الطوعي، لا الإكراهي، مع ثلاثة من رؤساء أجهزة المخابرات في لبنان وضمّها كتابه"ذاكرة الاستخبارات"دار رياض الريس، 2006. وهؤلاء هم بالتسلسل الزمني: غابي لحود وجوني عبده وجميل السيّد، وأضاف اليهم ضابطاً طياراً كان له دور في إجهاض محاولة استخباراتية سوفياتية لخطف طائرة"الميراج"الفرنسية الصنع من لبنان في آخر عهد الرئيس شارل الحلو. هذه الحوارات -"التحقيقات الظنّية"، تجمع في كتاب، خلاصة العناوين الرئيسة لنصف قرن من التاريخ السياسي في لبنان، وتدخل في التفاصيل الدقيقة لهذه العناوين، وتبرز طول باع الكاتب في معرفة دقائق تاريخ لبنان في تلك الفترة من الزمن. والمفارقة الرئيسة في هذه الاعترافات أنها تقارب ما يشبه الحقيقة في الكلام على كل ما لا يمت بصلة الى قادة هذه الأجهزة الأمنية، والى دورها، وتدخل في عالم"الشخصانية"والتقيّة في كل ما يمت اليها بصلة. وهي تذكّر بكتاب يوليوس قيصر الروماني"تعليقات"حول حرب بلاد"الغول"وهو يروي فيه بدقة وموضوعية متناهية وقائع المعارك التي خاضها ويسكت سكوتاً مطبقاً عن نتائجها والمجازر التي تلتها بأمر منه، طبعاً، لئلا يعكّر، هذا القائد - الفاتح، صورته أمام الرومان، هو الطامح الى أن يصبح امبراطورهم. وفي كل الأحوال، يبدو ان القادة الأمنيّين، المستذكرين كانوا يحلمون، في لا وعيهم، نتيجة قربهم من مواقع القرار، بأن يصبحوا"أباطرة"وإن يكن على دولة في حجم لبنان. ومن باب الموضوعية، وقول الحق، لا يمكن تشبيه"الاستخبارات"اللبنانية، التي عرفت بتسمية"المكتب الثاني"أو"الشعبة الثانية"، خصوصاً، في المرحلة الممتدة من عهد الرئيس فؤاد شهاب في 1958 حتى مطلع عهد الطائف في بداية التسعينات من القرن المنصرم، بأي نظام من الأنظمة الاستخباراتية في الكثير من الدول العربية. فهي وعلى رغم ما التصق بها من أفعال ضغط وتزوير وتجسس على حياة الناس وتأثير في مجريات الحياة السياسية والبرلمانية، تبقى أكثر رحمة، وشبه خالية من التاريخ الدموي الذي توصم به بعض الدول. أما مرحلة ما بعد الطائف فمسألة تفترض النظر في تاريخ الاستخبارات اللبنانية، ومفتوحة على كل احتمالات التهم، ولعل"غداً لناظره قريب"مع التحقيق الدولي. يكشف الحوار مع غابي لحود حيثيات وصول شارل حلو الى الرئاسة، على رغم محاولته ترسيخ مسألة كون القرار كان في يد الرئيس حلو، علماً أن شبح الرئيس شهاب يبدو واضحاً عبر مجمل الحوار. فهو يعترف بأن الرئيس حلو كان يعاني عقدة الشهابية ولذلك اندفع باتجاه الحلف الثلاثي في آخر عهده. وفي هذا تشديد على أن الشهابية حولته في المرحلة الأولى رهينة لها. والمهم في كلام لحود أنه يجيب بصراحة عن دور"الشعبة الثانية"في الانتخابات ولا ينكر وقوفها ضد بعض الشخصيات السياسية، وعلى رأسها كميل شمعون وصائب سلام وريمون اده مفنّداً أسباب ذلك. ويوضح طبيعة علاقة الرئيس حلو بريمون اده، وكيفية تعامل الدولة والشعبة الثانية مع المقاومة الفلسطينية وقصف اسرائيل مطار بيروت. ويفصح عن استغلال الجنرال اميل بستاني لمسألة المقاومة واتفاق القاهرة للوصول الى الرئاسة الأولى، ومحاولة زجّ لبنان في حرب 1967 للغاية نفسها. والجديد والمهم في هذه الوقائع ان الرئيس رشيد كرامي لم يمنع نزول الجيش لحسم مسألة الوجود الفلسطيني المسلح عن سابق تصور وتصميم كما يظن الجميع، بل نتيجة تقرير من قيادة الجيش يحذّر من خطر انقسامه. ويمر الاستجواب على مسائل إفلاس بنك انترا وپ"الحلف الثلاثي"ودور الحلف، ربما، في دفع البلاد نحو الحرب. أما الحوار مع محمود مطر فيقتصر على استنطاقه حول ملابسات محاولة خطف طائرة الميراج الفرنسية الصنع والمتطورة تقنياً، التي تمكّن من خلالها الإسرائيليون من الفتك بأسلحة الطيران العربية التي كانت تستعمل طائرات"الميغ"السوفياتية الصنع. قاد كشف"الشعبة الثانية"المؤامرة، عبر وطنية الضابط الطيار محمود وانضباطه وإخلاصه ليمينه العسكري، الى إثارة حلفاء الاتحاد السوفياتي في لبنان، وعلى رأسهم كمال جنبلاط، فدفع الياس سركيس الثمن في مواجهته سليمان فرنجية في انتخابات الرئاسة، كما يكشف ذلك محمود مطر وغابي لحود. جوني عبده، رئيس"الشعبة الثانية"زمن الرئيس الياس سركيس والسفير في سويسرا فباريس لاحقاً، يكشف بعض وقائع فترة الرئيس سركيس التي استفاض في الفترة الأخيرة في شرحها عبر شاشات التلفزة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. انطلاقاً من أسئلة غسان شربل، يكشف عبده الذين تعاون معهم سركيس، طبعاً من الشهابيين، وكذلك علاقته بسورية وحالة الجيش، ويقدّم المعلومات عن بعض الشخصيات اللبنانية، وفي مقدمها الرئيس سركيس وفؤاد بطرس والحريري والياس الهراوي وسليم الحص وبشير الجميل، الذي كان خصمه ثم عمل على إيصاله الى الرئاسة، وكريم بقردوني، مع تقويم لهذه الشخصيات ولعلاقاتها مع الرئيس سركيس. ويروي ما سبق الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 وما جرى خلاله وما تبعه، ومواقف السوريين والفلسطينيين والإسرائيليين والقادة اللبنانيين خلال هذه الفترة العصيبة. وهو طبعاً، يبرز دوره المميز والمحفوف بالمخاطر خلال الاتصالات مع الأطراف العرب والغربيين إبّان الاجتياح، ويتحاشى الكلام على دور بعض الأطراف اللبنانيين في جرّ إسرائيل الى التدخل والتخطيط له كما أبرزت ذلك الكتب الصادرة عن بعض أهل بيت تلك الفئة. الحوار مع جميل السيّد، الذي يصنّف نفسه رجل سورية في لبنان ورجل لبنان في سورية انطلاقاً، بنظره، من الواقع التاريخي والجغرافي، وهو الشعار الذي كان يستخدمه النظام السوري لتبرير وجوده في لبنان، هذا الحوار هو الأكثر اثارة في الحوارات الأربعة، مع أنه أشبه بحالة دفاعية عن النفس، حيال ما تداولت به وسائل الإعلام منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حماده، عبر تقديم علاقاته مع الآخرين في صورة تتأرجح بين الجيد والحسن وقد تتداخل فيها الخصومة لا العداوة. فهو سلفاً يبعد عن نفسه الاتهامات التي سيكون هدفاً لها، لأنّ الحملة في تجريم قتلة الرئيس الحريري انطلقت من العداوة التي كانت قائمة بينه وبين بعض السياسيين اللبنانيين وبعض القادة الأمنيين السوريين. والانطباع الأوحد الذي يخرج به القارئ هو هذا القدر الكبير من التقية المتماسكة وپ"الشوفينية"المتمسكنة التي تنضح بها شخصية رجل المخابرات الذي يحاول إقناعه بأن عمله في الأجهزة الأمنية كان تحريك الملائكة في لبنان. وكم هو طريف أن تسمع أن رجل الاستخبارات ينكب على دراسة الديانات السماوية للبحث في وحدة رسالتها. الفكرة المفصلية عند جميل السيّد، المتبني فكرة نظام"المستبد العادل"الذي كان شائعاً في أوروبا في القرن الثامن عشر، مع عصر الأنوار، هي فكرة يحبّذها ويعشقها العسكريون، وترى أن القرار 1559 غيّر الاستراتيجية التي كانت قائمة في لبنان منذ اتفاق الطائف، ما أدّى الى تبديل مناخ الأمن والاستقرار فيه ودفعه نحو الخطر والمجهول. وشرح السيد ذلك خطياً لملحقي الأمن في السفارات وللسفراء أنفسهم، وكأنّ هذه الاستراتيجية منزّلة، لا بديل لها، وكأن اللبنانيين صاغوها ديموقراطياً وبإجماع منهم عليها. وأبرزت تظاهرات الرافضين للوجود السوري قدر هذا الإجماع. ينتحل كلام السيد طابع المسكنة بحيث يصوّر نفسه موظفاً يحترم التراتيبة ويعرف حدود صلاحياته. وسبب قوته التناقضات بين الساسة اللبنانيين التي كانت تصب في مصلحته، وفي كونه جاهزاً دائماً للخسارة. وتوسّع دوره فأصبح شريكاً في الحكم لأنه ملأ الفراغ حيث كانت هناك ضرورة، ولأن صلاحيات الأمن العام تشمل السياسة والاقتصاد والأمن. وكان يؤخذ برأيه في تفاصيل معينة في تأليف الحكومة، وهذا من صلب عمل الأمن العام في نظره. ويرفض وصفه بالشخص القويّ في التركيبة السياسية، ويؤكد أنه لم يكن أقوى من الرئيس الحريري والرئيس نبيه بريّ. وهذا طبعاً غير صحيح لأن الضابط الصغير في أنظمة الاستخبارات أقوى من قائده العسكري اذا لم يكن منتمياً اليها. ولا أظن أن المديرين العامين السابقين للأمن العام مارسوا دور المشاركة في القرار بل دور الاستطلاع. ولا أظن أيضاً أن حلقة الإجراءات الأمنية، غير المعهودة في تاريخ الأمن العام، التي كانت مزعجة جدّاً في محيط المبنى الرئيس للإدارة، قرب المتحف، والتي كانت توازي الى حدّ ما، إجراءات أمن الرؤساء الثلاثة، كانت مطلوبة الى هذا الحدّ، لو لم يكن المدير العام، جميل السيّد، هو"الرجل القوي"في تركيبة النظام الأمني في لبنان. وكونه قويّاً"على الرغم منه"، كما يحاول تصوير ذلك، لا يعني أنه هو من خطط ونفذ عملية اغتيال الرئيس الحريري وسواه. وفي كل الأحوال، فهو أقرب الناس وأفضلهم موقعاً في تحليل المعلومات حول من أوصل البلاد الى ذلك. ومن يحسن تحليل النصوص يعرف أن لا مبرر، لكل هذه"اللاآت"التي يسوقها السيّد، سوى إبعاد شبح الاتهام عنه انطلاقاً مما كان يُردد في وسائل الإعلام. أما الطائف في نظره فشكّل جوائز ترضية لأطراف ثلاثة: أمراء الحرب المليشيويون وأمراء السياسة التقليديون وأمراء المال، ما عدا سمير جعجع الذي رفض الالتحاق بالدولة الا اذا ساوت حصته حصة الرئيس بري والوزير وليد جنبلاط. هذه بعض الأفكار الملخصة الواردة في أجوبة قادة الجهاز الأمني السابقين في لبنان. أسئلة حامية تفاوتت حماوة الردّ عليها تبعاً لقرب الحدث أو بعده من الشخص الذي يوجه السؤال اليه. ومن يريد الاطلاع على كل الأسئلة والأجوبة، فما عليه سوى مراجعة كتاب غسان شربل النابض بالأسرار والمتفاعل مع بعض المستور عن ذاكرة المخابرات. وفي شكل موجز تشكّل أجوبة القادة الأمنيين والضابط الطيار كشفاً لبعض حقائق التاريخ اللبناني المعاصر من وجهة نظرهم. وهذا الكشف يشكّل مهمازاً لمقارعة الوثائق بعضها ببعض ومقارنة الوقائع عبر الروايات المعاكسة، بحيث يتمكّن الباحثون من استخراج الحقيقة. وبذلك يكون غسان شربل قدّم للمؤرخين بخاصة والباحثين بعامة مادة دسمة في بحثهم عن الحقيقة، تلك الحقيقة التي كانت سوداء ومرّة في السنوات العشر الأخيرة من تاريخ لبنان.