"المواصفات السعودية" تنظم غدًا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    "تلال" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب الرياض" بتوقيع اتفاقيات إستراتيجية لتعزيز جودة الحياة في مشاريعها    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    اليوم..بدء الفصل الدراسي الثاني    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    أغرب القوانين اليابانية    الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    سعرها 48 مليون دولار.. امرأة تزين صدرها ب500 ماسة    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    عروض ترفيهية    المملكة تستعرض إنجازاتها لاستدامة وكفاءة الطاقة    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    منتخبنا فوق الجميع    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    ألوان الأرصفة ودلالاتها    ابنتي التي غيّبها الموت..    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية    وطنٌ ينهمر فينا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    الزفير يكشف سرطان الرئة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نايلة معوض تتذكر : كان رينيه معجباً بشهاب ونهجه وعلاقته مع حلو حذر متبادل
نشر في الحياة يوم 29 - 11 - 1993

* اجراءات الامن الصارمة لم تمنع اغتياله وثلاثة قتلوا عن ثلاثة
"ما هذا الجنون؟ نقتل الشخص ثم نجلس مع اخيه. نخطف الشخص ثم نجلس معه. ما هذا الجنون"؟ هكذا كان الرئيس الراحل رينيه معوض يتحدث عن الحرب ويستفظع اندفاع اللبنانيين فيها وتجاهلهم ان قدرهم هو ان يجلسوا في النهاية معاً. وحتى حين جرف منطق الحرب من كانوا يدعون الانتماء الى اهل المنطق ظل معوض معتصماً بذاك التعقل الذي لا يدركه الهذيان وبذاك الوفاء العميق لاسرار التركيبة اللبنانية.
كان معوض من تلك القلة التي تدرك كيمياء التعايش اللبناني وان هذه الشركة التي تأسست عام 1943 لا تقدر على احتمال المغامرات والمغامرين وسلوك الذين يتجاهلون صعوبات الولادة. وكتعبير عن احتجاجه على شطر العاصمة كان يستغل اي هدوء نسبي ليعبر خط التماس. لم يكن في استطاعته تحمل فكرة وجود منطقة لبنانية محظور عليه دخولها او متعذر.
ذات يوم حمل الوزير وليد جنبلاط بعنف على رينيه معوض الذي حزن بشدة. وحين حاول احد اصدقائه ان يقلل من اهمية الحادثة اجابه: "التصريح يعني انني لا استطيع الذهاب الى المختارة. لست رينيه معوض اذا كنت لا استطيع الذهاب الى اي نقطة في لبنان. هكذا تركيب عقلي وجسمي". وحين حاصر الاسرائيليون بيروت الغربية كان معوض ينهض باكراً ويعبئ سيارته خبزاً ويتوجه الى منازل اصدقائه في الشطر الغربي من العاصمة كالرئيس تقي الدين الصلح والسيد مالك سلام والنائب محمد يوسف بيضون. وحين حذره احدهم من مخاطر العبور قال بمرارة: "فلنفعل على الاقل هذا القليل الذي نستطيعه".
رئيس سيىء الحظ لبلاد سيئة الحظ. يقول احد الحكماء وهم باتوا قلة، وتفتقدهم البلاد التي تقوس ظهرها قبل الاحتفال بالذكرى الخمسين لاستقلالها. ويضيف: "حين انتخب رينيه معوض كان لبنان احوج ما يكون الى ممارسة بحجم تسوية تاريخية. تماماً كما حدث يوم الاستقلال وربما على قدر اكبر من الصعوبة. لم يحكم رينيه ليتاح لنا الحكم عليه. واستشهاده يجب الا يوقعنا في المبالغات وهو كان يكرهها. لكنه كان مؤهلاً لمحاولة النهوض بمسؤولية من هذا الحجم. كان يعرف لبنان، كل لبنان، بعائلاته ومخاوفه وحساسياته. وكان يعرف الدولة بنقاط قوتها وضعفها. وكان يدرك ان التركيبة اللبنانية تعاني الوهن والمرض وان انعاشها يحتاج الى اعادة ربط الشرايين وبلورة المساحات المشتركة".
ويتابع بواقعية صارمة: "لا احد يستطيع الجزم انه كان سينجح. فالمسألة أكثر تعقيداً من ان تحلها ارادة رئيس. لكننا كنا سنشهد بالتأكيد محاولة لتحصين الحل بما يشبه الاجماع الدائم. فرينيه كان قادراً على ايجاد شركاء وتشكيل فريق يطمئن، ويسترد رصيد فكرة الدولة. لا نريد ان نظلم احداً. البرنامج هو نفسه لكن طريقة التطبيق تنقذ النص نفسه احياناً من عثرات".
اجراءات صارمة
لم يكن معوض يجهل انه في دائرة الخطر. وهو قال ذلك لنجله ميشال عشية انتخابه. وسمع خلال الپ17 يوماً من جهات داخلية وخارجية نصائح تدعوه الى ممارسة اقصى درجات الحذر والاحتراز. لكنه استهول ألا تطل الدولة بأركانها يوم الاستقلال. استفظع ان تخاف الدولة الى حد التواري ونشدان السلامة فقط. وكان اليوم يوم الاستقلال ولم يدر في خلده انه يوم مفخخ وان اشلاءه ستتطاير في كل اتجاه تماماً كما تطايرت ضلوع الوطن.
لم يكن ثمة تساهل في اجراءات الامن. كانت المباني المحيطة بالمقر الموقت في الرملة البيضاء تحت الرقابة. ومداخل المبنى نفسه احيطت بسواتر ترابية وأوكلت مهمة امنها الى ايد امينة وفي الداخل اربعون من العناصر الموثوق بها. المفتاح الوحيد لسيارته الموجودة في الملجأ كان مع سائقه. وشخص واحد كان يدخل الأكل والماء واسمه سليم سعادة.
مكتبه في الطبقة السادسة ومنزله في السابعة. والتنسيق كامل مع الدرك والجيش والقوات السورية. اتخذت احتياطات كافية للحيلولة دون توجيه صاروخ الى مقره. وكان الهاجس احتمال تعرضه لمحاولة اغتيال عن طريق عبوة مزروعة تحت ارض غرفة او فوق السقف. ولهذا عشية توجهه الى القصر الحكومي في الصنائع كان هناك من يذهب لتفتيش القصر بدقة والنوم فيه. وعملية الانتقال بالطائرة الى الشمال كانت تخضع هي الاخرى لحسابات دقيقة. فمن انتظار وصول طائرة من الخارج وابلاغها فجأة بقرار استخدامها الى تجهيز طائرات عدة في آن، ووصولاً الى استخدام طائرة سورية خاصة في رحلة العودة. وأي تحرك في العاصمة كان يرافقه افراغ طريقين من السيارات ومواكب تمويه اضافة الى ما تفترضه الاجراءات الوقائية.
وحتى حين كان معوض يقرر التوجه مع سائقه وحده الى الشمال لاجراء لقاء بعيد عن اعين الاعلاميين والحشريين وموكب الحراسة، كانت سيارة ما تلحق به ولو عن بعد لضمان عدم حصول خطأ ما كتعطل اطار سيارته واضطراره الى التوقف.
الاستقلال ينفجر
كل هذه الاجراءات لم تستطع انقاذ الرئيس خلال رحلة عودته في يوم الاستقلال من القصر الحكومي في الصنائع الى المقر الموقت في الرملة البيضاء. فأثناء مرور الموكب في محلة الظريف انفجرت عبوة ادت الى استشهاده ووضعت خاتمة لجمهورية رينيه معوض.
بعد اربع سنوات لم يتوصل التحقيق الى اي نتيجة. واستناداً الى تقارير الخبراء، فان العبوة كانت مزروعة وراء حائط ولم يكن هناك اي جهاز مزروع في السيارة نفسها. ويقول الخبراء ان العبوة حشوة موجهة تقدر بپ200 كلغ من الپ"تي.ان.تي" ومواد اخرى فجرت الحائط وشطرت سيارة "المرسيدس 500" الرئاسية المصفحة الى قسمين ابتعد الواحد منهما عن الآخر 70 متراً بفعل ضغط الانفجار. ويعتقد هؤلاء بأن شخصاً ضغط زر التفجير من احد سطوح البنايات المطلة على المكان ويلاحظون ان العملية متطورة من الناحية التقنية فهي فنياً من اكبر حوادث الاغتيال في العالم.
ثلاثة بدلاً من ثلاثة
قتل مع الرئيس معوض في ذلك اليوم سبعة من آل معوض اضافة الى مرافقه العسكري العقيد جوزف رميا. وشاءت الصدف ان يقتل ثلاثة بدلاً من ثلاثة كان يفترض ان يكونوا في الموكب. ساعد معوض الشاب الشمالي رميا على دخول المدرسة الحربية فحلم الاخير بيوم يتولى فيه رينيه الرئاسة ويختاره مرافقاً له... وهذا ما حدث. وفي يوم الاستقلال طلب من رميا عدم مرافقة الرئيس لسبب انساني وهو ان والد المقدم وفيق شقير كان على فراش الموت وتمنى ان يرى ابنه على شاشة التلفزيون الى جانب الرئيس معوض. وشاء المحيطون بالرئيس تحقيق رغبته. وهكذا توجه شقير مع الرئيس الى القصر الحكومي، وعند الظهر شعر رميا بارتباك اذ لم يسبق له ان اشرف على مراسم استقبال سفراء. وفجأة توجه الى القصر الحكومي وحل محل شقير وطلب منه العودة الى المقر الموقت للاشراف على استقبال سفراء مدعوين الى الغداء كونه صاحب خبرة منذ ايام الرئيس السابق الياس سركيس.
وفي ذلك اليوم كان مقررا ان يقود سيارة معوض سائقه الرقيب رولاند موره لكن ما حصل هو ان شقيقه سايد موره هو الذي حضر وقاد السيارة وقتل. اما الثالث واسمه جوزف الباشا فلم يكن اسمه وارداً في جدول عناصر المرافقة لكنه شاء الذهاب وتبادل مع شخص كان اسمه مدرجاً وقتل بدلاً منه.
نايلة: كان معجباً بشهاب ونهجه
عن علاقة الرئيس معوض بالرئيس الراحل فؤاد شهاب تقول النائبة نايلة معوض مسترجعة مراحل من حياة الزوج - الرئيس: "لم تكن العلاقة بالتأكيد مجرد علاقة ظرفية بين سياسي ورئيس دولة. كانت ابعد من ذلك وأعمق. والشهابية نفسها لم تكن بالنسبة الى رينيه مجرد لقاء مع مجموعة او انتماء الى اكثرية آنذاك. كان يكن احتراماً عميقاً لشخص فؤاد شهاب وما تحلى به من نزاهة. وكان معجباً في الوقت نفسه بتعلق الرئيس شهاب بفكرة الدولة والمؤسسات. جاء شهاب بعد ثورة 1958، وما شهدناه خلال الحرب بدءاً من 1975 ربما اظهر ان تلك الثورة كانت شيئاً بسيطاً. لكنها كانت في الواقع اول هزة عميقة للجمهورية اللبنانية التي استقلت عام 1943. شعر شهاب بأن تثبيت الاستقلال لا يمكن ان يتم بالخطب واللقاءات الاستعراضية. احس بأهمية تلاقي اللبنانيين داخل مؤسسات متطورة تحفظ حق المواطن وحق الوطن وترسخ الولاء للوطن والاحترام للدولة ولمبدأ الحقوق والواجبات. وادرك ان الميثاق الوطني يحتاج الى تدعيم بميثاق سياسي اقتصادي اجتماعي يمكن ان تعبر عنه مؤسسات دولة حديثة ومتطورة.
أراد طمأنة المواطن وشدد على فكرة العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص. وأدرك اهمية تنمية المناطق وتوفير الخدمات وأهمية قيام ادارة ذات كفاءة. ولعل الاهم في كل ذلك انه ادخل فكرة التخطيط. ولا نبالغ اذا قلنا ان معظم المؤسسات الرئيسية ولد في تلك المرحلة. هذه العناوين كانت موضع اهتمام الرئيس معوض بعد وصوله الى سدة الرئاسة، وهو تأثر بلا شك بالارث الشهابي. كان مهتماً الى اقصى حد بانعاش المؤسسات لأنه كان يدرك دورها في توحيد اللبنانيين. وكان يولي اهتماماً خاصاً للجيش اللبناني ذلك ان لا دولة بلا جيش. وعلى مدى تجربته السياسية كان رينيه يكن حباً للجيش ويراهن على دوره. وخلال المدة الطويلة التي أمضاها على رأس لجنة المال النيابية لم يكن يبخل ابداً بما يعزز المؤسسة العسكرية. كان يعتقد بأن الدولة لا تصنع في العاصمة وحدها وان عليها الذهاب الى كل شبر في لبنان، اي عبر المدرسة والطريق والكهرباء وفرص العمل. ولم تكن المشاركة بالنسبة اليه مجرد بحث في حصص العائلات اللبنانية بل كان مهتماً بمشاركة المواطن العادي.
اللامركزية الادارية والانماء المتوازن
مرات عدة كان يفكر في حجم الطاقات اللبنانية في الداخل والخارج، وكان واثقاً من ان هذه الطاقات قادرة على بناء وطن ودولة، خصوصاً اذا توافرت قنوات المشاركة الديموقراطية والعلمية في صناعة المستقبل. طبعاً لم يكن الرئيس معوض يعتقد بأن المطلوب في التسعينات هو تطبيق الشهابية كما كانت قبل ثلاثة عقود. اعتقد بأنه كان مهتما بتطوير هذه الافكار المتعلقة بالدولة والمؤسسات. ومن بين المواضيع التي سارع الى الاهتمام بها موضوع اللامركزية الادارية، وطلب من الدكتور ابراهيم فضل الله، وهو من كبار رجال القانون وكان موجوداً في فرنسا، ان يعجل في العودة الى لبنان. وكان ينوي تشكيل فريق واسع من الخبراء ورجال القانون للاسراع في ترجمة فكرة اللامركزية الادارية والانماء المتوازن لأنه كان يعتقد بأنها تزيد وحدة اللبنانيين وليس العكس.
وكانت فكرة التخطيط اساسية بالنسبة الىه. كان واثقاً من ان الاموال العربية ستتولى اعادة اعمار لبنان. وكان يعتقد بأن هناك خمسة مليارات دولار مؤمنة. لكنه كان حريصاً على ان يكون لبنان جاهزاً، بمعنى ان تملك السلطة اللبنانية مشروعاً واقعياً ومبنياً على احصاءات وان تعرف كل قرش الى اين سيذهب وكيف. كان يفكر في ايجاد صيغة اخرى لمجلس الانماء والاعمار تساعده على تخطي الثقل الاداري. طبعاً لم يكن وارداً تحويل مجلس الانماء والاعمار الى دولة ضمن الدولة تعمل من دون رقابة وياللأسف.
اعتقد بأن الشهابيين اعطوا الاولوية لفكرة الدولة وان اسلوب عملهم تميز بالجدية. هذا ما لمسته من لقاءات كانت تعقد في منزلنا وكانت تضم رشيد كرامي والياس سركيس وفؤاد بطرس وفيليب تقلا وأحمد الحاج وغيرهم. لا اقصد تضخيم ما كان ولا اقول انه لم تكن هناك اخطاء لكنني اسجل انطباعي عما عايشته بعد 1965 وعما عاشه الرئيس معوض من قبل.
ترجع علاقة الرئيس معوض بالرئيس شهاب الى سنوات سبقت تولي شهاب الرئاسة. وحتى حين اضطر رينيه الى مغادرة لبنان الى اللاذقية اعتقد بأنهما بقيا على اتصال. وكان الرئيس شهاب يثق برينيه، فبعد 1958، اثر تشكيل حكومة اصطدمت بمعارضة قوية كلفه مهمة لدى الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وكلفه مهمات تمثيل اخرى.
كان اركان الفريق الشهابي يعرفون البلد بتركيبته وحساسياته وكانوا دعاة واقعية في الداخل والخارج. وكنت اشعر بأن لا حاجة احياناً الى الكلام ليكون التفاهم كاملاً بين رينيه والرئيس الراحل رشيد كرامي او بينه وبين الوزير فؤاد بطرس او الآخرين".
شمعون منعه من حضور جنازة جده
وعن العلاقة مع الرئيس شارل حلو تقول نايلة: "كانت علاقة رينيه معوض مع شارل حلو مختلفة مئة في المئة ونهائياً عن علاقته مع الرئيس شهاب. بين الرئيس معوض والرئيس شهاب كان ثمة اعجاب كامل من قبل الرئيس معوض بالشخص وثقة كبيرة به ومعزة كبيرة ايضاً. في العامين 1957 و1958، اي خلال ما يمكن تسميته المنفى بالنسبة الى رينيه، اعتقد بأن العلاقة بقيت قوية مع الرئيس فؤاد شهاب عبر العميد انطون سعد رئيس المكتب الثاني. انتخب الرئيس معوض نائباً في 1957 مع حميد فرنجية وبعد حادثة مزيارة، وكانت العلاقات عاطلة مع الرئيس شمعون ما ادى الى تدخل الاخير لدى القضاة وكان ذلك قبل الانتخابات وتعرض رينيه لضغوط. مزيارة كانت قبل الانتخابات بنحو شهر. صدرت مذكرة بتوقيف رينيه واعتقلوا كل الرجال في العائلة ما دفع النساء الى تولي مسؤولية الانتخابات. ذهب الدرك يومها الى منزله واتلفوا الاثاث وخربوا المحتويات واللوحات. يومها لجأ رينيه الى المينا لدى اناس من اصدقائه. وكان حراسه خلال تجوله هناك من الشيوعيين ولكن من دون قرار من الحزب الشيوعي بل بفعل الصداقة التي كانت تربطه بالمسؤولين في المينا وبينهم جميل عصافيري وآخرون. يومها سبقه الرئيس سليمان فرنجية الى اللاذقية في سورية، وحين اتخذ الرئيس معوض قراره النهائي بترك الأراضي اللبنانية مر في سيارة فولكسفاغن وكانت هناك دائماً سيارة امامه من انصاره لكشف الطريق. في محلة المعاملتين مرت السيارة الأولى وفجأة اوقف رجال الدرك السيارة التي تقله وطلبوا اوراقها. كان مطلوباً والسلطة تبحث عنه. اعطى السائق اسماً آخر لكن الضابط تقدم من السيارة وقال له: "انا بخص صبري حمادة الرئيس الراحل لمجلس النواب انا عرفتك والله معك رينيه بك".
كان الرئيس معوض شديد التعلق بجده ميشال معوض الذي كان موجوداً في البيت حين جاء الدرك وكسروه. لم يقل شيئاً ولم يعلق. توفي جده اثناء وجوده في اللاذقية. يومها طلب قائد الجيش اللواء شهاب وأنطوان سعد من الرئيس كميل شمعون السماح له بحضور جنازة جده الذي رباه لكن الرئيس شمعون رفض. استمرت العلاقة مع شمعون سيئة حتى منتصف الستينات حين توليت انا مصالحتهما خلال زيارة باخرة فرنسية لبيروت. سلمت خلال الزيارة على الرئيس شمعون، وهو صديق لأهلي، وتصافحا.
حذر متبادل مع شارل حلو
عندما انتخب الرئيس شارل حلو جاء في اطار تسوية بسبب عدم رغبة فؤاد شهاب في تجديد ولايته. وأنا اعتقد بأنه لم يذهب في المعركة الى نهايتها. الشهابيون كانوا يريدون شخصاً يكمل العمل الشهابي اي عمل المؤسسات ويكرسها. وكان رأيهم ان الرئيس حلو يتحلى بمستوى ثقافي وعلمي. المواصفات المطلوبة كانت تنطبق على اثنين هما شارل حلو وفؤاد عمون. ويقال ان فيليب تقلا وفؤاد بطرس وزيران سابقان للخارجية رجحا كفة حلو.
حين تزوجنا في شباط فبراير 1965 كانت هناك صداقة قوية بين اهلي وبيت الرئيس حلو. كانت العلاقة بين رينيه وشارل حلو ودية في المظاهر، ولكن في الحقيقة كان هناك حذر متبادل. واطلقت نكات حول هذه المسألة وكانت تعبر عن حقيقة العلاقة. كان الرئيس حلو كلما التقاني يقول لي "انت القديسة نايلة"، ويقصد انني استحق هذه الصفة لأنني تحملت الرئيس معوض. وحين كان الرئيس حلو يدعونا الى القصر الجمهوري في اطار مناسبات ويلاحظ ان الرئيس معوض يتحدث الى احد كان يسارع الى القول "عميتآمروا ضدي". صحيح ان الكلام كان في اطار المزاح لكنه مزاح يحمل بعض المعاني.
والواقع انه لم تكن هناك مؤامرة بل كان هناك حذر متبادل. كان الرئيس معوض يمتلك حاسة شم سياسي مميزة. وصادف مثلاً انه شعر بأن الرئيس حلو يحاول ان يمرر في مجلس النواب شيئاً ضد قناعته وقناعة رفاقه في شأن البلد. وتوجت هذه المسألة بموضوع "الحلف الثلاثي" ضم كميل شمعون وبيار الجميل وريمون اده وأنا اعتبره اول الحرب اللبنانية. تشكيل الحلف نفسه كان يشكل اخلالاً بالتوازن التقليدي في لبنان خصوصاً انه جاء في الظروف التي اعقبت حرب 1967 وظهور المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان وغياب القرار اللبناني الموحد حيال المقاومة.
ملاحظات على الاسلوب الملتبس
لم يكن الرئيس معوض مرتاحاً ابداً الى "اتفاق القاهرة" في 1969 بين الحكومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية والغي في الثمانينات ولكن لماذا لم يقل "لا" في مجلس النواب هو وغيره من زملائه؟ بقدر ما اذكر اعطاهم الرئيس حلو تطمينات تبين لاحقاً انها ليست اكيدة. اعتبر حلو انها الطريقة الوحيدة لتنظيم الوجود الفلسطيني وقدم اتفاق القاهرة الى النواب خلافاً لحقيقته. وكان الاتفاق حرقة في قلب الرئيس معوض. وربما تكرر الامر مع الطريقة التي قدم بها الى المجلس النيابي في الثمانينات اتفاق 17 ايار اللبناني - الاسرائيلي.
كان الرئيس معوض يأخذ على الرئيس حلو اسلوبه الملتبس في نقل الوقائع والمواقف. كان رينيه قليل الكلام، وهذا معروف عنه، لكن كلمته كانت كلمة، أي نعم نعم أو لا لا، وأعتقد بأن كل الذين تعاملوا معه خلال حياته السياسية يؤكدون ذلك. وحين بدأ يمارس مهماته كنائب اشمأزت الناس منه لأنه لا يتبع اسلوب الوعود. لا بل كان يقوم بخدمات كبيرة ويقول للشخص مشي الحال. حين تزوجنا كان نائباً منذ ثماني سنوات ومضى 12 عاماً على بدء عمله السياسي. اراه عمل ثلاثة او اربعة ايام على موضوع ثم يأتي الشخص المعني فيكتفي بأن يقول له مشي الحال.
كنت انرفز وأقول له لماذا لا تشرح للشخص الصعوبات التي عولجت فيرد: "انا من واجبي ان اخدم الناس ولا منة في ذلك". هذا كان اسلوبه. كثيرون اعتقدوا بأن الرئيس معوض لا يتخذ موقفاً لأنه مقل في الكلام، وهذا غير صحيح. كانت مواقفه صلبة جداً لكنه كان يعبر عنها بطريقة مرنة. وكان يحرص على الاستماع طويلاً قبل اتخاذ موقف. لم يساوم في حياته على موقف ولم يقل الا ما يعتبره الحقيقة. كان يمكن ألا يحكي لكنه اذا حكى يقول حقيقة موقفه. طبعاً حين نتحدث عن الرئيس حلو لا بد من ان نتذكر انه تولى الرئاسة في مرحلة صعبة. على الصعيد السياسي كانت هناك هزيمة 1967 وانعكاساتها وقد دفعنا الثمن غالياً في لبنان، وظهور المقاومة الفلسطينية وانقسام اللبنانيين حول الموضوع. وعلى الصعيد الاقتصادي واجه صعوبات كبيرة ابرزها ازمة انترا التي تحتاج الى ملف خاص بها لكشف تشعباتها ومن كان وراءها. لا شك في ان يوسف بيدس ارتكب بعض التجاوزات لكنني اعتبر ان موضوع انترا كان اول ضربة للاقتصاد اللبناني.
لم يكن حلو مستنداً الى قاعدة شعبية قوية وربما لم يكن يعتبر ان مخابرات الجيش اللبناني بين يديه مئة في المئة ولهذا السبب كان يرمي الكرة عند الغير ويحملهم المسؤولية. وهذا الامر كان يضايق الاوساط الشهابية. هناك فريق من اللبنانيين يقول ان الشهابيين لم يسمحوا للرئيس حلو بالعمل. انا اعتقد بأنه كان يفترض في الرئيس حلو ان ينسق اكثر، ويمكن ايضاً لأسباب بشرية ان الموجود في الحكم يريد ان يمارس استقلاله فحدث عدم التنسيق بين الشهابيين والرئيس حلو.
هل كانت لدى الرئيس معوض شكوك في شهابية شارل حلو؟
- الرئيس حلو لم يكن شهابياً اصيلاً، كان من مدرسة المفكر الكبير ميشال شيحا الذي لا ازال اضع كتبه قرب سريري. الرئيس حلو كان فكرياً ابن ميشال شيحا. شيحا مفكر وفيلسوف. قد يكون الرئيس حلو افتقر على الارض الى الواقعية والتفاصيل. اذا اراد المرء ان يصف الرئيس حلو يمكنه القول انه محلل جيد ولكن من دون التوصل دائماً الى الخلاصة الواضحة المناسبة، فضلاً عن غياب المبادرة في الوقت نفسه، ولا يمكن ان ينكر على الرئيس حلو الذكاء والثقافة لكنه جاء في ايام كانت تستلزم قرارات صارمة وربما لم يكن من انصار هذا الاسلوب.
كيف كانت علاقة رينيه معوض مع كمال جنبلاط؟
- معروف ان علاقة كمال جنبلاط مع الشهابيين تميزت بالصعود والهبوط. وفي غالب الاحيان كانت المصالحات تعقد في منزلنا بينها مصالحة بين كمال جنبلاط ورشيد كرامي ومرة اخرى بين جنبلاط والفريق الشهابي. وكان للنائب المرحوم الشيخ بهيج تقي الدين دور ايجابي في هذه الجهود.
عندما اتذكر تلك المرحلة اقول في نفسي كم تغيرت الاشياء. سأروي لك حادثة ذات دلالات. في 1975 - 1976 كانت هناك معارك في زغرتا، وكنت هناك وكان الرئيس معوض في بيروت. ذات ليلة جاء النائب المرحوم طوني فرنجية وقال لي علينا ان نتنبه فقد تحدث الليلة معارك قاسية. هذا في العاشرة ليلاً. ثم عاد واتصل بي منتصف الليل وشدد على ضرورة الانتباه والحذر. وفي الحقيقة في السادسة صباحاً حصل هجوم كبير على قرية رشعين قرب زغرتا وحدثت معركة قاسية.
في النهار التقيت طوني فرنجية وقلت له كان شعورك في محله فقال: "زوجك اتصل بي على اللاسلكي وقال لي تنبهوا وكررها مرات عدة. وعاد واتصل بي ثانية عند الثانية عشرة. ولأني اعرف ان رينيه بك لا يهتم بالجانب العسكري عادة ويكرهه، لذلك اخذت تحذيره بأقصى جدية". وعندما جاء الرئيس معوض في اليوم التالي قال: "ان صديقاً اتصل بي من بيروت الغربية وقال لي انتبهوا عميتحضر هجوم على زغرتا". ورفض كشف اسم الصديق... ولكن بعد وفاة الشيخ بهيج تقي الدين كشف انه الشخص المذكور وقال: "الآن صار في دنيا الحق ويجب ان تسجل له مشاعره الوطنية".
على رغم قساوة الظروف كانت هناك علاقات حقيقية بين الناس واحترام للأصول، وكانت القيم الوطنية حاضرة على رغم الضغوط، وكان هناك شعور بالمسؤولية. في تلك الايام كان الشيخ بهيج سياسياً وعسكرياً في فريق آخر، لكنه اعتبر ان الهجوم على زغرتا لا يخدم المصلحة الوطنية، وربما اعتبر ان التنبيه يمكن ان يحد من الخسائر والانعكاسات السلبية.
ويمكنني ان اقول ان الصداقة التي كانت قائمة بين رينيه والرئيس رشيد كرامي في الشمال منعت اتساع المعارك واستمرارها. لم يكن العنف يهز الثوابت الوطنية لدى القيادات. ساهمت تلك العلاقة في ابقاء لبنان نموذجاً للعيش المشترك.
اعجاب بكمال جنبلاط
كان رينيه معجباً بكمال جنبلاط الذي كان يكن له في المقابل مشاعر صداقة وحب. ذات مرة امضيا جلستين في مجلس النواب في جدال في العام 1969 حول حادثة الكحالة. كان سوء التفاهم شريفاً وكان التعامل شريفاً. وربما هذا ما ينقصنا اليوم في لبنان. هناك نقص في الحوار وفي المبادرات الشخصية لجمع الناس. المعرفة المتبادلة شرط لنجاح الحوار. وهناك المعرفة بالتركيبة اللبنانية وبخصائص العائلات الروحية المكونة للبنان، وهذه المعرفة ضرورية لبلورة ما يجمع بين اللبنانيين. بعد سبعة عشر عاماً من الحرب هناك نقص في معرفة الآخر. كثيرون في مواقع المسؤولية او القيادة لا يعرفون تجربة لبنان السابقة وجوهر القيم التي ارتكزت عليها مسيرة التعايش في لبنان وكذلك النقاط الحساسة".
الحلقة المقبلة:
معوض وسركيس في ملجأ القصر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.